إستشفائية محمد ولد عبدي.. والتيه العربي

 خالد عمر بن ققه

في الثامن والعشرين من كانون الاول الماضي فقدت الساحة العربية ـ في كل من موريتانيا والإمارات ـ  الكاتب الكبير محمد ولد عبدي، وكان الراحل ـ يرحمه الله ـ  مثقفا من الطراز الأول، وناقدا متمكنا، وشاعرا مفوها، وقد خسرنا برحيله ـ على المستوى القومي ـ موسوعة معرفية ذات طابع حركي، سنعوّل ما بقي منها مكتوبا لصيغة مشروع حضاري، بوصفه إرثا لجميع العرب، ولست هنا بصدد ذكر مناقب وأعمال ولد عبدي الشعرية والنثرية ـ فما أكثرها وما أعجزني وغيري عن الإلمام بها، لكن أود الوقوف هنا حول ثلاث مسائل أرأها ضرورة بالطرح والنقاش والمتابعة.

تتعلق الأولى بالعطاء المعرفي للنخبة الموريتانية، التي تملك ـ وأنا أصدر حكمي وأدلي بشهادتي بناء على معايشة مع عدد من عناصرها في مختلف المجالات ـ  فهو من الثراء والتميز ما يجعله إضافة نوعية للإبداع العربي، وقوته في خصوصيته المورتانية.. إنه ـ وحسب قراءاتي ـ  في منزلة بين الطرح المغربي والأندلسي للفلسفة، والتصور المشرقي للأداب، مع حضور إيماني من خلال مباحث متراكمة في الفقه، وخاصة في المذهب المالكي، لذلك على المحاور أو المستمع للنخبة الموريتانية أن يتميز بطقوس خاصة، حيث حياء العلماء جلي في معظم الكتابات والمناقشات، وربما يؤيد قولي هذا الذين استعموا للدكتور محمد ولد عبدي عن قربأ أو تحاوروا معه، أو من دخلوا معه في نقاش حتى لو كان متجاوزا للحوار ومستغرقا في الجدل، وهو ما كان يرفضه بطريقة غير مباشرة.

النخبة الموريتانية

لست أدري ان كان يحق لي أن أعاتب النخبة الموريتانية عن حيائها المفرط، وتحوله أحيانا إلى عزلة وانطواء، وعدم تفاعل مع الآخر إلا في حدود ضيقة، مما أفقدها التواجد على نطاق واسع في الإعلام العربي، مع أنها الأحق من غيرها في الظهور الإعلامي والمشاركة في المؤتمرات والندوات، وهذا على عكس فقيدنا ولد عبدي الذي كان منفتحا عن الجميع، ودائم الحضور ومميزا بين النافع والضار في النقاشات بل والكتابات أيضا، وإذا نظرنا إلى حضوره في هذه الدنيا الفانيو من الناحية العمرية، فهو أعطى الكثير خلال العقود الخمسة التي عاشها، والتي ترك فيها كتابات تعد من أمهات الدراسات النقدية ـ التأصلية.

 المأسالة الثانية، تتعلق بشكل مباشر بالمبدع الراحل محمد ولد عبدي،  فبما أنه رجل صالح معرفيا وإبداعيا، ونحسب كذلك في أعماله الخاصة ـ ولا نزكي على الله أحدا ـ فإن الواجب على المؤسسات العربية ـ خاصة في موريتانيا والإمارات ـ أن تعيد نشر إبداعاته وتعميمها بين النخب وفي الجامعات والمعاهد والمركز البحثية، ليس  فقط لما فيها من خير للباحثين والكتاب، ولكن لإطلاع على الإبداع الموريتاني، من منطلق أن الأمة العربية في حاجة إلى معرفة  الانتاج المعــــرفي للأطراف ودعمها للمركز في ظل حروب متواصلة من أجل الهوية والإنتماء، وأعتقد أن إنتاج ولد عبدي في احدى دول المركز قد أقام الحجة علينا للاهتمام بالإبداع الموريتاني في مختلف المجالات، وهنا يعد إنتاج الكاتب الراحل عملا صالحا  لشعبه ولأمته.

ولد عبدي.. ثلمة الزمن

لقد مثّل ولد عبدي ـ من خلال عطائه المعرفي ـ موسوعة فكرية ومشروعا قائما بذاته، وبفقدانه إذا اعتبرناه عالما في مجاله وهو بالفعل كذلك، فإن نواجه اليوم فتح” ثلمة” في حياتنا الفكرية، انطلاقا من قول الحسن البصري:” موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار”، ولا يمكن سدّ تلك الثلمة إلا بمواصلة مشروعه من خلال إعادة  نشر مؤلفاته وتعميمها وإقامة حلقات دراسبة حولها، بعيدا عن أجواء الاحتفاليات والمناسبات، وهذا الأمر لا يخص الموريتانيين وحدهم، بل يهم العرب جميعهم، خاصة أولئك الذين لم يسبق لهم الاطلاع على كتاباته.المسألة الثالثة، تتعلق بتجاوز حدود الأدب إلى السياسة، فقد رحل ولد عبدي، ونحن ـ على مستوى أمتنا في حاجة إلى العقلاء من أمثاله، تركنا ونحن في حاجة إلى أهل الرشد في زمن التيه، وإلى أهل الحكمة في زمن الجهل، وإلى أهل النور في زمن الظلام، وإلى أهل التفاؤل والأمل في زمن اليأس، وإلى أهل السلام في زمن الحرب، وكل تلك الحالات التي نحن في حاجة ماسة إليه، أختصرها في قصيدته التي تعتبر مناجاة العبد إلى ربه في أسمى معانيها، المساه” بالإستشفائية”، مسجلة بصوته وموجودة على كثير من مواقع التواصل الاجتماعي، إذْ لم يكن ولد عبدي مريضا وحده، بل الأمة بأكملها، لذلك علينا الترويج لقصيدته تلك من منطلق سياسي وليس إبداعي، لأنه لو ادّارك صنّاع القرار بتأثر ما جاء فيها لعدلوا من قرارتهم، ولتمكنوا من تجنيب شعوبهم ودولهم كثيرا من الويلات.

بيان في زمن التردّي

ليسمح لي قراّء وتلاميذ وعشاق الراحل محمد عبدي ـ رغم تأثري الشديد وتأثرهم أيضا بقصيدته الأخيرة” الإستشفائية” ـ أن أحوّل الخاص إلى عام، وأعتبر مناجاته وشكواه وبث حزنه إلى الله تعبيرا عنّا جميعا، وهي وإن كانت غارقة في الخصوصية تعمق إيماننا بعد رحيله ليس لكوننا لا نزال أحياء فحسب، وإنما لأنها تخرجنا من الغفلة إلى البصيرة، ومن الخنوع إلى المواجهة، ومن ضيق مطارة البشر والمعاصي وفتن الدنيا إلى سعة رحمة الله ورحجان كفة الخير.قصيدة الإستشافية بيان لنا جميعا في زمن التردي، لا ندرك أهميتها إلا حين نزيل الحواجز القائمة بين الخاص والعام، ولتحقيق ذلك علينا السعي إلى لحظة نور أو تجلي أو برهان أو عرفان، بالـتأكيد عرفها محمد ولدي في زمن المحنة، وعرّفها الله له بعد رحيله، بقي فقط كيف ندخل ذلك العالم أحياء أو أمواتاً، من خلال تجربة ولد عبدي، التي هي تجربة الإنسان في كل زمان ومكان مع اختلاف في النهايات لم يستعد لها الأفراد والجماعات والشعوب والأمم مع أنهم خلقوا ليتعارفوا: إن  أكرمهم عند الله أتفاهم.

 

رابط  القصيدة بصوت الدكتور محمد ولد عبدي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى