حفل الإنسانية بباريس «في الميزان»!

الزمان انفو _

ـــــ بقلم يحيى الشيخ ـــــ

مما دفعني إلى كتابة هذا النص هو أنني قرأت مقالات كثيرة بالفرنسية وبالعربية تشيد كلها بحفل الإنسانية الذي يقام سنويا بباريس، في الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر، منذ تأسيسه سنة 1930م على يد الإعلامي والسياسي الفرنسي مارسيل كاشان مدير جريدة «L’Humanité» ذات التوجه اليساري؛ وكلها مقالات تشيد بهذه التظاهرة الإنسانية، ما عدا مقالا وحيدا بالعربية نُشر قبل ثلاثة أيام بإحدى الجرائد الإلكترونية ينتقص فيه صاحبه من قيمة هذا الملتقى الإنساني العالمي، بل ويصب وابل لومه على المشاركين والمنظمين والحاضرين والعابرين.

ومع أن أحزاب اليمين الفرنسية، وأحزاب اليمين المتطرف بشكل خاص، لا تتفق مع الإيديولوجيات اليسارية التي تؤطر هذا التجمع الإنساني العالمي، فإنها لم تسمح لقيادييها ولا لأعضائها بانتقاده أو المطالبة بإلغائه، لا لشيء إلا لأنه أصبح واحدا من المشهد السياسي والثقافي الفرنسي. أضف إلى ذلك أنه تجسيد لتاريخ حافل بالعطاءات، منذ فترة ما بين الحربين حيث كان الحزب الشيوعي الفرنسي يحصد في الانتخابات ما يقارب ستين في المائة من الأصوات، واستمر الحال على هذا الشكل إلى ما بعد أحداث 1968م التي أطاحت بالرئيس شارل دوغول رمز المقاومة ضد النازية.
لقد ظل الحزب الشيوعي الفرنسي نشيطا، بقيادة جورج مارشي وروبير هوي، حتى نهاية السبعينات التي تميز فيها ــ إلى جانب النقابات اليسارية ــ بتنظيم الإضرابات العمالية في مصانع السيارات بشكل خاص. لم يتقلص نفوذ اليسار الفرنسي بتراجع الشيوعية الذي ربما كان أيضا نتيجة لخفوت شعاع الاتحاد السوفياتي في أواخر عهدة غورباتشيف وبداية سلسلة إصلاحات إلتسين، ولكنه ترك المجال مفتوحا أمام الأحزاب اليسارية الأخرى لمجابهة التكتلات المحافظة، وتمكين الحزب الاشتراكي بقيادة الرئيس فرانسوا ميتيران من التربع على رأس الحكم في فرنسا لمدة أربعة عشر سنة.
في هذا السياق التاريخي الذي تميز بالصراع الطبقي وصراع الأفكار وتعارض الرؤى السياسية، وتطور الوعي العمالي كرد فعل على سياسة المعامل الجديدة لبناء اقتصادات قوية بعد الحربين، وُلد حفل الإنسانية للدفع بحقوق الإنسان إلى الأمام، خاصة حقوق العمال، وتبني المسألة النسائية إلى جانب جملة من المثقفين والسياسيين والنقابيين اليساريين. والجدير بالذكر أن الحركة النسائية العالمية ظهرت لأول مرة ــ بشكل فكري منظم ــ بالبلدان الرأسمالية المصنعة في نهاية القرن التاسع عشر، ونشطت بالخصوص في عواصم غربية كنيويورك ولندن وباريس. أما في الدول العربية ودول العالم الثالث فقد ظهرت بشكل فعلي مع نهاية السبعينات مع نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي، مع العلم أن بعض الأفكار المطالبة بحقوق النساء في بلداننا، كتعليم المرأة مثلا، تمت مناقشتها في الفكر الإصلاحي السلفي الذي تلا عصر النهضة العربية، كما في كتاب «المرشد الأمين في تربية البنات والبنين» للمصري رفاعة رافع الطهطاوي (1801م ــ 1887م) وكتاب «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» للتونسي الطاهر الحداد (1899م ــ 1935م).
لقد حظي حفل الإنسانية بباريس ــ منذ تأسيسه ــ باحترام الجميع لأنه كان يستمد مشروعيته من تاريخ النضال الحقوقي الشامل، وهو تاريخ مقاومي اليسار من شيوعيين واشتراكيين. هذا التاريخ الذي صنعه سياسيون كبار مثل جون جوريس (1859م ــ 1914م) وهو الأب الروحي للحزب الاشتراكي الفرنسي، وليون بلوم (1872م ــ 1950م)، الوزير الفرنسي الشهير الذي تنبأ بأخطار المد النازي بعد قرائته لكتاب «كفاحي» لأدولف هتلير، وتميز بصموده ضد حكومة فيشي بقيادة المارشال فيليب بيتان (1856م ــ 1951م) الذي أصبح عميلا لألمانيا النازية بعد احتلالها لفرنسا، وإن كان قد حظي من قبل بإعجاب الفرنسيين بسبب منجزاته الكبيرة في معركة فيردان ضد ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى وقضائه على مقاومة الريف سنة 1926م التي قادها عبد الكريم الخطابي وتألق فيها في معركة أنوال سنة 1921م. كما أن هذا الحفل صنعته نظريات مستوحاة من فكر كارل ماركس (1818م ــ 1883م) والإيطالي أنطونيو غرامشي (1891م ــ 1937م) والفيلسوفين الشيوعيين الفرنسيين روجي جارودي (1913م ــ 2012م) ولوي ألتوسير (1918م ــ 1990م).
سأقف عند هذا الحد من السرد حتى لا يأخذ المقال وجهة تاريخية، وسأصب اهتمامي على المكاسب التي حققها حفل الإنسانية منذ خروجه إلى الوجود، خاصة تلك التي تتعلق بالعدالة الاجتماعية وحقوق العمال وتعميم مجانية التعليم وحقوق المرأة في التربية والشغل والتمثيلية السياسية وحقوق الأطفال القاصرين وحقوق المعتقل والدفاع عن المهاجرين ومحاربة العنصرية ومناصرة القضايا الإنسانية عالميا والوقوف إلى جانب الشعوب والأقليات المضطهدة، وغيرها. وحتى يومنا هذا، وإن تقلصت التمثيلية السياسية للأحزاب اليسارية في فرنسا، فما زالت النقابات العمالية ــ وليدة المقاومة الحقوقية ــ هي المحرك الرئيسي للارتجاجات داخل المعامل والمؤسسات الحكومية وغيرها، والتي ما زال بإمكانها شل قطاعات بكاملها بشكل مطلق كما حدث في فرنسا يوم الجمعة الماضي خلال الإضراب العام لقطاع المواصلات الحضرية.
1 ــ حفل الإنسانية/ تشخيص خارجي:
نُظم حفل الإنسانية لهذه السنة ما بين 12 و15 سبتمبر 2019م ــ كما جرت العادة ــ بمنطقة لاكورنوف بضواحي باريس، بحضور حوالي مليون شخص وأزيد من مائتي كاتب مشارك والعديد من الصحافيين والسياسيين من فرنسا وأوروبا وباقي دول العالم، خاصة المغرب ودول أمريكا اللاتينية. وقد اشتمل على مئات الأروقة خصصت لها عشرات الهكتارات احتضنت ستين عرضا فنيا لمدة ثلاثة أيام. وقد كان الجمهور مكوّنا من جميع فئات المجتمع ومن جميع الأعمار مع حضور ملموس للنساء والشباب والأطفال، وهو شيء مشرف في بلد يظل محافظا رغم تطور مؤسساته التي ما زالت تجنح إلي تكريس الفكر اليميني.
2 ــ نوعية المشاركين:
بما أن حفل الإنسانية يُنظم كل سنة تحت رعاية الحزب الشيوعي الفرنسي ــ ونحن نعرف جيدا مواقف هذا الحزب بخصوص حقوق الإنسان ــ، فقد كان من البديهي أن تشارك في هذه التظاهرة أحزاب اليسار ومشتقاتها، كالنقابات العمالية والحقوقية وغيرها من الكيانات التي تدافع عن الأقليات، تؤازرها أعداد من السياسيين والإعلاميين والكتاب والفنانين ذوي القناعات اليسارية. وقد أثار انتباهي نشطاء كولومبيا الذين أقاموا عارضة طولها خمسين مترا بأسماء ثمانمائة شخص من المعتقلين والمختفين السياسيين في بلدهم. وأيضا جمعية الاتحاد اليهودي من أجل السلام الي يرأسه المهندس الفرنسي اليهودي ميشيل واكنين وزميله اليهودي الفرنسي ميشيل بيليس مدير مشتشفيات باريس السابق. وقد سبق لي أن اشتغلت مع هذه الجمعية قبل عشر سنوات، وأدركت مدى مساهمتها في الدفاع عن فلسطين وعن فلسطينيي النجف الذين صودرت أراضيهم وهدمت قُراهم، فأصبحوا بدوًا بدون أي جنسية، كما كان حال بدو الكويت قبل حرب الخليج. ليس من السهل على المنخرطين في هذه الجمعية التي تقوم بأنشطتها بشكل دائم داخل قاعات البلديات الشيوعية أن تتحرك بحرية في بلد كفرنسا بسبب ضغوطات اللوبيات الصهيونية وعدم ثقة العرب في كل مبادرة يهودية من أجل السلام، ومع ذلك فحضورها في الساحة يظل متميزا. وقد وصلت القناعة بأحد المسؤولين في هذه الجمعية إلى تزويج ابنته من شاب مسلم مغاربي عُرف بنشاطاته في صفوف الحركات الإسلامية المتطرفة.
نجد إلى جانب هاتين الجمعيتين جناحات كثيرة خُصصت للنقابات العمالية بمختلف مدن فرنسا وبعض الدول الأوروبية. كما نجد كثيرا من المنظمات الأجنبية كجمعية أكراد تركيا التي تطالب بالاعتراف بالمسألة الكردية وإطلاق سراح المعتقل السياسي أوشلان، وجمعية تونسية وجمعيتين جزائريتين. أما الحضور المتميز، فكان ــ ككل سنة ــ للأحزاب السياسية اليسارية المغربية كحزب التقدم والاشتراكية وحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي والنهج الديمقراطي والحزب الاشتراكي الموحد، وللنقابات العمالية وجمعيات حقوق الإنسان المهتمة بالشأن المغربي وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، بعضها بأسماء ضحايا العنف السياسي ببلادنا، كجمعية آيت الجيد للدفاع عن حقوق الإنسان وجمعية سعيدة المنبهي، وغيرهما؛ وبعضها كرموز شاهدة على التاريخ كرواق عبد الكريم الخطابي. كما كانت هناك أروقة مغربية أخرى مثل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ورواق حراك الريف الذي تبنى ــ في المناسبة نفسها ــ قضية سيليا قبل سنتين، وها هو اليوم يتبنى قضية معتقلي الريف الجدد. أضف إلى ذلك حضور إعلاميين وكتاب وفنانين مغاربة كأحمد السنوسي (بزيز) والصحافي أبو بكر الجامعي. هذا، وقد أقامت بعض الأروقة المغربية ــ كحزب الطليعة ــ موائد مستديرة لمناقشة الوضع في السودان وفلسطين. وعلى ذكر فلسطين، فقد لاحظنا تعاطفا كبيرا مع الفلسطينيين في كثير من الأروقة الأوروبية من خلال النقاشات والأعلام والمنشورات والألبسة، كما صادفنا رموزا إعلامية تتبنى القضية الفلسطينية كالصحافي صلاح الحموري الذي كان معتقلا سابقا في سجون إسرائيل.
أما جبهة البوليساريو فقد كانت ممثلة بجناحين، ولكنها لم تكن فاعلة كما في السنوات السابقة إذ لم تعقد أي ندوة، فكان وجودها صوريا. وقد أثير النقاش بين الزملاء المغاربة حول هذه المساهمة المحتشمة، فمنهم من يعزوها إلى عدم قناعة الجيل الجديد من البولساريو بشرعية مطالب آبائهم، ومنهم من يعزوها إلى القيادات الجزائرية التي بدأت تتراجع شيئا فشيئا عن دعمها للجبهة، ومنهم من يربط كل هذا بتقادم المشكل والإكراهات الجيوسياسية الجديدة، وقليل منهم يعزوه إلى الدبلوماسية المغربية التي يرو أنها لن تكون فاعلة في غياب الديمقراطية وحقوق الإنسان داخل الوطن التي من شأنها أن تساهم في تلميع صورة المغرب في الخارج.
وهكذا تكون مطالب المناضلين المغاربة قد انصبت على المواضيع الحقوقية المشروعة التي ما زلنا نطالب بها ــ منذ فجر الاستقلال ــ في الداخل والخارج، كإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وحقوق الإنسان العامة ودمقرطة المؤسسات، إلخ.

3 ــ حصيلة حفل الإنسانية بالنسبة للمجتمع الفرنسي:
لا أحد يجادل في أن المكاسب التي حققها حفل الإنسانية بباريس ــ منذ تأسيسه ــ كبيرة جدا بالنسبة للمجتمع الفرنسي، وبالخصوص بالنسبة لمختلف فئاته الاجتماعية الهشة، بما فيها النساء والأطفال والمهاجرين، بل وحتى بالنسبة للمنفيين واللاجئين السياسيين في كل أنحاء العالم. من بين هذه المكاسب: مجانية التعليم، التغطية الصحية، حقوق المرأة، حقوق العامل، دمقرطة المؤسسات، ومحاربة العنف والعنصرية. ثم إن لمثل هذه الملتقيات دورا كبيرا في التصدي لتصاعد اليمين المتطرف الذي يحمل بين طيات برامجه سمّ العداء والكراهية للأجنبي، ويشترك مع أحزاب اليمين في العمل لصالح الطبقة البورجوازية الميسورة ورجال الأعمال.
4 ــ حصيلة حفل الإنسانية بالنسبة للمهاجرين:
رغم كل النضالات التي قادتها أحزاب اليسار والمنظمات الحقوقية للدفاع عن المهاجرين، فما زالت الأوضاع لم ترقَ بعد إلى المستوى المطلوب لأن موضوع الهجرة هو أيضا موضوع سياسي تستند إليه أحزاب اليمين واليمين المتطرف بشكل خاص في منظومتها السياسية التي تحاول تطبيقها في فرنسا ويدافع عنها نوابها في الاتحاد الأوروبي، كعدم إعطاء الحق للمهاجرين في التصويت والترشح، وكأنهم يتبنون بذلك قناعات الحسن الثاني الذي صرح أكثر من مرة بمعارضته لتصويت المغاربة، بل وسخر من سياسات إدماجهم داخل المجتمع الأوروبي لأنهم ــ في نظره ــ سيظلون مغاربة مهما طال الزمن، لذلك فهم لا يندمجون. قيل هذا الكلام في برنامج على القناة الفرنسية الأولى، خصّصته الصحفية آن سان كلير لملك المغرب سنوات قليلة بعد انتهاء رئاسة فاليري جيسكار ديستان ومجيء فرانسوا ميتيران، وهي الفترة التي عقدت فيها فرنسا اتفاقا حول تعليم اللغة والثقافة الأم لأبناء المهاجرين المنحدرين من تسع دول من بينها المغرب. كان الحديث في فرنسا حتى نهاية الثمانينات ينصب على سياسات الاندماج والادماج والحجاب لأنها كانت مواضيع الساعة، خاصة بعد مسألة الحجاب في مدينة كريل سنة 1989م وصدور كتاب آيات شيطانية لسلمان رشدي سنة 1990م. لكن بعد ذلك بسنوات قليلة، أصبحت الأسئلة الموجهة للملك الراحل تتعلق مباشرة بحقوق الإنسان والاعتقال السياسي في المغرب، خصوصا بعد صدور كتب سياسية كثيرة تنتقد النظام الملكي بشكل مخجل، ككتاب جيل بيرو ومومن الديويري وكرستين سرفاتي وفاطمة أوفقير.
قبل انتخاب الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتيران (1981م ــ 1995م)، لم يكن للمهاجر الحق إلا في بطاقة إقامة سنوية، قابلة للتجديد وفق شروط قاسية، كما لم يكن له الحق في تغيير عمله، ولم يكن له الحق في الحصول على المنحة العائلية التي تعطى لباقي الفرنسيين. فكان يقيم في الملاجئ العمالية، ويجد صعوبات كبيرة في الشغل ولمّ الشمل العائلي. لكن بعد مسيرة المليون شخص التي انطلقت سنة 1983م من مدينة ليون الفرنسية إلى باريس، يساندها الحزب الشيوعي والمنظمات الحقوقية، للقاء الرئيس ميتيران والمطالبة بكرامة المهاجر وتجريم العنصرية وغيرها من الحقوق، ستتحسن وضعية الأجانب على جميع المستويات: السكن، الشغل، الإقامة، التجمع العائلي، وغيرها. هذه المكتسبات لم تأتِ من فراغ، بل كان وراءها رجال عاهدوا مبادئهم على المضي قدما في الدفاع عن المنكوبين، وما زالوا يقفون في وجه كل المحاولات التي تريد تضييق الخناق على المهاجرين، كما وقع سنة 1994م في عهد وزير الداخلية الفرنسي شال باسكوا الذي سنّ قانون تهجير القاصرين المغاربيين المولودين في فرنسا إلى بلدان آبائهم الأصلية في حالة إدانتهم، وكما وقع في عهد الرئيس ساركوزي الذي أجّج في خطاباته نيران العنصرية في غضون مقاربته للنظام الأمني الداخلي للجمهورية إرضاء للمنتخبين اليمينيين ولنسف اليمين المتطرف باللعب على حباله.
لقد ساهم اليسار الفرنسي الشيوعي والاشتراكي والنقابات العمالية والمنظمات الحقوقية في التصدي للقوى اليمينية المعادية للمهاجرين ومحاربة العنصرية والإسلاموفوبيا، كما عملت البلديات الممثلة لهذه الأحزاب على إعطاء المسلمين أراضي لبناء المساجد التي انتقل عددها في فرنسا من أقل من ألف مسجد سنة 1985م إلى أزيد من 2500 مسجد اليوم. أضف إلى ذلك أن عمداء البلديات اليساريين قاموا إداريا بإقامة مراسيم زواج المهاجرين غير الشرعيين، ضاربين بذلك عرض الحائط بقوانين الجمهورية، وغير عابئين بصرامة وزارة الداخلية وإدانتها للخارجين منهم عن القانون. ورغم العوائق الكثيرة، فقد تم فتح مدارس لتدريس اللغة العربية داخل وزارة التعليم الفرنسية بمبادرة من هؤلاء الفاعلين الحقوقيين الذين ينطلقون من مبدأ المساواة والدفاع عن المهاجرين باعتبارهم يساهمون في بناء الاقتصاد الوطني. أما السفارات والمراكز الثقافية العربية فلم تقدم أي شيء للمهاجرين العرب وغيرهم. ألأن لهم دورا دبلوماسيا يمنعهم من ممارسة الدبلوماسية الإنسانية الحقة؟ وما قيمة الدبلوماسية إذا لم تتمكن أبدا من فتح قسم واحد لتدريس اللغة التي يشتغلون بها في إداراتهم؟ وما قيمة الدبلوماسية إذا لم تتمكن من تأمين بطاقة إقامة واحدة لواحد من موظفيها ربما كان قد تمكن من تسجيل ابنه في إحدى الجامعات الفرنسية ولم يحصل له على تسوية قانونية؟ وما قيمة الدبلوماسي إذا كان يتبنى علنا أفكار اليمين المتطرف المعادية لأبناء بلده ويعبر عنها جهرة بكرة وأصيلا؟ وما قيمة الدبلوماسي إذا كان يعارض حق المهاجرين في التصويت أولا في بلدهم الأصلي، وثانيا في بلدان الهجرة؟
أمّا بعد:
كنت أتمى أن لا أضيع وقتي في كتابة هذا المقال الذي لا أظنه قد أتى بجديد لا نعرفه، لو أنني لم أقرأ المقال السالف الذكر. وقبل أن أختم ما أنا بصدد كتابته، أريد فقط أن أشير إلى أن الأستاذ الهيني ــ خلافا لما ورد المقال ــ لم يغادر جناج جمعية آيت الجيد لحقوق الإنسان التي كان يشرف عليها، بل كان متواجدا في أروقة حفل الإنسانية طيلة أيام اللقاء، وكنت أول من استقبله وآخر من ودعه رفقة مغاربة كثيرين؛ بل الأكثر من ذلك فقد أقام ندوة حول حقوق الإنسان في المغرب بنفس الجناح يوم السبت على الساعة الواحدة بعد الظهر. أما عن مسألة وجود الخمر بحفل الإنسانية ــ كما ورد في المقال ــ، فهل يوجد مكان بأوروبا لا يوجد فيه خمر خاصة وأن إحدى معجزات النبي عيسى عليه السلام تكمن في كونه حوّل الماء إلى خمر، وهنا يكمن السبب في أن الخمر حاضر في الكنائس المسيحية كعنصر أساسي لإقامة بعض القدّاسات. ثم إن الخمر بفرنسا هو بمثابة الشاي عند المغاربة وبمثابة لبن الناقة عند بدو الصحراء وبمثابة مشروب الأرز عند الصينيين.
مهما تكن قناعاتنا، فعلينا ــ كمهاجرين ــ أن لا نحطم من يمد لنا المساعدة ويقف بجانبنا ويدافع عن حقوقنا التي لم تدافع عنها بلداننا الأصلية رغم أننا لا نمثل الوجه الجميل للإنسان المتحضر في بلدان الحضارة. يكفي أن نعرف فقط أنه رغم كل هذه المجهودات التي تبذلها دول استقبال المهاجرين بأوروبا فإن الأمراض العقلية والانفصامية تنتشر بشكل مهول بين أبناء المهاجرين، وأن السجون مكتظة بالمغاربيين. ثم إنه ليشار إلينا ــ نحن المهاجرين ــ بأصابع التهمة لأننا مختلفون عمن نعيش بينهم، مختلفون ببشرتنا ولغتنا وعاداتنا وديننا؛ ولأن صورتنا سلبية بسبب داعش والإرهاب وشتى أشكال التطرف، وبسبب تخلف بلداننا وانعدام حقوق الإنسان فيها ونهج سياسات التسلط والتقتيل والتعذيب والاعتقال التي تتبعها أنظمتنا العربية بشكل مدروس وممنهج. نحن الآن، لسنا في وضع جيد لنفرض أنفسنا على العالم المتحضر، وما دام الوضع المأساوي على ما هو عليه، فالأجدر بنا ــ ونحن في بلاد الهجرة ــ أن نحترم الأحزاب والنقابات والجمعيات الحقوقية التي تمد لنا المساعدة منذ تسعين سنة، أي منذ ميلاد حفل الإنسانية، أعاده الله علينا ــ جميعا ــ ككل سنة بمزيد من الحقوق على طبق جميل من الإنسانية الرفيعة!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باريس، بتاريخ 19 سبتمبر 2019م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى