حوار مع الأديبة التونسية فوزية العلوي

الزمان انفو – إن جاز لنا القول بأنّ الشعر يحضنه المحيط فكفى بجبل الشعانبي وجبل السلوم وجبل السمامة محاضن.. وإن جاز لنا القول إنّ الأدب مأساة أو لا يكون فكفى بمدينة الشهداءوالفقراء مأساة.. ليس ثمّة ما يدفعنا للاجتهاد في تقديم سنبلة القصرين ، خاصّة وأنّ السنبلة عادة ما تجمع بين الأصالة والعطاء .. فكيف بها وهي سنبلة نبتت في بلد معطّش… هي هذه الأديبة القاصّة والشاعرة فوزية العلوي تحلّ ضيفة علينا وقد سبقها إلينا إنتاجها الذي لا يُقال إنّما يُعاش..
*الحوارنت : أستاذة فوزية اسمحي لنا أولا بالحديث عن أسباب تواجدك في مملكة الحرف والكلمة.. هل هي الموهبة، الصدفة، الأسرة والمحيط.. من زجّ بك في عالم الأدب ومتاعبه اللذيذة؟

الأستاذة فوزية العلوي: كثيرا ما سئلت مثل هذا السؤال، وكنت كلّ مرة أوغل في صمتي لأستجمع شتاتي وأبحث في تفاصيل الماضي عمّا إذا كنت اخترت الكتابة أم هي التي اختارتني؟

الكتابة في تعريفي قدر… كالموت أو كالحبّ، ليس لك إذا أصابك شهابها أن تفلت منها، بل لا بدّ من أن توطّن نفسك لتعيش أحوالها، ألمها ولذتها، توهجها وذبولها، إقبالها عليك وإحجامها عنك…، ولكنّها مطلقا، لا تكون اختيارا واعيا نذهب إليه… وإذا رمنا تحرّرا منه تيسّر لنا ذلك. ففي هذا السياق ليس لنا طرح احتمال أن لا نأتي الكتابة إذا أردنا، أو أنّه بإمكاننا الانصراف عنها إذا شئنا…. قد يكون هذا الكلام من قبيل الإنشاء الذي لا يقبله إلاّ الفنانون والشعراء، ولكنّه عندي حقيقة لا مراء فيها، فليس لي مطلقا أن أتحرّر من ربقة الكلمة وليس لي أن أكون إلا كاتبة ولو حاولت الإباق.. هي وجد يتلبّس بك، يسكن روحك يخالط نفسك وبنيتك الذهنية بحيث تصبح كل الأشياء وكل الذوات قابلة لأن تكون موضوعات إبداعية…

لكنّ لا بدّ من الإشارة إلى وجود عوامل تهيّئك لتكون كاتبا، كأنّ روحك تربة طمرت فيها حبّة من جنون وظلت تنتظر قطرا حتى إذا انهمر عليها اهتزّت وربت وآتت أكلها الجميل….

وأنا اختارتني الكتابة لعدة عوامل مجتمعة،

أوّلها أنني كنت مستعدّة بالطّبع والفطرة لذلك، وكنت مهيّئة لأكون من حملة القلم على نحو من الأنحاء، وهذا مالا يمكن إخضاعه بالضرورة إلى تعليلات وتفاسير عقلانية ، فليس لك أن تفسّر بالضرورة لماذا يكون الأخ موهوبا في الرسم وليس ثمة في محيطه من يمارس ذلك؟ أو لماذا يكون بارعا في الحساب ومقبلا عليه في حين أن إخوته لا يتقتون ذلك. لكن هذا الطبع لابدّ له من حدب أو توفر مناخ حتى يمر من الكمون إلى التجلّي. ويمكن القول إن استعدادي الفطري للكتابة، وجد من يحدب عليه ويرعاه، وإن كان الأمر تمّ بطريقة تلقائية، فقد كان من حسن حظي أني نشأت في بيت قرآن، بمعنى أنّ أبي رحمه الله كان مؤدّب البلدة، وكان يدرّس بين خلوته في الجامع القريب من بيتنا وغرفة أخرى له في الحوش، فكنت من حداثة سني أقضي السّاعات الطّوال وأنا بين كتابة القرآن وحفظه، بل كان أبي يدعونا إلى الدرس في الليل فنجلس إليه وهو يجيب عن بعض الأسئلة في الفقه والفتاوى، وكانت الأوراد وأناشيد المولد النبوي وليلة القدر مما ساهم في صقل موهبتي وتعليمي العربية على أسسها السليمة والبليغة، وجعلني أتشرّب هذا الإيقاع اللغوي الباهر والذي أسهم ولا شك في جعلي أشغف بالشعر بعد ذلك وأتخذه وسيلة للتعاطي مع ذاتي ومع الوجود من حولي وفيّ.

أما العامل الثاني فهو ولعي بحكم هذه النشأة، بالقراءة على وجه الإطلاق ومن حسن الحظ أيضا أن بيتنا كان على مقربة من المكتبة العمومية، التي لم تكن آنذاك أكثر من دكّان رصّفت فيه بعض الكتب وقد غامت ملامح المكان وانأ أتذكّره الآن ، وبالكاد أذكر أن القيم على المكتبة آنذاك كان رجلا أصهبا رمادي المئزر، وإني أدعو له الآن إن كان حيا بالسلامة وإن قضى بالرحمة لأنه كان بنا رفيقا ولم يكن يمنعنا من أخذ الكتب إلى بيوتنا دون ضمان، وكنّا صغار الحي المولعين بالقراءة، نقضي قيلولات القصرين القائظة في القراءة، فلا بحر لنصطاف ولا مال لنحدّث أنفسنا بالترف.

هذا دون أن أنسى أمي الحبيبة ، حفظها الله، تلك التي كانت شهرزاد طفولتنا، فقد كانت تتحفنا بحاكاياها الجميلة ونقضّي الليل العليل في حوشنا تحت النجوم نستمع إليها وهي تروي لنا: حبّ القدر، وشمس بين حيطين، وعلي ولد السلطان، وسبعة صبايا في قصبايا….. وودعة متلّفت إخوتها السبعة.

زيادة عمّا يمكن أن نضيفه عن الحيّ وصخبه وألوانه وروائحه المختلفة وتركيبته البشرية المتباينة.. فقد كان زقاقنا الضيق حجما، الفسيح روحا يسع سكّانا من كل مكان، بل إن لنا أجوارا من الجزائر والمغرب، والأطرف أن جارا لنا كان إسبانيا اسمه فيغو عرفت بعد ما كبرت ودرست أنه كان هاربا من جحيم الدكتاتور الجنرال فرانكو.

وثمة عوامل عديدة أخرى تتشابك وتتداخل فيها الذاتي والموضوعي وفيها النفسي والثقافي…. تجتمع كلها لتنحت على قلب إنسان” هذا لا يكون إلا كاتبا”.

*الحوارنت : لنستجمع إبداع الأديبة ونستنجد بحسّ المربية ونطلب منك مجامع الكلم في لحظات فاصلة.. نحن الآن نشرف على عشيّة الرابع عشر من جانفي والفضائيات تتناقل خبر فرار المخلوع والطائرة عائمة في ملكوت الله تبحث لها عن مكان يأويها يكاد ينفذ وقودها ولا تجده، فأي الكلمات يمكنها أن توفي هذا المشهد حقه؟

الأستاذة فوزية العلوي: أنا كنت دائما أسعى إلى أن أكون أنا في الكتابة، كما كنت أنا في الحياة، وأحمد الله على ذلك لأن أبي ربّانا على قيم الحق والعدل والخير،فلم أكن لأتهافت أو أسقط أو لأوظف القلم في غير ما كنت به مؤمنة وإليه طامحة، رغم الضغوط التي تعرّضنا إليها جميعا ومحاولات الحصار بسبل شتى… لذلك أنا كتبت أشعارا جريئة قبل الثورة ولم أكن انتظر الثورة لأصبح على حين غفلة ثورجية، فتاريخي معروف والحمد لله ومواقفي النقابية والسياسية لا غبار عليها …

لكن ما حدث في تونس كان عظيما وما حدث في القصرين كان أعظم، دون سقوط في الجهوية أو القبلية فنحن نطمح إلى ما أبعد من ذلك وأعمق. عندما سقط شهيدنا الأول صلاح الدين الدشراوي رحمه الله، ليلة السبت 8 جانفي ولحقه الشهيد الثاني، لم تنم القصرين ليلتها… بل دخلت في زمن آخر وتحررت النفوس من عقال كان يأسرها، ولم تكن الأرض لتسعنا فكنا نجري في كل مكان وكان الشباب يحرقون ما طالته أيديهم من أوكار السلطة الفاسدة… وعندما أشرقت الشمس في اليوم الموالي مجلببة بالرماد والدم، خرجت موجوعة استطلع الأمر فكانت جدران المدينة تنز شعارات سوداء وحمراء : يسقط بن علي ” ،” خبز وماء والتجمع لا” ،”هنا سقطوا …هنا اشتعلت الثورة” كتب هذا وأكثر منه…. وقتها عرفت أن عهد السفاح ولّى و انتهى وأننا مقبلون على عصر جديد.

كتبت قصيدة الجلاد….. وهي عبارة عن قراءة في سارية أثرية خيالية تحمل رموز سيد إقطاعي وهو يقف على رؤوس أقنانه. وما كنت أقصد وقتها إلا بن علي وهو يستعبد شعبه ويحاول طمسه ولكن السحر انقلب على الساحر وكانت إرادة الشعب أقوى من عصا الجلاّد.

الجلاد …..شهادة في ذاكرة الحجر
موثوقة الرّوح إلى سارية قديمة

أستعيد في هجعة اللّيل

تاريخها الحجريّ

أتحسّس انحفار الوقت

في جسدها البارد

تصطدم يدي بنتوءاتها

هذي حروف لست أقرؤها،

خرساء من أصفاد ها

وذا صوت أطيار وقفت على شجر

ورنت إلى أفق تعذر أن يطير

كانت تقبّل غيمه

وتمسّ ماء الزرع في ملكوته

لو أنّ هذا السيّد المزرقّ

لم يعتل أغصانها

ولم يهشّم وردها بعصاته

ولم يشر لعصابة الأقنانْ

أن يأخذوا الألوان من كلّ زنبقة

كي يزرعوا في الأرض من دمهم،

ويؤرّخوا لزوالهم

أو يكتبوا سير الذين تغطرسوا

من أوّل العهد القديمْ:

……….

يا أيّها الحجر الذي

لم يرض يوما

أن يقلب التاريخْ

أو ينصت إلى

مكر الملوكْ

ياأيها القاسي نعمْ

ومفجّر الماء الذي شاء الاله

أن تشتهي قطراته

هذي الحقول،

هلاّ همست بما ألمت

أو فلتكنْ أقسى من الجبروتْ،

هلاّ جهرت بظلمهم

وبمن رموْا من ملحهم في عين هذي

الشمس

هلاّ عددت على الأصابع

أو فوق جدران المعاقلْ

كم من قرنفلة سبوْا

كم من سنابل أحرقوا في حلمها

كم من مواويل محوا

في قلب من كان على بال البلاد

ولم يزر جنّاتها؟

كم من عيون شرّدوا

كم من جفون أجبروا أهدابها

أن تستقيل…

كم من شتاء أجهضوا كم من ربيعْ

كم من سحاب أوثقوا

“سيري يتها الغمامه

فخراجك أبدا إليْ”

وإلى طفلي الذي علّمته

أن يسرق الأطفال من أحلامهم

وإلى، ماملكت يدي من تبر هذي الأرض

من بحرها من حبرها من قمحها من حرثها من سهلها من تلّها من بردها من قيظها من نفحها من لفحها من موتها من بعثها من شرقها من غربها من صمتها من جهرها من نومها من صحوها …

ملك أنا في كل شيء

وكل شيء أملكه

وأنا، معلّم التاريخ وأنا البلاد

وأنا جلاّدها

فلتنصتوا أبدا إليْ…

يا أيها الجلاّد …

يا أيّها المتجندل في غيّه الأبدي

يا مبصر الظلماء

ومبدّدا في الفجر،

منبعه السّنيْ

يا أيّها المخلوع من صفحاتنا

كشتيمة تأبى العيون حروفها

وملوّثا بالقهر أمطار الحقول

يا مفزعا حلُم الصّغار

ومربكا ميقاتنا

وموقّعا بالخوف ميعاد الفصول

ها قد رمتك قلوبنا بشرارها

ورمتك بالأحجار أمطار السيولْ

فارحل مشيّعا بصراخنا وصهيلنا

وعويل الاف الثّكالى

وارحل ملوّثا بدماء من أعدمت

من ورد الحقول

ارحل سيبصقك التاريخ،

كمرارة في الحلق يعسر بلعها

وذبابة حطّت على وجه الخطا

ارحل ستلعنك البلاد بأهلها

ويكشّر الغيم بوجهك إمّا مررت

ويصيح أطفال البلاد إذا ظهرت

هذا الذي طمس النجوم

ورمى الرّماد على البلاد

هذا الذي سرق الضياء

وتلوّثت كل المياه بسمّه

هذا الذي كان يسمّي نفسه

سلطاننا

لكنّه في دفتر التاريخ جلاّد البلادْ
وقد كتبت عدة قصائد عن الشهداء الأبرار، وعن محمد البوعزيزي لكونه صار رمزا ، مع الملاحظ أن مثل هذه القصائد لم تكن نهجا جديدا أتى مع الثورة، بل لقد كنت وفية في شعري لقناعاتي ومبادئي فكنت دائما ضد القمع والقهر والظلم وكنت ذلك بكثير لأنني كنت وفية لشعري لما هو وطني حق وعروبي وإنساني. وقد نشرت قصيدة عنوانها ” ماتوا وما ماتوا” وهي مهداة إلى كل الذين هُجّروا ظلما وعدوانا نتيجة أفكارهم وقناعاتهم ومنهم من قضى بعيدا عن التراب الذي أحبّه والذي ودّ لو ثوى فيه. كما كتبت قصائد أخرى عن الظلم والاستبداد مثل قصيدة “كلاب”

كانوا هنا

يتآمرون على وِرْدي

ويصادرون الغيم في الفلواتْ

كانوا إذاضمّتْ يدٌ أخرى

شتاتْ

كانوا غبارا حارقا

كانوا نخيلا

كفر التّراب بطلْعه

كانوا مواتْ

كانوا إذا

عُدّت مياه الأرض في الأحقابْ

كدَرًا لاخلْق يطْلع من نسْله …

كانوا إذا

طارت نسور في الأعالي

ريش الغراب ….

كانت عيونُهم حبْلى بلا نسب

وكلامُهم

يهمي على أذقانهم كذبا

كان الزّمان إذا عدّوا أصابعهمْ

آنًا

تنصّل من تاريخه

كانوا إذا

جاءت وحوش الغاب تولم

عرسها

ذكرى كلابْ

*الحوارنت : هل توقعت الأستاذة حدوث الثورة وفي هذا التوقيت؟.. ثم هل توقعت هكذا سيناريو؟!.

الأستاذة فوزية العلوي: أما عن الثورة هل كانت حدثا مفاجئا أم كانت من قبيل ما توقعت فإني لا أخفي مشاعر الدهشة والعجب وأنا أراجع بالذاكرة شريط الثورة كما عشتها في القصرين وتونس، كان زمنا مختلفا وإيقاعا غير الذي تعودنا، كل شيء كان صاخبا وسريعا وحاسما… فلم نكن نعود إلى منازلنا إلا متأخرا وربما خرجنا ليلا لننجز أمرا لا يتطلب التأجيل… كانت الجماهير مجّندة بطبعها ومدجّجة بإصرار وعزيمة، وكان سقوط الشهداء الوقود الذي أجّج العزائم والضمائر وردّدنا بصدق هذه المرة: نموت نموت ويحيى الوطن” رددناها لا كما ردّدها بن علي وأتباعه من مصّاصي دماء الشعب، لأنهم كانوا يقولون في دخيلتهم نعيش نعيش ويفنى الوطن ومن في الوطن…. وكل ما فعلوه أكد ما قلت فقد كانوا يطؤون على رقاب هذا الوطن وكانوا يبتزون ثرواته ويشربون عذب مائه ويستزيدون متناسين المعذبين في أوطانهم أولئك الذين يبتيون على الطوى ويحلمون بوجبة كاملة فلا يجدونها، أولئك الذين ينقطع أبناؤهم عن الدراسة لأنهم لا يملكون ثمن دفتر أو يسيرون أميالا في الجبال والوهاد ليصلوا منهكين إلى فصل تنفخ فيه الريح، فينامون على المقاعد ثم يواصلون رحلة العلم عفوا رحلة العذاب.

لم تكن ثورة مفاجئة إذن رغم الظاهر ولم تكن انتفاضة عابرة، ولا كانت من تدبير المتآمرين على أمن تونس ولا من الملثمين المأجورين المتطرفين وهلم جرة من عبارات الزيف التي يسوق لها نظام بن علي ليفزع الناس وليعطي درسا في الوطنية الحقة وطنية البنفسج القاتل الذي يسمّم دم كل من استنشقه ويحيله وحشا كاسرا . كانت ثورة تترتب على مر سنين وتتأجج نارها في الضمائر والنفوس، كانت تراكمات من القهر والقمع والتجويع والتفقير والانتهاك المستمر لحقوق التونسيين بالقتل والسجن والنفي ومصادرة الأفكار ، كانت البركان التي توهّم الناس طويلا أنه خمد وانطفأ أواره، فلما أزفت الآزفة، ثار البركان كمارد جبار ليس لأحد أن يشكمه. كانت حادثة البوعزيزي رحمه الله هي الشرارة والقشة التي قصمت ظهر البعير، ثم انطلقت الشرارة بعد سيدي بوزيد ومعتمدياتها من منزل بوزيان إلى الرقاب والمكناسي لتشتعل كالنار في الهشيم وقد بلغت أرض السباسب التي خلقها الله شامخة لكن الأنظمة المستبدة عمدت إلى إذلالها وتركيعها لكنها لم تفلح …

*الحوارنت : ظاهر الأحداث يقول أنّ شبابا كثر استشهدوا في مدينة القصرين على يد القنّاصة وأجهزة بن علي الأمنية، لكن خلف هذه الصورة أسئلة ملحّة.. لماذا هذا العدد المهول من الشهداء؟ ولماذا هذا الاندفاع؟ وكيف أصبحت الدماء والجماجم والبارود لا تكفي لإرهاب الجموع الزاحفة من حي الزهور وحي النور وحي الكرمة وغيرها من الأحياء؟
الأستاذة فوزية العلوي: عن الشهداء الذين لماذا تساقطوا أكثر في هذه الربوع؟ ولماذا لن تثن الناس لا قنابل الغاز ولا الرصاص الحي ولا القتل الممنهج ؟ ولا مواكب التشييع وهي ترشق بالأعيرة النارية ….

وهل يعقل أن يقابل راع رعيته وقد شكت” غلاء القوت وعوز الطعام وغلبة الفقر وتهتّك أصحاب العيال” على حدّ عبارة أبي حيان التوحيدي في “الإمتاع والمؤانسة” بالرصاص والقتل والتنكيل والحال أنه راع وكل راع مسؤول عن رعيته؟ أمّا الطاغية بن علي فقد فعلها وجنّد كلابه المسعورة لتأتي إلينا في جنح الظلام حاملة معها الموت الزؤام لهذه الربوع المتعنّتة وهذه السباسب العنيدة التي كانت سبّاقة على مرّ التاريخ لتروي بدمائها الزكية هذه الأرض الطيبة… فالقصرين هي أرض علي بن غذاهم، وهي التي كانت قبائلها من ماجر والفراشيش تتصدى لضرائب الباي وجباياته المجحفة، وهي التي كان لها دور هام في التصدي للاستعمار الفرنسي الغاشم، وشهدت جبالها أعتى الواجهات وأشرسها ولكنها للأسف لم تجن من هذا الاستقلال ما يليق بمنطقة عريقة مناضلة، وظلّت مغيبة ومحقرة.. لذلك كان أهلها يهبّون من حين إلى حين تعبيرا عن سخطهم وغضبهم كما وقع في أحداث 26 جانفي 1978وأحداث الخبز في 1984.ولهذا لم تكن القصرين لتروق أحدا ولا كانت تستقطب لا رضى السياسيين ولا المستثمرين، فهي منطقة الظل كما كان يحلو لبن علي أن يطلق عليها وعلى المناطق التي أجحف نظامه في حقها كما لو كان هو الشمس التي تهب الحياة والضياء… وعندما هبّ شبابها وقد ضج بالتهميش والاحتقار والنفي المادي والمعنوي واستجابت مختلف الفئات الاجتماعية التي كانت كل فئة تشكي وجها من وجوه القهر وما أكثره في بلادنا، لم يكن أمام الجلاد الذي قضى عمره وهو يتفنن في اكتساب طرق القمع والتنكيل إلا أن يفكر في إخماد هذا الحريق قبل أن ينتشر ويكتسح الأغوار والنجاد وكان لا بدّ لهؤلاء الآبقين أن ينالوا عقابهم، فمن هم حتى يربكوا أمن أسيادهم ومن هم حتى يشقوا عصا الطاعة ويتجرّأوا عل نقد سياسة الزعيم الأوحد؟ لهذا بعث من يصوّب في رؤسهم وصدورهم…. في رمز التفكير والوجدان، وما كان ليخاف ربّه ولا ليرأف بشبان في عمر الزهور لعل بعضهم قد قضى وهو لا يملك قوت يومه… بن علي أراد أن يقطع الشغب وأن يحسم المعركة في القصرين وها قد كشفت لجنة تقصي الحقائق وبشهادات من عملاء النظام أنفسهم أن بن علي كان عازما على قصف القصرين بالطائرات حتى يحيلها قاعا صفصفا ويئد الثورة، ولكن الله أبى إلا أن ينصر الحق وأن يزهق الباطل، وكان الباطل على الدوام زهوقا.

*الحوارنت : ثورة كالتي حصلت في تونس.. عاش آباؤنا وأجدادنا ولم يتمتعوا بمثلها، وربما يعيش أبناؤنا وأحفادنا ولا يعايشون شيئا من قبيلها.. فلماذا نلاحظ إبطاء ركيكا في استغلالها وتسويقها أدبيا وثقافيا بالشكل الذي يليق بها؟.
الأستاذة فوزية العلوي: عن المشهد الثقافي وما إذا كان مواكبا للثورة ؟فلك الحق في أن تعتبره متباطئا وإن كنت لا أذهب إلى وصفه بالركاكة، بل لعلي أقول إنه كان باهتا أو ليس يواكب إيقاع الثورة…
*الحوارنت : هناك من يقول بأنّ الأدباء أبطأوا حين أسرع الناس “إلا نادرا” وأنّ حبر أقلامهم لم يكن له الدور المذكور في تسعير الثورة لذلك تجدهم يتقاعسون في الإشادة بها.

الأستاذة فوزية العلوي: بحسب رأيي على صلة بهول المفاجأة وعظم الحدث، ما جعل العقول في نوع من الذهول أو الارتباك والعجز عن الاستيعاب، فكل شيء كان سريعا وقويا ومختلفا، ثم إن كل الفئات بما فيها الفنانون كانوا مشغولين بالجانب السياسي والاجتماعي وكانوا كلهم متحفزين للمحافظة على الثورة ومساهمين في المسيرات والاعتصامات ومتابعين للأخبار، خاصة مع انتقال شرارة الثورة إلى بقية الأقطار العربية… ولكن هذا لم يمنع ظهور عدة قصائد ونصوص وأغان ومقالات جيدة في الغرض ولكننا ننتظر المزيد في الأيام القادمة …
*الحوارنت : كثيرا ما نجالس بعض المهاجرين أو المهجّرين في باريس، أمستردام ، برلين، بروكسل.. يتحدثون عن أستاذة العربية اللبيبة المبدعة فوزية علوي لكنّهم يتساءلون لِما لم تطفو هذه السيدة على ساحة الإبداع الوطني والعربي بالشكل اللازم إلى يومنا هذا رغم ما تملكه من ذخيرة أدبية هائلة؟

الأستاذة فوزية العلوي: لقد تمكنت بفضل الله وبفضل ما بذلت من جهد أن أفتك لي مكانة في المشهد الثقافي بتونس ولا أظنني مجهولة في كثير من الأقطار العربية التي زرت معظمها في ملتقيات وندوات أو عند حصولي على جوائز، ثم إن نصوصي كانت كالطيور تتجه إلى كل مكان وتأخذ لها مكانا في دوريات ومجلات محترمة، ولم يكن هذا باكتساح الشبكة العنكبوتية الفضاءات الإبداعية بل كان حتى قبل ذلك بكثير، ولكنّ النات قد أسهمت بشكل كبير في التعريف بكتابات فوزية العلوي، ولكن هذا يظل قليلا أمام ما أطمح إليه وذلك نظرا للوضع البائس الذي كنا نعاني منه في عهد النظام البائد والذي كان يحاصرنا ويضيق علينا الخناق ويفرض علينا ضروبا من المهادنات والمصالحات معه حتى نجد المجال الذي نعمل فيه، إذ لا جمعيات ولا فضاءات ولا برامج ثقافية خالصة وإنما يتم كل شيء بإيعاز من الحكومة

وتتم مصادرة الأفكار والكتب، وتتم مكافأة التجمعيين بالنشر والسفر إلى الخارج والتوسيم، أما غيرهم فيتعامل معهم بكثير من التحفظ إن لم يكن بالتهديد والقمع أو التهميش، وأنا كنت دائما ضد هذا النظام وإن كنت أتحاشى الدخول معه في صدام خاصة وأن زوجي معارض قديم وله مشاكل مستمرة مع البوليس السياسي وجهاز أمن الدولة، ولئن لم أكن منتمية إلى أي حزب فأنا محسوبة على المعارضة بما أنني رفضت الانتماء إلى الحزب الحاكم رغم كل المحاولات التي بذلها في ذلك. وإذا تمكنت من فرض نفسي في الساحة الثقافية فإن الفضل في ذلك يعود إلى نصي وعملي ومثابرتي ، فلم يكن نصي ليحتاج تزكية من أحد.

وحتى الكتب التي نشرتها كانت على نفقتي في معظمها، والدعوات التي بلغتني من أقطار عربية إنما كان ذلك بصفة فردية ونتيجة لحسن تقبل نصي وليس عن طريق وزارة الثقافة إلا في سفرة واحدة إلى باريس كنت رشحت فيها من قبل وزير الثقافة لأنني أمثل كفاءة أدبية وطنية. هذا من جانب ومن جانب آخر فإن وضعي أنا ليس يختلف كثيرا عن التونسيين من المبدعين الذين لم يحققوا ما يصبون إليه من انتشار وذلك راجع إلى بؤس آليات النشر والتوزيع في تونس، ذلك أن الحكومة رغم سياسة الواجهة المضيئة التي تستعملها فإنها لم تكن تراهن حقيقة على الثقافة والفكر بل حولت المشهد الثقافي التونسي إلى مشهد فلكلوري أو كرنفالي إذا أحجمنا عن استعمال تهريجي.

*الحوارنت : هل يمكننا القول أنّ قلم الأستاذة فوزية اختار اللغة الصعبة وانحاز إلى النخبة المثقفة متجاوزا حقّ العوام في إنتاجها؟
الأستاذة فوزية العلوي: لا أظنّك تدينني في هذا المضمار، لأنك تعلم أنّ اللغة هي نحن، وأننا نكتب بشكل يشبهنا على نحو ما ويقول تفاصيلنا الداخلية ويكشف عن رؤانا وأخيلتنا ومناهلنا الثقافية، وأنني أنا لم أكن لأختار لغتي لأنها هي كذلك، ولا يمكن أن تكون غير ماهي عليه… كما أنني أنا لا يمكن أن أكون غير فوزية العلوي بكل ما فيها حتى وإن حاولت أحيانا أن أغير من طبعي هنا أو هناك، لكنه تغيير مؤقت وشكلي سرعان ما يتبخر. لغتي أنا إذن هي الوجه الآخر لمخزوني من المقروء والمسموع والمشاهد والمعيش، ثم إنني عندما أكتب لا أفكّر في شيء ولا أحد غير الكتابة، وأنا أكتب بما يملي عليه فكري ووجداني لحظتها، والكتابة تتشكّل على النحو الذي يمليه عليّ مسلكي الإبداعي الذي بات يحمل بصماتي وجينات روحي.
*الحوارنت : عادة ما تلقين إلى الناس قصائدا مغرية يصعب مقاومة عذوبتها، لكنّها غير جاهزة حيث يجب على القارئ أن يتعب كي يقوم بتفكيكها.. فلماذا لا تغمسين قلمك بشيء من الرحمة الأدبية.
الأستاذة فوزية العلوي: كوني انحزت إلى النخبة في كتاباتي ولم أغمس ريشتي بقليل من ” الرحمة الأدبية ” وأن نصوصي متعالية لغويا، ولا بدّ لمن شاء أن يغوص في أعماقها أن يبذل جهدا لتفكيكها فما عساي أقول وقد تقاطعت ملاحظاتك مع أخرى أبداها صحفيون أو قراء أو حتى زملاء؟
*الحوارنت : هل يمكن لأديب مفوّه أن يكون أميّا في عالم السياسة ؟
الأستاذة فوزية العلوي: كنت دائما أعتبر السياسة مسلكا فيه من المزالق والمطبّات ما يجعلني أتحاشاه، وكنت أنفر من المتسيسين والمتحزبين ، ربما لأن في طبعي من الجموح والتمرد ما يجعلني لا أنصاع لمثل هذه الإلزامات والقيود التي تفرضها، فالسياسة في معناها اللغوي تفيد الترويض، والتدجين.
*الحوارنت : كيف تقيّمين أداء النخب السياسية في البلاد؟
الأستاذة فوزية العلوي: أما عن الأحزاب في تونس ما بعد الثورة، فهي مختلفة عما كانت عليه قبلها. فبعد التدجين والقمع والتهميش بتنا نعيش ديمقراطية حقيقية رغم ما يمكن أن نرصده من سلبيات هنا وهناك، ثمة حراك حقيقي واهتمام غير مسبوق بالسياسة في الأوساط التونسية على اختلافها ووعي حاد من المواطن البسيط أن المرحلة التي نعيشها كتونسيين هي مرحلة حاسمة، ولا بد من اليقظة حتى لا تضيع هذه الثورة أو تنحرف عن أهدافها. وقد ازدانت الساحة التونسية بعدد أكبر من الأحزاب التي لا أتصور أن أحدا له القدرة على إحصائها أو ذكر برامجها، ولكنها تلوّح كلها بالحرية والديمقراطية والوطنية والتقدم ووووو…….. ولكن ما يلاحظ أنّ النظرية تختلف عن الجانب الإجرائي لدى معظم هذه الأحزاب، خاصة المعروفة منها والتي لها تاريخ، إذ سقطت في ما كانت تناضل ضدّه وهو الإقصاء ورفض الآخر لأنه مختلف.بعبارة أخرى فإنها تعيش ازدواجية في الخطاب بين ما تدعو إليه وما تمارسه فثمة حملات من هنا وهناك وسخرية وتبادل تهم لدى مختلف الاتجاهات، يجعلنا كغير متحزبين نخاف أن نسقط في دكتاتورية مضادة بعد أن تخلّصنا من دكتاتورية بن علي وحزبه.

*الحوارنت : متى يمكننا القول أنّ الثورة قد نجحت؟.
الأستاذة فوزية العلوي: الثورة تنجح عندما تحقق أهدافها، وذلك بالقطع نهائيا مع عهد الاستبداد والقمع والقهر وأحادية الحزب الواحد.

عندما يشعر كل تونسي أنه يعيش في بلده ويتعايش مع أبناء وطنه دون أي منطق إقصائي.

عندما تتحقق العدالة الاجتماعية وتنال كل الولايات حقها في التنمية التي تظهر جليا في حياة كل مواطن ،بحيث لا حيف ولا شعور بالمهانة والإقصاء.

الثورة تنجح عندما لا ينحرف الجدد عن المسار ولا يسقطون في مأزق الاستبداد من جديد.

الثورة تنجح عندما تصبح قراراتنا حرة ولا نخضع الى ابتزازت الغرب ومصالح القوى الاستعمارية.

الثورة تنجح عندما تصبح تونس قادرة على اتخاذ قراراتها دون وصاية أو ضغط.

الثورة تنجح عندما نساند قضايا أمتنا العربية الإسلامية عن قناعة وبكل حرية.

*الحوارنت : أسمى ما تطمح إليه الأستاذة فوزية علوي.
الأستاذة فوزية العلوي: أتمنى الخير للجميع من أبناء هذا الوطن العزيز والخير للإنسان أينما كان.

*الحوارنت : لو تكرمتِ بردود خاطفة حول هذه الأسماء والمصطلحات:-
النثر: العقل وهو يختطّ مساره في اللغة.
الغزل: مزن القلب وعنب الروح… تبدّد الشوق في الكلام عندما يضيق الإمكان.
الرقائق: بعض اللجين وهو يأخذ بأعناق المفردات… ما بقي من وهج الأصابع وألق العيون.
التشبيب: ما من فرق بينه وبين الغزل إلا ما بين الماء والمطر من فرق إن صحّ أن يفترقا.

سعاد الصباح: شاعرة رقيقة كأن بينها وبين نزار نسبا في الإيقاع والتصوير.

جبل الشعانبي: ذاك أبي في الجمادات… والشاهد الصامت على مجد القصرين وتراثها العريق. ذاك الذي أخاف بن علي فولّى هاربا.
الإسلاميون: أصدقاؤنا الطيبون، رسم لهم نظام بن علي صورة مرعبة وألحق بهم كل أنواع الضيم، فانتصرنا لهم كما انتصرنا لغيرهم، قد نختلف في بعض الجوانب ولكن الاختلاف لا يفسد الود في شيء.
القوميون: لهم ما لغيرهم من مزايا وكغيرهم لهم نقائصهم، ولكنّ لا ننسى مطلقا أنهم يحفظون لهذه الأمة تاريخها ويذكرون الخلف بأمجاد السلف .

اليسار: ككل الاتجاهات التي لا أحد يشكك في نزاهتها ويكبر نضالاتها ولكن يعابون كما يعاب غيرهم إن هم قفزوا على ثوابت هذه الأمة وحاولوا تطبيق ما لا ينطبق علينا.

وعموما فالاعتدال مطلوب لدى كل هذه الاتجاهات، فالتونسيون يكرهون أن يتعسّف عليهم أي اتجاه.
اللائكية: كرهت الكلمة لفرط ما لاكتها الألسن في الفترة الأخيرة. فاسأل غيري عنها أرجوك.
الأمل: ما يشدنا إلى الحياة بعد هذا الحوار.

*الحوارنت : كلمة أخيرة لتلامذتك المنتشرين في أنحاء أوروبا.

الأستاذة فوزية علوي: تلاميذي الأعزاء….كنتم إخوة وأصدقاء …حملتم بعض ذاتي في ذواتكم …ظللتم تعترفون بجميلي ولم أقم إلا بواجبي ….فاعذروني إن قصّرت….وسامحوني إن أنا قسوت عليكم فما كانت قسوتي إلا من الحبّ….أحبكم جميعا فإذا عدتم إلى هنا تعالوا نشرب شايا ونذكر الزمن الجميل.

شكرا أستاذة فوزية كل الكلمات التي أجبت عليها تحدث أنك عائدة إلينا ليس في مصافحة أخرى بل مصافحات.. فحتى نعاود اللقاء نستودعك الله .

حاورها : نصرالدين السويلمي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى