مذيع “الجزيرة” أحمد منصور ومطاردة الإنتربول /عبد الباري عطوان

altأن تتهم السلطات المصرية الزميل احمد منصور المذيع بقناة “الجزيرة” بطول اللسان، أو الانتماء إلى حركة “الإخوان المسلمين” أو حتى تنظيم القاعدة و”جبهة النصرة”، أو السب والقذف، فكل هذا يمكن توقعه، أو حتى فبركته، ولكن أن توجه إليه اتهامات بالتعذيب وتطالب البوليس الدولي “الانتربول” باعتقاله وتسليمه، فهذا أمر لا يقبله عقل ولا يستقيم مع أي منطق، حتى منطق شريعة الغاب

بداية أحب أن أوضح بأنني لستُ من أصدقاء السيد منصور، وليس بيننا غير التحية عن بعد، ولم اظهر مطلقا في برنامجه الشهير “بلا حدود”، ولا اعتقد أنني سأكون احد ضيوفه في المستقبل، لأنني في حال قطيعة مع قناة “الجزيرة” منذ ثلاث سنوات، وبالتحديد منذ انطلاق شرارة ما اتفق على تسميته بـ”الربيع العربي”، لأسباب ليس هذا مجالها أو وقت شرحها ولكني أدين بشدة، ودون أي تحفظ، الحملة “الإرهابية” التي يتعرض لها مع زملاء آخرين من قبل أجهزة الأمن المصرية، وبعض القنوات المصرية التي خرجت عن المهنية والموضوعية وحرضت ضد كل من لا يتفقون مع توجهاتها

 

السيد منصور يمارس التعذيب فعلا، وبأشرس الأدوات الحضارية، ولكن ضد معظم ” ضحاياه الذين يستضيفهم في برامجه، ويشويهم بأسئلته المحرجة ولذلك فان طلب النائب العام المصري من نظيره القطري، والشرطة الدولية (الانتربول) القبض عليه، للتحقيق معه، في اتهامات موجهة إليه بتعذيب “محام” بوسط القاهرة خلال أحداث ثورة 25 يناير عام 2011، أمر مضحك، ويسخّف القضاء المصري وإجراءاته، ويكشف عن طابع الثأرية والعقلية الانتقامية، لدى المجموعة التي تحكم مصر حاليا

 

انتماء الزميل منصور للتيار الإسلامي، وربما لحركة “الإخوان المسلمين” ليس سرا، كما أن الرجل لم يخفيه مطلقا، رغم لحيته “الخفيفة”، وجاهر بهذا الانتماء في مقالاته وبرامجه، ووقف خطيبا على منصة رابعة العدوية، ومنصات احتجاجية أخرى، وهاجم حكم العسكر بشراسة، وانتصر لشرعية الرئيس محمد مرسي وطالب، وما زال، بعودته إلى قصر الرئاسة، وهذه هي جريمة الحقيقة في نظر حكام مصر الديمقراطيين الجدد التي يطاردونه من اجلها، ويقيمون “محاكم التفتيش” للتنكيل بمعتنقيها

 

شخصيا اختلف مع الزميل منصور كليا في اندفاعاته السياسية هذه والمبالغة في إظهار انتماءاته الإخوانية بهذه القوة والتحدي، وعدائه الشرس للانقلاب العسكري، ومصدر حقه في التعبير عن رأيه أو اختيار معتقداته، وإنما بسبب مهنته كمقدم برامج، ومحاور في محطة فضائية تدعي الموضوعية، وتلتزم بميثاق شرف إعلامي تفاخرت وتتفاخر بوضعه وفرض بنوده بصراحة على العاملين فيها، وتدرسه للمتدربين في مراكزها، وأول كلمة فيه “الحياد”

 

السلطات المصرية لا تطيق قناة “الجزيرة” وتتهمها بموالاة الإخوان المسلمين، وهي تهمة صحيحة في بعض جوانبها ولا تستطيع القناة التملص منها مهما تذاكت في ردودها، ولو استطاعت أي السلطات المصرية قصفها بصاروخ برأس نووي، أسوة بما فكر فيه الرئيس الامريكي الأسبق جورج بوش الابن في ذروة حرب العراق، لما ترددت عن ذلك مطلقا، ولكنها اكتفت باقتحام مكتبها في القاهرة ومحاولة حرقه، وأوقفت بث قناتها المصرية المخصصة في الأساس لدعم حركة “الإخوان” في مواجهة خصومها من العسكر والليبراليين الدائرين في فلكهم

 

مطاردة السيد منصور تأتي في وقت تتراجع فيه الحريات في مصر، بأشكالها كافة، بسرعة غير معهودة، وأولها حرية التظاهر والتعبير، لمنع أي انتقاد أو احتجاج ضد سياسات الحكومة الحالية ذات الطابع الإقصائي، من خلال إصدار قوانين كان آخرها منع المظاهرات غير المرخصة

بالأمس اعتقلت قوات الأمن 44 متظاهرا تجمعوا مع مئات آخرين أمام مقر مجلس الشورى ضد هذا القانون المجحف، كما أصدرت نقابة الصحافيين، وهي ليست تابعة لحركة الإخوان بالمناسبة، ورئيسها ناصري علماني، أصدرت بيانا أدانت فيه بشدة “انتهاكات طالت أعضائها خلال تغطيتهم هذه المظاهرات، إلى حد منعهم من العمل، والاعتداء عليهم وتحطيم كاميراتهم، علاوة على احتجاز عدد منهم في مكان الحدث، والتعدي عليهم بالضرب والسباب، واحتجاز صحافيات دون أي سند قانوني، وضربهن، ونقلهن بطرق غير قانونية في سيارات الترحيلات وتركهن في منتصف الليل في قلب الصحراء”.

انتهى نص البيان

 

الغالبية العظمى من الذين تظاهروا ضد قانون منع التظاهر، ممن يطلقون على أنفسهم التيار الثالث، أي من غير الإسلاميين، مثل شباب حركة السادس من ابريل “والاشتراكيين الثوريين” و”جبهة طريق الثورة” و”حزب مصر القوية” وغيرها، وقد تعاطف مع هؤلاء عشرة من أعضاء لجنة وضع الدستور 50 عضوا تجميد عضويتهم فيها احتجاجا على القانون نفسه علاوة على اعتراضهم عن فقرات أخرى تقر انتهاكات حقوق الإنسان، وتضع العسكر فوق أي مساءلة نيابية أو دستورية

 

نحن مع حق الدولة المصرية في تنظيم أعمال التظاهر حفاظا على الأمن والنظام من خلال قوانين واضحة وصريحة، فجميع الدول الديمقراطية المحترمة تنتهج هذا الدليل منعا للفوضى وأعمال الشغب، ولكن مصر اليوم ليست السويد ولا بريطانيا، عندما تمتد جذور ديمقراطيتها إلى خمسة قرون، أو حتى ربع قرن، فلها الحق في إصدار القوانين المانعة للتظاهر هذه، لأنه سيكون هناك برلمان منتخب يمارس فيه نواب الشعب واجبهم الديمقراطي في الحوار والتعبير عن هموم ناخبيهم ومشاكلهم المسألة ليست اعتقال السيد منصور وزملائه، وإنما مسألة “تغيير ديمقراطي” أنجزه الشعب المصري بدماء ضحاياه وأرواحهم من خلال ثورة شعبية سلمية كانت وما زالت، الأعظم في تاريخه ضد حكم استبدادي مجرم، ثورة تتآكل بسرعة، ويحل مكانها حكم يريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى زمن الفساد وتوغل الأمن السياسي والأحكام العسكرية، والعقلية الثأرية الانتقامية، وهذا من الصعب أن يقبله الشعب المصري أو أي شعب آخر

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى