سيدي محمد ولد العباس.. الراحل الذي ظل قريبا من آهات الناس وبعيدا عن ضجيج الأضواء

الزمان أنفو _ في زمن قل فيه الرجال العظام، وندر فيه أولئك الذين يبنون المجد بعرقهم، ويزرعون الخير بأيديهم، ويظلون على العهد للإنسانية مهما علت درجاتهم… يسطع اسم موريتانيٌ أصيل، نقش على جدران الوفاء، وكتب حروفه على صفحات المجد: سيدي محمد ولد العباس.
ذلك الشنقيطي الجسور، الذي خرج من بين كثبان شنقيط الفقيرة، حافي الطموح، غنيا بالإيمان، لا يحمل في حقيبته إلا القرآن وبعض الذكريات، ولا يتكئ في طريقه إلا على يقينه بالله وثقته بقدرته على تحقيق المستحيل.
من تجارة بسيطة متنقلة بين أسواق موريتانيا والسنغال، إلى أعماق النيجر حيث ابتسم له الحظ وتفتحت له أبواب النجاح… لم تكن رحلة الرجل مفروشة بالورود، بل كانت مشوارا من الصبر والعرق والمواجهة في زمن لا يرحم، لكنه كان على قدر التحدي، وكان للكرامة عنوانا، وللمهنية مدرسة.
سيدي محمد لم يكن مجرد تاجر، بل كان حامل مشروع حضاري… بنى حين هدم غيره، جمع حين فرق الطامعون، وعلم حين جهل الجاهلون. من النجارة إلى السيارات، من الصيد إلى المصارف، من النفط إلى البنوك، كان أول من طرق الأبواب وأول من رفع الراية. لم ير الاستثمار مجرد أرباح وأرصدة، بل وجه المال ليكون خادما للوطن، ومحركا للعدالة الاجتماعية، لا أداة للطغيان أو الاستغلال.
لقد أسس، وابتكر، وخلق فرص العمل، وأعاد لموريتانيا اعتبارها الاقتصادي، ورفع رايتها عاليا في المحافل المالية الإفريقية، حتى نال عن جدارة لقب “مصرفي إفريقيا” سنة 1992، وصار اسمه يقترن بالمهنية والثقة والمصداقية في كل القارات.
لكن العظمة لا تكتمل دون قلب نابض بالرحمة… وهنا كان سيدي محمد ولد العباس سابقا لزمانه، فبقدر ما راكم من ثروات، كان يوزعها على الفقراء والمحتاجين دون منة، يعين الأرامل واليتامى، يعالج المرضى، ويفتح أبواب العلم لأبناء الفقراء، لا يسألهم عن قبائلهم ولا أصولهم ولا ألوانهم، فكان موريتانيا خالصا لا يعترف إلا بالإنسان وحقه في الحياة الكريمة.
في كل مدينة موريتانية، هناك مستفيد من عطائه… مستوصف بني بماله، مدرسة فتحت أبوابها على نفقته، أسرة فقيرة تنتظر نهاية الشهر لتصله صدقته، عامل بسيط لا يعرف من هذا الرجل إلا ابتسامته وحنيته ورحمته.
ولأن المواقف لا تشترى، فقد كان في عز قوته داعما للصحافة المستقلة، ولصوت المظلوم، وللمؤسسات التي لا تنحني للفساد… وكان حيثما وجد مظلوم أو محتاج، تجده قبله، يمد له اليد ويمنحه ما يخفف عنه آلامه.
سيدي محمد لم يكن ثريا فقط… كان ثروة بحد ذاته. ثروة من القيم، من الندبل، من الوطنية، من العدل، من الإحسان.
اليوم، ونحن نكتب اسمه في سجل الخالدين، لا نرثي الراحل فحسب، بل نحتفي برمز وطني يستحق أن تدرس قصته في المدارس، وأن تروى للأجيال القادمة كنموذج لمن عرف الله فسار إليه، ولمن أحب وطنه فخدمه، ولمن لم يخن فقيرا ولا مسكينا ولا عاملا بسيطا جاء يطرق بابه.
سيدي محمد ولد عباس…نم قرير العين، فقد عشت كبيرا ومت كريما، وورثت لأبنائك وأبناء وطنك ميراثا لا يفنى: أن الكفاح يصنع المعجزات، وأن الخير لا يضيع، وأن الوفاء لا ينسى.
رحمك الله رحمة الأبرار، وجزاك عن وطنك وأهلك ما أنت له أهل، وكتب اسمك في سجلات الصالحين والخالدين.
بقلم : محمد سالم المختار الشيخ