و كأننا على غير كوكب الأرض

الزمان انفو ـ نفاق و استكبار، كذب و مجاملة، كبر و أدعائية، احتيال و ظلم، تزوير و غش، تهور و جبن، هي صفات مستنكرة مقبولة في ثنائية تعجز عن فهمها العقول و تحار فيها الأذهان، مختلطة بالواقع المعيش كأنها أحد أركان قيامه و أسباب استمراره. و أنا أشاهد عنصرا بالصوت و الصورة عن مسار الحركة العلمية و الأدبية و الفنية و الاقتصادية في المغرب المجاور إذا بي أمام “طفرة” من التطور المتلاحق و الإبداع العارم بأبهى تجلياته، و من الإنتاج الغزير في كل دروب المعرفة، و بدفق سيل عرم من الأدب و فيض طافح من الفن.. حراك بكل الاتجاهات و أسماء لا قبائل لها و لا أنساب و لا جهات و لا انتماءات فرعية لأن جميعها تنتمي إلى وحده “المغرب” لا غير. عشرات المؤلفين و أضعاف أعدادهم من الكتب تشترك في كل معارض الدنيا، تنال الاستحسان و تحصد الجوائز الكبرى.. عشرات الأفلام العالمية و متنوع من المهرجانات الإقليمية، وطنية و دولية.. حيوية ثقافية لا تُنكر إبداعا و لا تُقصي فاعلا.. مستوى فكري تجاوز حدود البلد إلى آفاق و مسارح و مدرجات و منصات الثقافات العالمية و البحثية.. فجأة انقطع التيار الكهربائي.. انقطاع أعادني قبل عودته بساعتين إلى الواقع المظلم الذي يتخبط فيه بلد “المليونيات” على “خواء الادعائية” المفرطة و ضعف العطاء الفكري و الثقافي.. لولا أن يُفند مفندٌ الواقعَ الجاثم.. بدأت أفتش عبثا عن شريط وثائقي وطني أو حتى من إنتاج خارجي يعيد إلي – من خلال محتوى، من أي مستوى كان، يلتمس فقط لواقع الضعف المرير عذرا بإرادة العطاء لتجاوزه – بعضا من ثقتي المخدوشة و يخفف من “انهياري” النفسي أمام اتساع المسافة الفاصلة بين البلد و بين عالم الحداثة من حولنا. و بالطبع لم أجد إلا قليل إنتاج هزيل من غثاء “التغني” المترهل بـ”أمجاد” موغلة في القدم أصحابها “أمة” قد خلت و لها ما كسبت. أفقت من هول الصدمة على ضمير نائم صاح يخاطبني: أرأيت؟ عالم من حولنا يكسر قيود الماضي لتسمو شعوبه بالمساواة أمام العطاء العلمي و الفكري و الثقافي و الإبداع الفني، و ترتفع بلدانها إلى أعالي المجد، فيما يظل أهل البلد يدسون رؤوسهم كالنعامة في تراب “الرياء” و “الكبر” و “الادعاء” و كل ما يشاكل أمراض القلوب، و يحتالون على كل حق أبلج بمساحيق “الكذب” و “المجاملة” و “التملق” “الاستهتار”.   عار 56 عاما من الاستقلال صرف صحي سطحي بهندسة و تخطيط و تنفيذ صيني في غياب صارخ، مخجل و مريب للعقل الهندسي الوطني رغم مرور ستة و ستين عاما من صرف الأموال الطائلة على البعثات التعليمية إلى كل قارات العالم، في عديد الجامعات و الكليات و المعاهد و المدارس الفنية و العلمية لشتى أنواع التخصصات و الحرف و المهن.. إنه ضرب الحائط بالعلم المحصل و خيار الكسل و التبلد و السعي ـ على خلفية عقلية بالية بائسة عصية على التغيير و خطيرة ـ إلى الوظائف المريحة، الوثيرة، السهلة، العالية المردود المادي و المنفتحة على نوافذ النهب و الاختلاس و الفساد و الراحة و لو بترك مصير البلد لغير أهله. الميناء و المركب الاولمبي و قصر المؤتمرات و شبكات المياه و الكهرباء و الطرق و غيرها بأيدي و هندسة الصينيين و غيرهم، فيما اليد العاملة الفنية المنفذة من الدرجة الثانية تأتي من دول الجوار.. يا للعار!     جحافل التجديف في بحر المقاومة  

تكاثرت على المقاومة الوطنية، التي هي “الجهاد” في الأصل و المبتغى، جحافلُ التجديف على غير هدى في بحر روايتها اللجي حتى ضلت السبيل عن بر الأمان و مرفأ الائتمان و حتى سامها كل مفلس لتصبح أشبه بكبش فداء “قيام الوطن المشتهى” ـ على أركان الجمهورية السوية ـ محشورة بين خناجر باعة التاريخ المفلسين و المُزيفِين للوقائع و المسوقين منطق القبلية و الجهوية في تهافت التهافت على المشترين بعملة الماضي الإقطاعي، تترنح في ربقتها بين غياب الكتابة الرصينة من لدن المختصين ـ إن كان لهم من وجود و شجاعة التجرد ـ و بين رد اعتبار يكون محل إجماع و مصدر اعتزاز؛ كتابة تتأتى مع صدق تجرد يستقي قوته من الإحساس، العارم في نقاوة حب الوطن، بشرف الإرث المشترك بين كل أهل البلد، المتخطي كل الاعتبارات الضيقة المتجاوزة، و المُضفي على الجميع حلة الكرامة الوطنية القشيبة؛ مقاومة شريفة لا شرقية و لا غربية، و لا وسطية دون الأطراف؛ مقاومة لا تفصيل غرضيا فيها، بل شاملة الأوجه و الأساليب، متشابهة الوقائع الشجاعة الصادقة و المقاصد النبيلة؛ مقاومة لا ثقافية دون المسلحة و لا العكس لتفضيل جُفاء و ترتيب خَواء؛ مقاومة لا نفعية أو ربحية و لا تزلفا أو تضليلا.

 

و كأننا على غير كوكب الأرض

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى