لا تلمسوا بقالة العقيد!!!

كان في مدينة نواكشوط منتصف تسعينيات القرن الفارط، رجل عرفه كثير من سكان العاصمة، نذر نفسه لتنظيم السير وتوزيع النصائح ـ المبطنة بالأوامر ـ على أصحاب البقالات والدكاكين وعمال المكاتب، والباعة المتجولين.

وكان لهذا الرجل روتين صارم جدا: يستيقظ السادسة صباحا، ويتوجه إلى أحد أكبر ملتقيات الطرق، ويباشر عمله المعروف بانتظام، ومواظبة يحسد عليهما، وحين ينهكه التعب، وتلفحه شمس القائظة صيفا، يشفق عليه المارة ويطلبون منه أن يأخذ قسطا من الراحة حتى تثوب إليه نفسه، لكن الرجل الصارم كان يرفض رفضا قاطعا أن يعرف طعم الراحة، كان يشير إلى العمال المنتشرين في الشوارع والطرقات قائلا: هؤلاء كلهم أوغاد، لصوص، ينتظرون فقط أن أتركهم لحظة لكي يستولوا على كل أموالي وشركاتي ويتقاسمون ثروتي.!!!

نعم… كان هذا الرجل المسكين يعتقد أن العاصمة نواكشوط، بلحمها وشحمها ملك له، وأن سكانها من شرطي المرور حتى أكبر موظف في الدولة عمال عنده، لكنهم عمال خونة أنذال يتحينون الفرص للإيقاع به، وأن عليه ـ والحالة هذه ـ

أن يظل يقظا فطنا، لماحا، وأن يحيط علما بكل شاردة وواردة وإلا تحدث الكارثة.!!!

شيئ قريب هذا حدث مع الرئيس الأسبق، وأؤكد هنا على “أفعل” التفضيل فالرجل ختم خاطرته الأخيرة بـوسم “الرئيس السابق أعلي ولد محمد فال” متجاهلا بذلك ثلاثة رؤساء خلفوه وتعاقبوا من بعده على المنصب، سوى أننا لا نعرف هل يتعلق الأمر هنا بخطأ صرفي أم “تصرفي” ، لكن الرئيس الأسبق لم يتجاهل خلفاءه فحسب، بل تجاهل الواقع السياسي برمته، فالقول مثلا إن الرئيس محمد ولد عبد العزيز، هو “مارق عسكري” فيه كثير من التجني، والشطط على شخص انتخبه الموريتانيون مرتين. وإلا فإن أعلي ولد محمد فال نفسه لا يزال ـ بهذا المنطق ـ مدير أمن ولد الطايع، إلى ما يترتب على ذلك من مسئولية أخلاقية وحتى جنائية ربما.

المثير في الأمر أن السيد أعلي ولد محمد فال، الواصف لرئيس منتخب بـ “المارق العسكري” والمتهم للرئيس محمد ولد عبد العزيز بالتفرد بالحكم والسلطة، وبسوء التدبير والتسيير هو نفسه مهندس سياسة ” عفا الله عما سلف” التي كرست الإفلات من طائلة العقاب، وحمت نهبة أموال

المساكين عقودا طويلة، وأنقذت نظام ولد الطائع وبطانته من حساب كان ليغدو عبرة لمن يعتبر.

لكن العقيد يتحدث، بعد ذلك، بنبرة الحريص على مؤسسات الدولة والوصي على بقاءها وفعالية دورها.

المفارقة أنه في وقت زج الرئيس محمد ولد عبد العزيز بعدد من وزراءه السابقين، ومسئولين سامين من حكوماته في السجن على خلفية الفساد، وفرض على الكثيرين منهم ومن غيرهم إعادة الأموال المنهوبة الى الخزينة العامة، وهذه كلها وقائع معروفة يمكن الرجوع إليها، يجزم العقيد أن الرئيس يستخدم القضاء لتصفية حساباته الشخصية.؟!

ليس ذلك فقط، فحديث ولد محمد فال الأخير تطرق إلى موضوع خطير ومهم حين قال إن الرئيس ولد عبد العزيز لا يجد ما يعامل به خصومه السياسيين سوى “زجهم في السجون”، والواقع أن موريتانيا الحالية خالية من أي سجين سياسي أو سجين رأي بشهادة المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية، بل لعل أهم ما سيذكره التاريخ عن الرئيس الحالي أن فترته تميزت بمنح أكبر قسط من الحريات السياسية والإعلامية والنقابية في تاريخ البلاد.

أما اليد الباطشة للنظام الأمني التي أخذت بخناق الشعب وكتمت أنفاسه، وساسته بصنوف الهون والهوان، وحولت

البلاد إلى قطعة من السعير، وتناثر في عهدها الشعب قبائل وطوائف متناحرة فهي اليوم تشعر بأقصى درجات الخطر على موريتانيا ووحدتها الوطنية.!!!

الغريب أن الحديث المقتضب الذي بدأ بحادثة اختطاف وانتهى بصاحب بقالة، لم يقدم رؤية واضحة للوضعية التي يزعم العقيد أعلي ولد محمد فال أن موريتانيا تعيشها، ولم يتطرق إلى الأسباب والدواعي التي أدت بالبلاد إلى ماهي عليه.

حتى في حديثه عن غريمه السياسي كان العقيد أعلي ولد محمد فال يطلق كلاما عاما، يتحدث خبط عشواء، بدون رابط منطقي واضح، يحاول أن يقول شيئا ما ولكنه يحجم عن قوله في النهاية، يدور، ثم يعود إلى نقطة الصفر.

لعل العقيد، والرئيس السابق الأسبق أراد أن يقول إن هذه “البقالة” ملك له هو وحده، وأنه اكتتبنا معشر الموريتانيين من “شرطي المرور” إلى أكبر موظف في هرم في الدولة، لنكون عمالا عنده، وأنه، بما أننا خونة وأنذال، ومتربصون، ينبغي أن يذكرنا كل أسبوعين أو ثلاثة، في مقال، أو مقابلة أو خطاب، بأننا مجرد عمال عنده، وأننا ينبغي أن نلزم حدودنا، ونفق عندها، وأنه لن يسمح لنا بإفساد “البقالة” أو ما تبقى منها على الأصح، وأنه، هنا، يراقبنا، وأنه يشد حزامه إلى خصره، وبيده هراوته العتيدة.. مشهد مخيف جدا، أليس

كذلك؟ هكذا يخيل إلى العقيد.. نعم.. البطالة السياسية تفعل ذلك.!!!

سيداتي ولد خطري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى