ولد الفاضل يرد على رئيس هيئة حقوقية

كتب محمد الأمين ولد الفاضل:

الزمان أنفو _ منحني رئيس هيئة حقوقية معروفة لقب “أستاذ في العنصرية”، وكان ذلك من خلال تعليق له على منشور كنتُ قد كتبته عن الشيخ صاحب عربة التجارة اليدوية الذي انتشرت صورته بشكل واسع في مواقع التواصل الاجتماعي، والذي تم استقباله من بعد ذلك من طرف وزيرة العمل الاجتماعي والطفولة والأسرة في مكتبها، مع التعهد له بإعانة شهرية.

ما أغضب رئيس الهيئة الحقوقية هو أني رفضتُ أن أنخرط فيما أسميه بالازدواجية اللونية في اتخاذ المواقف، والتي يُحاول أصحابها أن يفرضوها على كل من يكتب في الشأن العام. في هذا المقال سأقدم للسادة القراء عدة أمثلة من قضايا سياسية وحقوقية وإنسانية تأثرت المواقف حولها بما أسميته بالازدواجية اللونية، وستكون البداية بالمنشور الذي كتبته عن الشيخ صاحب عربة التجارة اليدوية.

(1)

في العام الماضي تم تداول صورة بشكل واسع لصاحب النتيجة الثانية في الباكالوريا شعبة الآداب العصرية، وهو فوق عربة يجرها حمار، وقد نال صاحب تلك الصورة من الجوائز والتكريمات ما لم ينله صاحب الرتبة الأولى في نفس الشعبة…يومها لم نسمع عن تمييز لوني ممن يتحدثون اليوم عن تمييز لوني، وذلك على الرغم من أن المنطق السليم يقول بتكريم الأول قبل الثاني بغض النظر عن أي أسباب أخرى.

تم تكريم الطالب الثاني لأنه من شريحة ما زال الكثير من أبنائها ـ وللأسف الشديد ـ يتسرب من الدراسة في وقت مبكر، وذلك بسبب الفقر وصعوبة الحياة…تكريم ذلك الشاب ـ حسب وجهة نظري المتواضعة ـ يعدُّ تشجيعا لشباب تلك الشريحة لكي يهتم بمواصلة التعليم مهما كانت قسوة الفقر وصعوبة الحياة ..بنفس المنطق تم تكريم شيخ من شريحة أخرى يُعرف الكثير من أبنائها بالكسل ونبذ العمل رغم انتشار الفقر في العديد من أبنائها…تكريم هذا الشيخ ـ وحسب وجهة نظري المتواضعة ـ يعدّ هو أيضا تشجيعا لممارسة العمل لدى شريحة ينتشر فيها الكسل والتكبر عن الكثير من أصناف العمل الشريف.

إن تشجيع التعليم في شريحة معينة قد يبرر تجاهل الأول في لائحة الناجحين من شعبة الآداب العصرية وتكريم الثاني من نفس الشعبة، وإن تشجيع العمل في شريحة معينة قد يبرر تكريم شيخ مسن يمارس نفس العمل الذي يمارسه الكثير من شيوخ مكونة أخرى.

إن النظر إلى الاستقبالين من هذه الزاوية التي لا تؤمن بالازدواجية اللونية هو الذي جعلني أتفهم استقبال الوزيرة في مكتبها لصاحب الرتبة الثانية في باكالوريا الآداب العصرية 2020، رغم أنها لم تستقبل صاحب الرتبة الأولى، وهو الذي جعلني أتفهم أيضا استقبالها لشيخ مسن يمارس عملا يمارسه شيوخ كثر من شريحة أخرى لم تستقبلهم الوزيرة في مكتبها.

هذه هي وجهة نظري، والتي حصلتُ بموجبها على لقب “أستاذ في العنصرية” من رئيس هيئة حقوقية، وفي اعتقادي الشخصي فإن تلاميذ العنصرية وأساتذتها الكبار هم أولئك الذين أعجبوا باستقبال الوزيرة لصاحب الرتبة الثانية في الباكالوريا، ونددوا ـ في الوقت نفسه ـ باستقبالها للشيخ صاحب عربة التجارة اليدوية، و أولئك الذين أعجبوا باستقبالها للشيخ صاحبة العربة بعد أن كانوا قد نددوا باستقبالها للطالب صاحب الرتبة الثانية. أما أولئك الذين أعجبوا بالاستقبالين معا، أو انتقدوهما معا، فيمكن وصفهم بكل شيء، ولكن لا يمكن وصفهم ـ بأي حال من الأحوال ـ بالعنصرية إلا من طرف عنصري تغضبه مثل هذه المواقف المتوازنة الخالية من أي ازدواج لوني.

(2)

في يوم 16 مارس 2019 تسبب إطلاق نار من طرف جندي موريتاني في وفاة شيخ في انبيكت لحواش ، وفي يوم 28 مايو 2020 تسبب إطلاق نار من طرف جندي آخر في وفاة شاب موريتاني في قرية ويندنيك التابعة لمقاطعة أمبان.

دعونا نجري مقارنة سريعة بين هاتين الحادثتين الأليمتين.

حادثة أمبان وقعت الساعة التاسعة ليلا، وفي فترة حظر شامل وإغلاق كامل للحدود بسبب جائحة كورونا، والضحية كان شابا في عمر 35 سنة، والحادثة جاءت بعد عملية مطاردة مجموعة من المهربين حسب بيان الجيش حول الحادثة. أما حادثة انبيكت لحواش فقد وقعت في وضح النهار، وفي ظروف أمنية وصحية عادية جدا، والضحية كان شيخا مسنا في العقد الثامن من عمره، و كان وحيدا على جمل في عملية بحث عن قطيع سائم حسب بيان الجيش.

قوبلت حادثة مقتل الشيخ الثمانيني بصمت مطلق، فلم يندد أي حزب سياسي ولا أي منظمة حقوقية ولا أي جهة أخرى معروفة أو غير معروفة بهذه الحادثة، لم تندد أي جهة على الإطلاق ـ وسواء كانت سياسية أو حقوقية ـ بتلك الحادثة. أما حادثة قتل الشاب الثلاثيني فقد ندد بها العديد من الأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية من خلال بيانات شديدة اللهجة، والمؤسف أن كل تلك البيانات حاولت أن تستحضر ـ بشكل مباشر أو غير مباشرـ اللون والبعد العنصري في هذه الحادثة. فحزب تواصل والذي كان هو أول من ندد بالحادثة دعا في بيانه: ” كل الموريتانيين إلى رص الصفوف ووحدة الكلمة واستحضار الأخوة الإسلامية في وجه دعاة التفرقة”، نفس الدعوة جاءت من حزب اتحاد قوى التقدم الذي حذر في بيانه ” كافة المواطنين من التأثر ببعض الخطابات والشائعات المشبوهة، التي تسعى إلى تسميم الأجواء والمساس بوحدة الشعب وسكينته”. ولم يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لحزبي التكتل وإيناد، فقد دعا الحزبان في بيانهما المشترك كافة المواطنين “إلى الوقوف بحزم ضد كل ما من شأنه أن يثير الفتنة والشحناء بين مكونات الشعب وشرائحه”.

(3)

في عاصمة تشهد الكثير من عمليات السرقة، تعرض منزل الرئيس صمبا تام لمحاولة سرقة ليلة السبت الموافق 11 يوليو2020، وكانت هذه المحاولة من أبسط محاولات السرقة التي تشهدها العاصمة بشكل يومي، ومع ذلك فقد تم تهويل حادثة السرقة هذه، وقيم بمحاولات إعلامية وسياسية واسعة من أجل إخراج حادثة السرقة تلك من دائرة العمليات الإجرامية العادية التي تحدث يوميا في العاصمة نواكشوط إلى دوائر أخرى ذات أبعاد عنصرية وعرقية وإقصائية!! تم تداول الخبر إعلاميا على أن الحادثة تدخل في إطار تهديد الرئيس صمبا تام وتخويفه، وأنها كانت من أجل إسكاته.

بعد تداول الخبر إعلاميا أصدر تحالف سياسي ينخرط فيه صمبا تام بيانا يندد فيه بشدة بالعملية، وحذر هذا التحالف السياسي من تداعيات هذه الحادثة “على السلام والتماسك الاجتماعي في بلد يعاني من صدمات الماضي ومن تهور في الحاضر” حسب ما جاء في البيان، واعتبر التحالف بأن هذه الحادثة تدخل في إطار “تخويف أو إزعاج شخصية تعتبر رمزا في المشهد السياسي الوطني والدولي”.

بعد ذلك أصدرت شخصيات سياسية ومنظمات حقوقية تأسست في الولايات المتحدة الأمريكية بيانا في نفس الاتجاه، وحاولت هي الأخرى أن تعطي للاعتداء على منزل صمبا تام بعدا عنصريا، وأن تربطه ـ وتأملوا في محاولة الربط تلك ـ بحادثة قتل الشاب الذي تحدثنا عن عملية قتله في الفقرة السابقة من هذا المقال.

اللافت في الأمر أنه قبل ذلك بفترة قصيرة، وتحديدا في يوم الجمعة الموافق (12 يونيو 2020) تعرض منزل عضو المجلس الدستوري الدكتور محمد محمود الصديق لعملية سرقة، تمت خلالها سرقة هواتف من غرفة نومه وكذلك حاسوبه الشخصي الذي توجد به حصيلة سنوات من إنتاجه الفكري، ومع ذلك لم يقل قائل بأن تلك العملية كانت مدبرة، ولم يتحدث عضو المجلس الدستوري المنحدر من حزب معارض عن عملية استهداف لإجباره على السكوت.

وقبل ذلك أيضا، وتحديدا في يوم الجمعة الموافق (08 ـ 11 ـ 2019) تعرضت سيارة ومنزل النائب محمد الأمين ولد سيدي مولود لعملية سرقة، ومع ذلك فلم يدعي النائب بأن حادثة الاعتداء على منزله كانت عملية مدبرة لإجباره على السكوت، ولا أظن بأن مثل ذلك قد خطر بباله أصلا.

إن محاولة تسييس عمليات السطو والسرقة، وإعطائها بعدا عنصريا، يذكرنا بما كان يجري من محاولة لتسييس تعقيدات وعراقيل الوكالة الوطنية لسجل السكان والوثائق المؤمنة، ففي العام 2011 على سبيل المثال تم حرمان السيد محمد يحظيه ولد المختار الحسن وهو وزير داخلية سابق، ورئيس سابق لحزب حاكم من أوراقه الثبوتية بحجة أن أمه مولودة في الخارج.لم تأخذ عملية الحرمان تلك بعدا عنصريا، ولم تجد أي اهتمام إعلامي وسياسي يذكر، ولكن عندما تحدث عملية مماثلة لمواطن موريتاني من مكونة أخرى تتحول عملية الحرمان تلك ـ وبشكل تلقائي ـ إلى فعل عنصري وإلى عملية إقصاء منظم، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى.

إن هذا التداول الإعلامي والسياسي الخاطئ مع التعقيدات والعراقيل التي تطبع عمل الوكالة الوطنية لسجل السكان والوثائق المؤمنة هو الذي جعل الكثير منا يعتقدون أن المتضرر الأول من هذه الوكالة هو مكونة واحدة وولايات محددة، وذلك على الرغم من أن نتائج دراسة أعدتها لجنة تم تشكيلها لدراسة المشاكل المتعلقة بالوثائق المؤمنة برئاسة الوزير السابق السيد تام جمبار توصلت إلى أن عدد الذين لم يحصلوا في الحوض الشرقي على وثائقهم المدنية نتيجة للعراقيل التي تم وضعها من أجل التأكد من انتمائهم الموريتاني يفوقون عدد الذين تم حرمانهم من وثائقهم بسبب نفس التعقيدات في ولايتي لبراكنة و كوركول.

(4)

تلكم كانت مجرد أمثلة من أمثلة كثيرة أخرى لا يتسع المقام لبسطها. وتبين هذه الأمثلة أن هناك من يحاول أن يُخرج أحداثا عادية عن سياقها الطبيعي بسبب اتخاذه لمواقف سياسية أو حقوقية على أساس ازدواجية لونية غير سليمة، فجرائم السرقة المنتشرة في العاصمة نواكشوط قد تتحول في حالة من حالاتها ـ بسبب حضور الازدواجية اللونية عند اتخاذ المواقف ـ إلى مؤامرة تشكل خطرا على التماسك الاجتماعي، والأخطاء التي قد يرتكبها الجندي أو عنصر الأمن تختلف عند البعض حسب الضحية، فبعض الضحايا قد لا يحتاج استهدافه لإصدار أي بيان من أي جهة سياسية أو حقوقية، والبعض الآخر قد يستدعي استهدافه إصدار الكثير من البيانات مع استحضار البعد العنصري والعرقي، وعراقيل وتعقيدات الوكالة الوطنية لسجل السكان والوثائق المؤمنة قد ينظر إليها بازدواجية لونية حسب الضحايا، وحتى استقبالات وزيرة لبعض المواطنين قد ينظر إليها بتلك الازدواجية اللونية التي لن تأتي ـ قطعا ـ بمواقف سليمة.

إن هذا التمييز اللوني يشكل وجها آخر من عنصرية مسكوت عنها، ولذا فلم يكن غريبا أن تلصق تهمة العنصرية بمن حاول أن يكسر الصمت حول تلك العنصرية المسكوت عنها.

ويبقى أن أقول لرئيس الهيئة الحقوقية ولغيره ممن يوزعون التهم بالعنصرية بكرم وسخاء، بأني أعرف نفسي، وأعرف أني لستُ عنصريا، ولذا فلن أنشغل بتبرئة نفسي من اتهام بالعنصرية جاء من أشخاص لا تشهد كتاباتهم ولا أحاديثهم على عدم عنصريتهم.

حفظ الله موريتانيا…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى