حلقة جديدة مثيرة من “نحن والمسار الحانوتيّ”

altالحكم القبلي

لقد أهداني مشكورا أخي و خليلي الشاعر و الكاتب الفذ و الأستاذ الموسوعي  بدي ولد أبنو كتابه “أودية العطش”. أثار انتباهي لاحقا تقرير أعدته صحيفة “القدس العربي” حول هذه الرواية باعتبارها رواية تنبأت بالربيع العربي، الشيء الذيلم ينتبه له مؤطرو “أدب الربيع العربي”.

في هذه الرواية التي جاءت في شكل قصيدة ممهورة بكثير من البلاغة والتصوير الموحي، نرى صورة جبارة فنيا وشعريا وروائيا لذلك الحاكم الذي انتقل من صفة “الشخص التافه” بعد أن “تأله” ثم أُلِه” ليتهافت شعبه على تنفيذ أوامره بشرب الرمال باعتبارها إنجازا وفق “التعليمات السامية” لصاحب الكرسي.

إننا نعيش تماما، هنا في موريتانيا، “حكم أودية العطش”، وعقلية سلطة أودية العطش، ومن ثم ليس على الموريتانيين، بعد فقدانهم أبسط مقومات حياة الدولة، سوى أن يستسلموا ذاعنين و يشربوا رمال الديمقراطية لعل ذلك يسد خواء عميقا في بطون منظومة حكم الفرد.و أيا كانت الصور التي يظهر بها ذلك الحكم الفردي، فهو لن يكون سوى تعبير عن شرخ عميق في كيان الدولة، نفس الشرخ الذي عمقناه جميعا ومن مختلف المشارب والاتجاهات، عن سوء أو حسن نية، حتى غدا فوهة تبتلع كل المطامح البسيطة لإنشاء دولة، ولو ذات سيادة اسمية.

لماذا نفشل فيما نجح فيه الجيران محدودو الإمكانات على جميع الصعد. في السنغال وغامبيا ومالي وبنين توجد مؤسسات.. وفي موريتانيا يوجد أفراد.

هذه كارثة بكل المقاييس لا يمكن تحاشي سلبيتها على المدى القريب، أحرى المستقبل في الأمد المنظور.

أخشى أننا، رغم كل الدول الذرية والمتوسطة، نحن آخر دولة أفراد بقيت في هذا “العالم المتوحش” تنافسيا ومصلحيا.

من السهل الآن تشخيص هذه الحالة، أكثر من أي وقت مضى في تاريخ الأنظمة الموريتانية.. وذلك بسبب تدهور مستوى “الفردية” التي تحكم الدولة في الوقت الراهن.. ومن المهم الانتباه إلى أن “الفرديات” ليست استنساخية عن بعضها البعض، ففي تاريخ الأحكام والسلط الفردية عبر العالم وجدت فرديات أرفع مستوى من أخرى، بل حاول بعضها صعود سلم يوصله إلى الفضيلة و النموذجية، ولم يخل تاريخ البلاد من ذلك، والجميع على إلمام بتاريخ الأمير العادل ولد أحمد عيده في ثلاثينات القرن التاسع عشر.

كان نظام الرئيس الراحل المختار ولد داداهنظاما شموليا ضمن سياق شبه عالمي في ذلك الاتجاه وقتها، لكنهلم يكن نظام فرد بالمعني الحرفي للكلمة. فلم يكن الرجل مثل خلفائه، الذين اعتمد كل منهم القاعدة الكلاسيكية: “فرق تسد” والتي وصلت نتيجتها الظاهرة والباطنة إلى حكم رجل ليس أكثر من “ساعي بريد بين وطنه وبين جيبه”.

كالعادة، يلجأ الحاكم الفرد للتغطية على “منكراته العمومية” بـ”منكرات ذاتية” للتحصن داخل أوعيتها الدموية المزيفة. و ذلك سلوك حانوتي بامتياز جسده ببراعة “وقاف الدويرة”.

هذه اللعبة تنطلي بسرعة فائقة على العامة، وعلى كثير من النخبة في موريتانيا. في عالمنا الثالث المتخلف ليس هنالك ما يخدم نظاما أكثر من وصفه بأنه “نظام قبلي”، أي تتحكم ويتحكم ويخدم قبيلة معينة.

لقد رفض الرئيس اعلي ولد محمد فال خلال فترة حكمه(2005-2007) أن ينغمس في هذه اللعبة القذرة.. وتاريخيا أثبت أنه فوق “عقلية الحريم”، رغم كل المغريات التي كانت شاخصة أمامه.

عكس ولد محمد فال، انغمس حكم الفرد في لعبة قبلية قذرة هدفها تحصين حكمه أطول فترة معينة، عبر استنفار طاقات قبلية وأهلية لضرب خصومه بـ”نظام من فرد لفرد”.

لم يقم ولد عبد العزيز بذلك حبا في قبيلته، قبيلة أولاد أبي السباع، هذه الأسرة الشريفة الكريمة، التي يكفيها عزة أن فطاحلة علماء موريتانيا وصلحائها وأوليائها خلدوا مآثرها عبر قصائدهم العصماء، وتزكياتهم الموثقة.. وهي، للتاريخ، حضن مروءة كريمة، وشهامة عالية، وفروسية مشهودة، ويكفيها شرفا انتسابها لآل البيت، صفوة الخلق والخلق والنبل والعزة.

آثر ولد عبد العزيز في اجتماعاته بالمقربين من أشخاص قبيلته في القصر الرئاسي، وفي منتجعاته، أن يصور لهم ما يقوم به على أنه يخدم القبيلة، وعلى أن حكمه هو “حكم أولاد أبي السباع”… في حين أن الرجل أساء كثيرا حاضرا و مستقبلا لهذه الأسرة الفاضلة، بتصرفاته في هذا الإطار، والتي أصبحت على كل لسان.. فهو الرئيس الموريتاني الأكثر حديثا في مجالسه الخاصة عن القبائل.. (الفلانيين طلبه، الفلانيين ماهم ش، أنا لا أثق في أي شخص من الفلانيين.. الفلانيين يكفيهم أنني عينت منهم مديرا ولم يكن فيهم رئيس مصلحة….إلخ).

إنني أشعر بالاشمئزاز عند تناول هذا الموضوع، وما تناولته إلا تقريبا للصورة من ذهن الرأي العام الوطني، وإن كان البعض يرى أنها أكبر من أن تحتاج لأدوات التقريب. فهي تهيمن على الشارع قبل المجالس الخاصة.

يقدم ولد عبد العزيز لبعض أقاربه معلومات خطيرة هدفها استنفار الحمية القبلية لعلها تطيل من عمر حكمه الآيل إلى الزوال لا محالة. لكن لكل أجل كتاب. فما ستكون يا ترى تركة ولد عبد العزيز للتاريخ و للأجيال المقبلة و لذويه؟ و ماذا سيبقى من ذكراه في الذاكرة الجمعية؟

يردد الرئيس أمام بعض الخلصاء من أقاربه أنه لأول مرة في موريتانيا يتولى منصبي “رئيس الجمهورية” و” رئيس مجلس الشيوخ” الذي هو بمثابة نائب رئيس الجمهورية، شخصان من قبيلة واحدة. و هذه سابقة في العالم اللهم ما كان من الأحكام الملكية.

ومراجعة عينة واحدة من هذه القائمة دليل لا يرقى إليه الشك على طبيعة حكم ولد عبد العزيز:

1.               رئاسة الجمهورية،

2.               رئاسة مجلس الشيوخ،

3.               وكالة سجل السكان والوثائق المؤمنة (هوية الشعب برمته)،

4.               إدارة الصندوق الوطني للضمان الصحي (90% من الأموال المرصودة للصحة)،

5.               الإدارة الفعلية لشركة الذهب،

6.               القائم على مصالح الرئيس في تسويق الغاز و البترول عبر شركة TULLOWلبريطانية

7.               قيادة أركان الطيران العسكري،

8.               إدارة أمن الدولة (الاستخبارات)،

9.               والي ولاية دخلت نواذيبو

10.          مكلف بمهمة في الرئاسة برتبة وزير،

11.          مستشار في الرئاسة برتبة وزير،

12.          إدارة التلفزة الموريتانية،

13.          رئيس اتحاد رجال الأعمال الموريتانيين

14.          8 من أصل 10 من موردي المواد الغذائية  من أقارب الرئيس،

15.         37 من أقارب الرئيس على رأس قائمة 50 رجل أعمال هم الأغنى فيالبلاد.

أصبح ولد عبد العزيز أول رئيس للبلاد يعتمد في كل شيء من تسيير أمور الدولة على أقاربه،بما في ذلك إدارة كل المرافق الحيوية للدولة وثرواتها.

هذه الأخيرة، الثروات، هي هدف “النظام الجيبي” في مساره الحانوتي القاتل.

دعونا لا ننشغل بالطلاء عن طبيعة الجدار ومكوناته.. فالنظام القائم يريد أن يلهينا بقمصانه الحمراء عن لعبته القاتلة للوطن، المفنية للأمة.

قمصان حمراء.. تتجلى في مظهر قبلي، وفي مظهر جهوي، ومظهر شرائحي حقوقي، ومظهر عرقي، هو الشماعة التي تعلق لإخافة القوى الحية من الإقدام على  التغيير..هو الرئيس الذي يعبأ خزانه القبلي، ويشعل نار الفتنة العرقية، ويفجر حساسيات الشرائح..آخر ذلك ما يفوح من رائحة  أزكمت الأنوف من مجالس القصر الرئاسي: “حكم عزيز آخر حكم للبيظان في موريتانيا”. و كأن الموريتانيين يخيفهم أن يتولى رئاسة الجمهورية أحد أشقائنا و مواطنينا الزنوج.. أو كأننا في دولة يمارس فيها الميز العنصري المقيت و لسنا فيدولة عربية إفريقية شعبها مسلم و مسالم.

فما الذي يخطط له أباطرة النظام؟ أهو حرب أهلية تخفي الجرائم التي يجري تنفيذها منذ خمس سنوات، تطمس بذلك آثار النهب الذي تتعرض له ثروات البلاد؟.

منذ عام 2005، تضاعفت ثروات ومداخيل موريتانيا بنسبة800%، وفق أبسط حساب يتم إجراؤه.. فقد انتقل سعر طن الحديد من 27 دولارا إلى 70 دولارا الآن، وتدفقت شلالات من مئات الملايين من الدولارات على قطاعات النفط والتنقيب، وبدأ إنتاج الذهب بكميات خيالية (شحنة كل أسبوع)، وزادت تمويلات المانحين من نصف مليار إلى 5 مليارات دولار، فضلا عن المشاريع التي تنفذها هيئات التمويل العربية والإسلامية (آفطوط الساحلي والمياه، التعليم، الطاقة، الطرق، تمويل تسليح وتدريب الجيش…. إلخ)، ثم الحجم غير المسبوق للهبات والمساعدات والقروض المقدمة من الدول الشقيقة والصديقة.

لم نذكر قطاعات الصيد و الزراعة و التنمية الحيوانية و البنوك و الشركات الأخرى و الضرائب التي تحقق فائضا بـ 147 مليار أوقية بعد أن تخصم منها مرتبات موظفي وعمال الدولة، التي لا تتجاوز 103 مليارات، وفق الأرقام التي أعلنها الرئيس نفسه في لقاء النعمة. نفس الرئيس الذي يتبجح بكل مناسبة و من غير مناسبة أن خزينة الدولة مكتظة  بالمليارات من العملة المحلية و من العملة الصعبة في الوقت الذي يعيش فيه 70% من الشعب تحت خط الفقر المدقع و تجتاح المجاعة بعض مناطق الوطن. يا لها من مفارقة أليمة و سخرية آثمة.  الأطفال و الشيوخ يموتون جوعا و عطشا و مرضا في “آدوابه” و “الكبات، و الخزينة مكتظة، “كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه و ما هو ببالغه” (الرعد).

أجريت الدراسة الجدوائية لإنتاج الذهب من طرف “تازيزات” على أساس أن الشركة المستثمرة والبلاد ستحققان ربحا خياليا ببيع الذهب بسعر 350 دولارا للأوقية، وخلال فترة تجهيز المصنع ومع بدء إنتاج الذهب من المنجم، قفز سعر الذهب عالميا إلى 1700 دولار للأوقية.

كم هي الشحنة التي تحملها طائرة خاصة كل أسبوع.. وسط طوق من السرية لم تشهده أي منشأة في البلاد؟

أين تذهب مليارات الدولارات الناتجة عن عمليات الاستخراج والتنقيب والاستثمار من طرف أكثر من 170 شركة أجنبية تعمل الآن في قطاع المناجم وحده، وأين المليارات التي يجري تحصيلها من قطاعاتنا الاقتصادية (الحديد، الصيد البحري، الذهب)؟!

وما نتائج العمليات الغامضة الدائرة بأساليب وسخة مع الشركات الشرهة في العالم والجهات المشبوهة من شركة (بولي هوندون)، إلى “صناديق آكرا”، إلى صفقة بيع “المستجير” السنوسي.. والعرب لا تسلم الأجير مشركا كان أم مسلما: “و إن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه”(التوبة)

أخشى أن مياه التعتيم غمرت رأس الجبل فتم إخفاؤه كله.

ما دام الشعب الموريتاني لا يجد من الخدمات إلا عبثية “حوانيت أمل”الهزيلة المهينة، فبكل بساطة لا تذهب مداخيل الثروات والتمويلات وأموال الشبهات إلا في اتجاه واحد هو رجال أعمال الرئيس الجدد، وسماسرته في الخارج.

جيل ممن كانوا يلتقطون البعرة، أصبحوا يديرون المليارات والشركات والبنوك، و يبذرون مبالغ خيالية كل ليلة في الكازينوهات و الفنادق الفاخرة للدول المجاورة، وكل ذلك على أنقاض رأس المال العمومي والخاص، وهذا الأخير تم التنكيل بهلأنه لم يستوعب التعامل مع حكم جيبي إلى هذا الحد.هكذا أصبح تفليس رجل الأعمال الناجح محمد ولد بوعماتو الذي كان يسدي كثيرا من أعمال الخير للطبقات المحرومة، ونظرائه ممنأفنوا أعمارهم في بناء مجموعات مالية و اقتصادية،وكأنه هدف “الربيع المالي” الذي يقوده النظام الحالي، والذي لم يجد لإدارة تجارته وثرواته وأمواله السائلة والمنقولة سوى جسر من رعاع الأنفس، الذين كانوا مضرب المثل في التسول على أبواب الشخصيات الاجتماعية. ذلك أن ولد عبد العزيز اجتهد في إقصاء و إبعاد أصحاب الكفاءات و أهل المعرفة و الفضل وبرع في انتقاء من يرتاح للعمل معهم وفق معياري القبلية و المحدودية الثقافية و المعرفية، سواء تعلق الأمر بالتعيينات في المناصب العلياء للدولة أو ب “التعيينات البرلمانية”. و كما نسمع من حين لآخر عن الجيل الجديد من فيروسات الطاعون و الجدري، كون هؤلاء جيلا جديدا أكثر خطورة و دهاء في سرقة أرزاق الشعب و نشر ثقافة اللاثقافة و تشجيع اضمحلال الأخلاق و إبقاء موريتانيا في الحضيض. و من تجليات هذا الواقع الحضيضي الأليم إقدام شاب موريتاني على سب الرسول الأكرم والتبجح بنشرها على أوسع شبكة معلومات في العالم. لم يأت ذلك من فراغ..فقد جاء في فترة قام فيها نظام الجنرال ولد عبد العزيز بتقييد إرادة من يسعون لموريتانيا المستقبل، وبالمقابل قام بإطلاق العنان للأنذال و الأراذل و الفساق و لعصابات السوء الأخلاقي والفكري والحقوقي من أجل تجاوز كل الخطوط الحمراء والمقدسات، للتغطية على فعلاته الانتخابية و إلهاء الشعب عن منكراته الاقتصادية، و لا يعبأ إن صار نبي الرحمة و شفيع الأمة يتلقى الإساءة من أرض المنارة والرباط.

قبل اليوم صدم المجتمع الموريتاني بحثالة حقوقيين يسبون العلماء ويحرقون الكتب الفقهية بما فيها من آيات بينات وأحاديث شريفة، وهكذا طفقوا يروجون ثقافة العنصرية والكره والبغضاء بين فئات شعبنا الواحد.. فلم يسلم منهم عالم ولا مصلح، ولا فئة اجتماعية.. وترك لهم الحبل على الغارب لتشويه حضارة الشناقطة حضارة العرب والأفارقة المجاهدين العظام في هذا الثغر الأبي الذي  ما لم يدرك فيه بالتي هي أحسن لن يدرك بالعنف و الهمجية و العنجهية.

واليوم يأتي شاب مأجور القلم و الحنجرة، من التيار الإلحادي المتغرب، الذي هو نتاج حكم عزيز، ليتهم الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام بالعنصرية، ويدافع بمقاله المسيء عن يهود خيبر..!

من منكم كان يتصور مشهدا كهذا في أرض المسلمين،.؟ لكن  الذي لم يقع في هذه الربوع على مدى أربعة عشر قرن، و لم و لن يقع في بلد إسلامي آخر، وقع اليوم تحت نظام وحكم ولد عبد العزيز مدنسا به أرض الشناقطة العظام، أرض المرابطين الفاتحين. إنها حقا محنة و ابتلاء. نسأل الله تعالى أن لا يؤاخذنا بما فعله السفهاء منا.

لقد كان غضب الشعب الموريتاني و ردة فعله على هذا الإجرام الشنيع على مستوى الحدث الجلل الأليم، فخرجت الحشود من كل صوب و حدب نصرة لله و لرسوله منددة مستنكرة، فهاجمت القصر الرئاسي و اقتحمته محملة النظام مسئولية هذه الانزلاقات و هذا الإفلاس الخلقي الذي يرعاه النظام الحانوتي. 

و يخرج لهم محمد ولد عبد العزيز خرجة الإمام المصلح، ليخاطب المتظاهرين المصدومين بقوله “إن موريتانيا ليست علمانية وإن الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم فوق كل اعتبار، ولا يمكن بأي حال من الأحوال المساس بدين الدولة والشعب”.

ويقول عزيز “كما أكدت لكم في الماضي أؤكد لكم اليوم مجددا إن “هذه الدولة دولة إسلامية وإن الديمقراطية لا تعني المساس بالمقدسات… وأجدد التأكيد مرة أخرى أن رئيس الجمهورية والحكومة سيتخذون جميع الإجراءات من أجل حماية ديننا الإسلامي وأن العدالة ستأخذ مجراها وأن المعني الآن بين يديها تتابع التحقيق معه”.

ما أشبه الليلة بالبارحة…

بالأمس خرج الجنرال عزيز بنفس الزي و اللثام  ليقول نفس الكلام عندما قام بيرام ولد أعبيدي بحرق أمهات كتب الفقه الإسلامي في العاصمة نواكشوط.. لقد تعهد الجنرال يومها أمام نفس المتظاهرين بحماية مقدسات الدين وبمحاكمة الجناة.

ترى هل تمت محاكمة من حرقوا الكتب الإسلامية؟ وماذا كانت نتيجة تعهد الجنرال؟ ألم تكن كذبة مشهودة؟ فمن حرقوا كتب الإسلام ينعمون اليوم بجوائز الأمم المتحدة وبفنادق الغرب المتصهين وبأمواله.

وكل ذلك بسبب لا مبالاة الحكم الفرد بأساليبه الحانوتية، بقيم الدين والمجتمع ومصالح الأمة.

 

يذكرني ما يجري في موريتانيا بحكم”ديونيسيوس”حاكم سرقوسة،الذي حاز السبق التاريخي بإرسائه أول حكم للمرتزقة تحت مسمى الديمقراطية المرفهة. وطوال التاريخ لم تتخلص الدول التي حكمتها العصابات من إرثها العصابي إلا بكثير من الدماء والفتن.

 

في موريتانيا.. لا تتوقعوا أن ينصف”قارقوش” فلاحا.. لأن إدراكه لتسيير الشأن العام منوط بمحدودية ذكائه، قبل أن يكون وليد شهوة مرضية مما زين للناس، وفق مدلول الآية الكريمة الشهيرة.”زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة  من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث. ذلك متاع الحياة الدنيا و الله عنده حسن المآب”. (آل عمران)

نحن هنا أمام واقع مر ومرير، أمام أمة تباع مصالحها بالجملة والتجزئة.. حتى بطاقة الهوية الوطنية دخلت مزاد الاستثمار الفردي، بأبشع صورة تقع عليها العين.

ألم يتوقف أحدكم عند تجل بسيط لظاهرة “الحكم الجيبي”.. إذا نظرتم إلى بطاقة التعريف الوطنية الجديدة ستجدون أنه مكتوب عليها أنها صادرة عن إدارة الأمن الوطني، وهي الصادرة عن “إدارة أمربيه ولد الولي”، الاسم الشائع لهذه الإدارة لدى المواطنين البسطاء و لا علاقة لها البتة  بإدارة الأمن.

 

لقد كانت هذه المهزلة المضحكة المبكية و التي وصفت بأنها انتخابات، فضيحة سياسية و أخلاقية حولت الانتخابات البرلمانية و البلدية إلى أهازيج فولكلورية و مبارزات كانتونات في أغلب المناطق حيث أيقظت حاسة المرجعية القبلية بشكل مخيف يعيدنا إلى مربع الصفر إن لم نقل إلى قعر الجحيم السياسي القادم. و ما جرى في هذه الانتخابات من ما يندى له الجبين و تقشعر منه الأبدان هو عربون و نذير من النذر الأولى لما يخطط له و ينتظرنا في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

يا للحد الذي وصلته السخرية من هذا الشعب.. إنه فعلا يرغم على شرب الرمال.. ويسام ذلاّ في أودية العطش النفعية.

البلاد الآن تدخل أسوء حقبة عرفتها على مر التاريخ، لم تصلها في أحلك الحقب الطائعية… البلد الآن يجري عكس عقارب ساعة التغيير.. المجتمع يسلم مفاتيحه لسدنة الفساد.. عملية الاستنساخ أنجبت من رحم الفساد نفس الوجوه بملامحها، بلعبها بالكلام والمفاهيم، بنواياها ومبادئها الخلفية. لا شيء تغير.. الناس تسير في الهاوية نفسها..

النخبة الفكرية والسياسية، إلا من رحم ربك، تمالأت أيضا وأصيبت بخرس مريب.  ألا أذكركم أن الصامت على الباطل شيطان أخرس.

ليس الآن من السهل انتزاع موريتانيا من بين مخالب طائر الفساد المحلق منذ الآن بخيله و رجله فوق صناديق اقتراع  الرئاسياتالوشيكة و فوق الضمائر المريضة و الذمم الرخيصة، يعدهم و يمنيهم.

السياسة معركة لا يموت  فيها  سوى الشعوب المغفلة والأوطان المهملة.

البحث عن الكرامة الوطنية في هذه التلال أصبح مستحيلا في هذا الظرف… ومع كل هذا التغيير الذي نخرج منه بلا تغيير… جعجعة بلا طحين.

 

ما الذي يمكن للنخبة الوطنية فعله إزاء ما يجري؟ وقد بلغ السيل الزبى، وتجاوزت خطوات التراجع كل التوقع مع التسيير البرزخي للبلاد ومصالح الأمة الموريتانية؟

ثمة العديد من المحاور التي يجب أن نتحرك الآن باتجاهها دون تردد، فصناعة الفرص أفضل من انتظارها. و كما قرأت لأحد الكتاب “لا بد من مشروع ما بعد التحرير قبل التحرير”.

سأتحفظ قطعا على تقديم الحلول الفرضية، التي تسمى في الخطاب السياسي بالوصفات الجاهزة، ولكن ثمة تصورات وأفكار يمكن نقاشها وتطويرها لإخراج البلاد من المساحة ما بين المطرقة والسندان، المساحة ما بين الجمر والرماد.فميزان القوة سهل التغيير أمام بوصلة سياسية واعية بظروف ومعطيات المجتمع ونقاط القوة والضعف. ولا شك أن الحكم الجيبي في مساره الحانوتي هو الأسهل مشاغلة عن خطة محكمة في هذا المجال لإعادة تأسيس الدولة على أسس سليمة، لأنه ببساطة مشغول البال بجمع المال، والله تبارك وتعالى ما جعل لرجل من قلبين في جوفه.

 

نصيحة و موعظة لمن يهمه الأمر،كي لا تأخذني في الله لومة لائملأن الله يسأل عن صحبة ساعة. مع العلم أنه سيوجد من بين بطانة و موالي  من سيسفه له نصحي و مقالي و يزين له الصدود عنه والتعالي. لكن لست بذا الشأن أبالي، فالله حسيبي في قصدي و نيتي و فعالي، فأقول  و عليه معتمدي و اتكالي:

·       تأمل أيها الرئيس هذه الآية لعلها تحدث لك ذكرى. و إنما يذكر أولو الألباب: “و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة و تركتم ما خولناكم وراء ظهوركم و ما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء. لقد تقطع بينكم و ضل عنكم ما كنتم تزعمون” (الأنعام). 

·       اعلم أن لكل مواطن عليك حقا سوف يقاضيك فيه بين يدي الله “يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا. و يحذركم الله نفسه”. فهل أعددت حجتك؟

·       اعلم أنه “من يغلل يأتي بما غل يوم القيامة”.

·       اعلم أنك ستحمل أوزارك و أوزار كل مظلوم و محروم و أوزار من يضلونك عن الصراط السوي و اعلم أن العقبة كأداء “و إن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء و لو كان ذا قربى”.

·       اعلم، و أنت سليل العترة الطاهرة و النسب الأعلى، أن الحسنة حسنة و هي في بيوت النبوة أحسن و أن السيئة سيئة و هي في بيوت النبوة أسوء. “يا نساء النبي من يأتي منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين و كان ذلك على الله يسيرا. و من يقنت منكن لله و رسوله و تعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين و أعتدنا لها رزقا كريما” (الأحزاب).

اللهم إنك قلت و أمرت”فذكر بالقرآن من يخاف وعيدي” اللهم إني قد فعلت. اللهم فاشهد.

·       و في الأخير تأمل أيها الرئيس هذه الأبيات :

 

أين الملوك و أبناء الملوك ومـن            كانوا إذا الناس قاموا هيبة جلسوا

        كأنهم قط ما كانوا ولا خلقــــوا               ومات ذكرهم بين الورى ونسوا         حطوا الملابس لما ألبسوا حللا              من التراب على أجسادهم و كسوا

اللهم إنا نسألك حسن المآب.

رسالة إلى إخوتي في المعارضة المحاورة و من يحذو حذوهم

السلام عليكم أيها الزعماء الأجلاء، رموز الصمود و النضال في بلاد الرجال.. كفاكم مهادنة وعقلانية.. كفاكم أيضا من الصبر والحكمة والموعظة،  فمن تخاطبون بالمودة وطلب الحوار والسجال  هو من يملك الصفقات و العمولات و العقارات والاستثمارات والمناصب والمغاصب.. ولن يتنازل عن جنته ولن يتخلى عن شيطانه و لن يسلك بالدولة إلا طريقا واحدا..  انسوا أمر “الأنظمة الفاضلة”..

لا تكونوا عامل تبرير، وديكور توظيفي في مشهد سياسي ملوث، كفاكم من سياسة التعازي، والقبول بالأمر الواقع وانتظار الفرج… لا تكونوا كما كنتم.. وإلا فإنكم وحاملها وبائعها و شاريها وشاربها واحد..انتبهوا لحرثكم! لقد قطف الآخرون ما زرعتم أو كادوا. انتبهوا ليومكم، فلا تغرنكم حصيلته… انتبهوا لغدكم و إلا فإن أمامكم خمس شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون… من كرامتكم و مصداقيتكم…. اصمدوا و دافعوا و قاوموا و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين… و سيأتي الله بعام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون.

 

نحن والمسار الحانوتيّ (الحلقة الثالثة)/ بقلم/ الدكتور الشيخ المختار ولد حرمة ولد ببانا

يتواصل…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى