السماء!

كتب خالد الفاضل:

الزمان أنفو-

لم يكن السهر من الطقوس التي أواظب عليها، ولم يكن الأرق ضيفا جذابا يثير انتباه وسادتي فتسامره. توهمت دائما أن السهر حتى الفجر من علامات الانحراف، ولابد لصحابه من الغطس عميقا في بحيرة من الآثام…

كنت أنام واللقمة في طريقها إلى فمي، فاستيقظ صباحا وحبات الكسكس تشوه وجهي مثل حب الشباب. تمنيت دائما؛ أن يتزامن انشقاق السماء ليلة السابع والعشرين من رمضان مع اللحظة التي استيقظ فيها عطشانا أريد شربة ماء باردة من القربة المخنوقة الفم. حتى أطلب من الله أن يحقق أمنياتي المتراكمة مثل الرمال التي كانت الرياح تجلبها من أقاصي الصحراء الكبرى لتخنق حيطان الحجارة المتعبة من الوقوف بمفردها في وجه عوامل التعرية وزحف مكعبات الأسمنت، أمنيات حالمة تأكسدت مع النضج والخيبات ولم أعد أتذكر منها سوى أمنيتين فقط:

الأولى؛ أن تصبح الطفلة الشقراء المرسومة على علب الحليب المجفف(سليا) زميلة لي بالمدرسة. وأن أمسك يدها ونذهب في نزهة بين غيوم الظهيرة المكدسة في السماء؛ ثم نذوب ونسقط سوية مع زخات المطر. ونسيل مع البطحاء وتمتصنا أحشاء الأرض، ثم نزهر كنبتتين في المراعي، وتأكلنا بقرة عابرة، ثم نتحول إلى حليب تقوم أسرة ما بترويبه. وأن نرقص للحظات داخل جفافة تخض بإيقاع موسيقي مبهم الألحان، قبل أن نتحول إلى زبدة تصفى إلى سمن لذيذ يراق زوالا على قصعة من الكسكس. يتغدى منها رجل صالح فيصاب بداء “أگندي” فتصعد روحه الطاهرة إلى السماء وتصعد معها أرواحنا دون المرور بعذابات الرحيل والوداع.

الثانية؛ أن يحدث انشقاق في إحدى الهضاب الصخرية الفاصلة بين حي العرگوب وقرية دار السلامة؛ ثم يخرج منها بساط من النور ينتهي عند أقدامي. أعبره؛ وعندما أتوغل في أعماق الجبل؛ أجد بداخله بلدة صغيرة مبنية فوق تلال خضراء. حنفياتها ينسكب منها اللبن، ومنازلها مصنوعة من الشكولاته، وأكثر أشجارها النخيل، وأغلب حيواناتها العصافير والخيول. وجل سكانها من المجانين المسالمين. لا تداهمها العواصف الرملية ولا وجود فيها للشرطة والأطباء والوعاظ. ثم يغلق الممر خلفي بجدار صخري لا يفتح إلا بعد مئات من القرون، ثم أخرج منها على حصان أبيض؛ وأطل على شرفات المدينة والفضول يعتمل في خيالي مثل النار الموقدة. وأرى؛ هل مازالت مدينة لعيون في مكانها؟ أما أنها حملت حقائبها التنموية المُتعبة وسافرت إلى شواطئ المحيط الأطلسي..

الآن؛ ذابت تلك الذكريات المتوهجة في العتمة، أصبحت مثل ضوء سيارة يبتعد في أفق كثيف الظلمات. لقد شبع النسيان من حطام الأمنيات الحالمة وألقى بها بعيدا نحو شواطئ الذكريات المهجورة..

أول أمس أكلتُ قطعة من بسكويت “لحشيشة”، فركضت الذكريات نحوي مسرعة مثل خيول تستبق نهاية المضمار. رأيت وجه جدتي يتكثف كغيمة بيضاء، رأيتُ أضواء القمر في الليال الصيفية الصافية تنسكب على دور الحجارة فتزيد من لمعانها الأسطوري، تدفقت رمال الصباح باردة في خيالي حتى التصقت بخدي. رأيتُ أطفالا ينقشون صباحات الجمعة في تجاويف الجبال الكثيفة الظلال لصنع الشاي واصطياد النبق من أغصان السدر الشائكة، رأيتُ ورقات مطوية أطعمتها خيالي فنبتت فيها القصائد بمعجزة كما تنبت الأعشاب بين شقوق الصخور. استعدت طعم عصير الكركديه(امبصام) في زجاجات لقيطة اشتريتها من عند سيدة تدعى كمبا في فناء منزلها الفسيح في حي المركز العتيق، وكنت أظنها من أسعد سكان المدينة لأنها تمتلك ثلاجة معبأة دائما بمثلجات “ببلبستيك” في أيام الصيف المشمسة. رأيت أضواء مصابيح الشوارع في ليال لعيون زاهية وكيف كان وميضها يضفي لمعانا على الملابس لا نراه الآن حتى وإن وقفنا تحت ألمع الأضواء. رأيتُ وجوها بهية غيبها الموت وأخرى غيبتها مسارات الحياة المتفرعة دائما كأغصان غابة كثيرة الأحراش. كأن هذه الحياة لغز يزداد تعقيدا كلما أصبح واضحا وبسيطا وخاليا من الطلاسم…

كنت أحاول بكل مشقة السهر مع النجوم النائية وبرنامج بيت الصداقة عندما يخنق الهدوء حنجرة الحي بأصابعه الناعمة حتى لا تصدر أصواتا غير قرع طبل بعيد أو نباح كلاب متقطع قادم من أطراف المدينة، أو هذيان أحد النائمين وهو يريد أن يبوح بشيئ لم يستطع قوله طيلة النهار، بوح ينسكب غالبا في حديث متلعثم، كأن الإنسان حتى وهو نائم لا يستطيع أن يتحدث بجرأة وصراحة، كأن الخوف من البوح يلازمه دائما..

كنت أخرج رأسي قبالة السماء دائما وأسرد عليها قصصا كثيرة ومبعثرة، لا أستطع تجسيمها وأنا مقيد بالجاذبية الأرضية. أحببتُ السماء وصادقتها وجعلتها وطنا ثابتا في الوجدان. فوجهها لا يتبدل مع تغير التضاريس. رسمت زرقتها بدفاتري وجعلتها قبعة ارتديها دائما. توطدت علاقتي مع السماء مبكرا، فأغلب نومنا صيفا كان في العراء، وأكثر شيء كنت أشاهده عندما أستيقظ صباحا هي السماء عندما توقظنا على ابتسامة صفراء وتخبرنا أن هناك يوما جديدا علينا أن نقدم له المزيد من قرابين ” محاكاة الأسلاف “. لم تكن السياسة تثير فضولي، ولم تجتذب الأدلجة عقلي، فضلت الحرية مع أسراب الطيور في الأعالي. لكنني عندما كبرتُ وبت مثل عمود كهرباء ممل في شوارع لعيون تعطلت مصابيحه. اكتشفت أنني تعجلت الذهاب مبكرا إلى السماء، وأن هناك معارك قاسية على الأرض لابد لنا من خوضها حتى نتجاوز امتحانات تزكية النفس والخروج من غبار الأرض بقلوب نظيفة.

(( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ))

هنا دكار والساعة منتصف الليل و 56 دقيقة. الصورة المرفقة من جلسة تأمل مسائي مع أفضل صديق؛ البحر. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى