فرنسا : بين المواطنة والطائفية

في 22 مارس سنة 2005 وصلتني وأنا في لندن رسالة قلقة بعث بها إليَ الفيلسوف الفرنسي الراحل دانيال بنسعيد يقول فيها إنه يود “أن نجد الفرصة لأناقش معك هذه القضايا التي تنتهي بأن تخلق مناخا مخيفا.

”  كان يشير إلى الجدل الذي رافق صدور “بيان الأهليين” وميلاد الحركة التي تحمل نفس الاسم. الواقع حينها أن الحماس الجماعي الذي ميّز التعبئة المناهضة للحرب على العراق سنة 2003 أخذ يتفكك ويتشظى. انهار أمام قانون منع الحجاب في المدارس سنة 2004 والسجال الذي مهّد لاستصدار هذا القانون. شعر المسلمون الفرنسيون، صوابا أو خطأ، أنهم يواجهون مرة أخرى لوحدهم حملة دعائية عدائية متعمدة. انقسمتْ من جديد الأوساط النضالية تجاه القانون. جاء بيان الأهليين ليتّهم كل التيارات بالتواطؤ جزئيا أو كليا مع الخطاب العنصري. وليتهمهم بتبني خطاب بوشي. كرّر البيان : “”فرنسا كانت دولة استعمارية … فرنسا ما تزال استعمارية”.

ـ2ـ

 أفصح  (بنسا) ـ كما يسميه رفاقُه في أقصى اليسار ـ عن قلق كبير مِمّنْ يسميهم “بالباحثين عن اللحظة صفر” ويعني بهم بعض الليكوديين الفرنسيين. يشعر أنهم يعملون كل ما بوسعهم لخلق فتنة طائفية شاملة في فرنسا خصوصا بين اليهود والمسلمين. يشعر أن الاسلاموفوبيا تغزو حتى فئات في محيطه الأيديولوحي المقربّ منه. ويشعر أن أصدقاءه المسلمين يبتعدون وينعزلون شيئا فشيئا.

ـ3ـ

بعدها بشهرين بعث لي برسالة كان يحضّرها مع آخرين للنشر. يردّ فيها على رسالة وجهها هابرماس وغنـترغراس وأسماء ألمانية أخرى إلى المثقفين الفرنسيين ( لموند، 3 مايو 2004) . الهدف من الرسالة الألمانية كان تحذير الفرنسيين من مخاطر التصويت بـ”لا” على معاهادة روما الثانية. يَذكر هابرماس وأصدقاؤه سلسلة مما يرونه مزايا للاتحاد الأوربي. ويعددّون  من بينها “السلام الداخلي في أوربا”. كان ردّ دانييل بنسعيد  على هذه النقطة أن “لا ننسى أن السلام الداخلي النسبي الذي عمره ستون سنة تمَّ مقابل مشاركة (الدول الأربية) في كل الحملات الاستعمارية والامبريالية، في إفريقيا والخليج”.

يمكن أن نضيف اليوم أنه ليس مستبعدا تماما أن ينهار هذا السلام الداخلي مقابل نفس المشاركة.

ـ4ـ

عشر سنوات مرّتْ ولم يزدد الشرخ إلا اتساعا. من نظرية “الاستبدال الكبير” إلى أحداث (شارلي أبدو). وبشكل خاص فإن علاقة الطائفتين الاسلامية واليهودية في فرنسا تأخذ منحى سلبيا متزايدا. تتغدى سلبيته من تراكم عناصر خارجية وداخلية معروفة. وهو أمر له مخاطره المتفاقمة في بلد يضمّ أكبر جالية إسلامية في أوربا تماما كما يضم أكبر جالية يهودية.

ويزيد الأمر تركيبا أن الخريطة الاجتماعية السياسية  قد أكملتْ نصف دورة منذ الحرب العالمية الثانية. أنزاحت صورة شرقيي الغرب شيئا فشيئا عن اليهود إلى المسلمين. الصورة الأوربية لليهود كمجموعة غير قابلة للاندماج أصبحت الآن أساسا صورة المسلمين. وأغلب التشكلات المؤنمطة المرتبطة بهذه الصورة أُسقطتْ ملمحا ملمحا على المسلمين. بشكل خاص فصورة القرن التاسع عشر عن اليهود كأمة داخل الأمة شهدت الإنزياح نفسه. وكما قال منذ سنوات وبغبطة  بيرنارد لويس : مؤيدوا اسرائيل اليوم هم أعداء السامية ليس لأنهم لم يعودا يكرهون اليهود بل لأنهم يكرهون المسلمين أكثر.

أكثر من ذلك. تبدو الإسلاموفوبيا وقد وحّدت أعداء الأمس : أقصى اليمين وأطراف مسيحية وجزء معتبر من الحركة النسوية ومجموع الأوساط الصهيونية وتيارات حقوقية وأخرى سلوكية وأجزاء من اليسار وحتى من أقصى اليسار. كثيرٌ من الأطراف التي كانت تاريخيا شديدة العداء تجاه بعضها البعض أخذ الخوف من المسلمين يجمعها شيئا فشيئا.

ـ5ـ

ما العمل فيما يتجاوز أوهام أقصى اليمين؟ (باتريك فييْ) أستاذ تمّ تكليفه سنة 1997من قبل حكومة (ليونيل جوسبين) بصياغة تقرير عن الهجرة. روى مرةً بحضوري أنه اكتشف خلال تحضيره للتقرير أن الرئيس الفرنسي (فاليري جسكار دستان) حين لاحظ عدد المسلمين في فرنسا سنة 1981 طلب ترحيلهم إلى بلادهم الأصلية. ردّ عليه أحد مستشاريه (كما روى ‘فييْ’) : “لم نعد نستطيع أن نفعل ذلك. صار فيه شيء اسمه الكاميرا. “

ولكن الكاميرا ليستْ بالضرورة ـ أو لم تعد بالضرورة ـ حليفة للحقيقة. المسلمون في فرنسا وفي أوربا يواجهون تحديا وجوديا يزداد يوما بعد يوم مع كل حادثة وكل جريمة. يلزم التفكير فيه بجدية.

 

 

 

 

 

* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل

[email protected]

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى