العين التي رأت لعميد الأدب العالم/ محمدبون
🟤🟠 المذكرة الصغيرة – شنقيط
في أغشت من هذا العام، وعلى حصير في محمل بواحة ” تندوعلي “بشنقيط، انفتحت لي فجوة في الذاكرة… تذكّرت وأنا أقلب مذكرة صغيرة قديمة تلك الأيام التي كنت أقرأ فيها الأيام لطه حسين، طفلًا بعد لم تنبت لحيته، يدوّن في مذكرته الصغيرة كما أفعل الآن. كنت أكتب بخطّ مرتجف في دفتر مهترئ اسمه: “يومياتي”، وذات مرة نقلت فيه جملة أثّرت فيّ:
“سوزان بريسو… عيناه اللتان كان يرى بهما العالم.”
لم تكن مجرد زوجة، بل كانت معجزة أنثوية في حياة رجل حُرِم من نعمة البصر، لكنه رأى الحياة بعين امرأة فرنسية كاثوليكية عشقت مسلمًا كفيفًا من أقاصي الصعيد المصري.
ولدت سوزان بريسو سنة 1895، والتقت طه حسين لأول مرة عام 1915 في مونبيلييه الفرنسية، حيث كان طالبًا مبعوثًا، وكانت هي “عينًا بشرية” تقرأ له الكتب وتعينه على دراسته، قبل أن تصبح قلبًا ينبض له، ورفيقة عمرٍ امتد لستين سنة.
أحبت فيه روحه، لا ديانته، ولا وطنه، ولا إعاقته. تحدت عائلتها التي عارضت الزواج، وتزوجته سنة 1917، لتبدأ بذلك شراكة إنسانية وعقلية نادرة. كانت ترافقه في رحلاته، وتدعمه في محنه، وكان يسميها “أستاذتي” في كتابه الأيام، لا مجازًا بل اعترافًا. قال عنها:
“بدونك أشعر أنني أعمى حقًا.”
علمته الفرنسية، فغاص في الأدب الفرنسي، وساعدته على اللاتينية، فقرأ أفلاطون باليونانية. هي من دفعه نحو الدكتوراه، نحو المجد، نحو النور.
بعد وفاته سنة 1973، كتبت سوزان كتابًا بديعًا بعنوان معك، سردت فيه تفاصيل رحلة حب لم تكن نزهة، بل مقاومة صامتة في وجه العمى والتمييز والرفض. حكت كيف صارت له جسدًا يرى به، وضميرًا يفكر من خلاله، وشريكًا لا يترك الساحة حتى النهاية.
رحلت سوزان بعده بستة عشر عامًا، لكنها بقيت في الذاكرة نموذجًا للوفاء لا يُنسى.
في أحد هوامش دفتري كتبته حين كنت يافعًا:
“إن كانت سوزان بريسو عينًا لطه حسين، فإنها قلبه أيضًا، وضلعه الحي.”
ومن تلك الورقة، ولدت هذه الكلمات
عبدالله محمد بونا
شنقيط، تندوعلي2005
من أوراق “المذكرة الصغيرة”
–