الجيش الموريتاني أداة سلام ثمينة في منطقة معرضة للقلاقل/أحمد باب مسكه

alt” من يدري … لعلها الحقيقة ” ؟ … و تكون موريتانيا قد أصبحت ـ دون أن تعي الأمر بوضوح ودون أن يشعر العالم بذلك شعورا تاما ـ قوة جديدة في محيطها الجهوي. قوة صغيرة طبعا، لكنها اكبر تأثيرا مما كانت، علي المستوي الجهوي وبالتالي علي المستوي الدولي.

ـ ” حذار… حذار من الأماني والأحلام : هل يعقل أن تكون ولدت قوة جديدة ذات وزن في العالم دون أن يعلم بها الجميع؟ ودون أن يتسابق مئات الصحفيين وذوي التخصصات المعنية للكتابة عنها ونشر سيول من التحليلات و التخمينات والشائعات حولها …؟ “

” … ومع ذلك فإنها تدور “… نعترف مع ذلك، أن حذر أو احتراز المراقبين أمر مفهوم وله مبرراته، إذ أن ظهور قوة إقليمية قوية ومحترمة في ما كان موجودا قبل ذلك، أمر صعب التصديق ، مثل دوران الأرض حول الشمس، كقول غاليليو لخصومه الذين لم يكن بإمكانهم في ذلك العصر أن يتصوروا تلك الحقيقة “. إنها تدور …

نود في هذه المداخلة إبراز بعض النقاط الهامة ذات العلاقة بالموضوع وفق المعاينات والرؤى والتطلعات:

1. لقد أصبحت فعلا موريتانيا قوة جديدة صاعدة تلعب في محيطها دورا مشابها بعض الشيء لدور قطر في محيطه. و مع أن الفوارق كبيرة بين وضع البلدين الشقيقين وهما أصغر الأسرة في الخليج والمحيط كل من جانبه ‘ فإنهما يتشابهان في أمر يثير الاستغراب والإعجاب : هو الإرادة الغير قابلة للمساومة ‘ لإرغام العالم كله ‘ القريب والبعيد ‘ العدو والصديق … علي التعامل معهما باحترام و عدم الخضوع لأي ضغط غير لائق، مهما كلف الأمر وكبر ” الثمن” … رغم المثل الذي يوصي بمقارنة المرء بين طموحه و طاقته ـ ” إكادي جهده وتخمامه ” و حسب ما يبدو فقد كذبوا المثل ونجحوا حتي الآن في فرض جزء كبير من طموحاتهم الوطنية.

2. من أبرز الفوارق بين البلدين أن موريتانيا دخلت نادي القوي الصاعدة عن طريق دورها العسكري وقدرتها علي استيعاب التهديدات والتحديات الأمنية وعلي الاستعداد المناسب لمواجهتها ‘ كل ذلك إثر تغير كبير ومفاجئ للقوات المسلحة سوف نحاول شرح أسبابه.

إن لهذا التطور العميق الذي طال الجيش وسياسة الدفاع الوطنية ‘ مهندسا معروفا هو محمد ولد عبد العزيز الذي وفر للجيش الحد الأدنى من الوسائل المادية الضرورية وفي نفس الوقت أذكي في صفوفه روح الاعتزاز والإقدام وقوة الإرادة التي بدونها لا يمكن صنع البطولات. لكن من الواضح أن التطور العميق الذي أشرنا إليه كان أيضا نتيجة لأسباب قديمة وعميقة عملت علي المدى الطويل.

3. تلك الأسباب ـ الخاصة جدا ـ وذلك التحول ذو الدلالة الكبيرة ‘ كل ذلك يخلق الأمل بأن لموريتانيا “موهبة ” في ميدان معين يمكنها أن تستغلها لتُكـَوّن لنفسها تخصصا حقيقيا و مرموقا في زمن تخوض فيه المجتمعات والدول حربا لا هوادة فيها للوجود ككيانات شريكة في حياة العالم يقدم كل منها شيئا يبرر وجوده كفاعل متميز وطرف أصيل في صنع القرار الكوني.

ومن حسن الحظ أن ” الموهبة ” المذكورة عمل محترم ومرموق ‘ يكون به البلد عامل سلام واستقرار في منطقة مضطربة تواجه الكثير من التهديدات والمخاطر. وربما لا تقتصر هذه المهمة علي المنطقة المذكورة لتصل إلي مساهمة فعّالة في حفظ السلام في العالم. فدول كثيرة تفعل ذلك، لكن في الغالب تكون النتائج مخيّبة للآمال، كما هو معروف من فشل ” القبعات الزرق ” الدولية في الكثير من ميادين الصراع الدائرة في مختلف بقاع المعمورة. ذلك مجال يمكن للقوات الموريتانية التي أثبتت كفاءتها، أن تلعب فيه دورا بارزا يساهم في حل إحدى المشكلات التي لم تزل تؤرق المسؤولين عن الأمن في المجتمع الدولي.

4. هل تملك موريتانيا الامكانيات الاقتصادية التي تتطلبها هذه الطموحات؟

نعم!

أولا: لأن العملية ليست مكلـِّفة بل ربما تكون مُربحة، ولذلك فإن بعض أفقر دول العالم تحاول الاستفادة منها؛ وليس في هذا السلوك ما يثير الاستنكار ولا الاستغراب.

ثانيا: لأن موريتانيا من أغنى البلاد، و لو أن ثروتها لم يتم إنتاجها وتوزيعها بشكل يضمن للشعب الموريتاني الرفاهية التي يستحقها، نتيجة لتراكمات من أنواع التقصير والعجز طيلة العقود المتتالية. يبذل الحكم الحالي جهودا كبيرة لتصحيح الوضع لكن كم سيكلف الأمر من الوقت؟ ربما نجد بداية الجواب في كون البلد بدأ يلعب ـ ولو قليلا ـ في ملعب الكبار… وهو ما لا ينبغي أن ينسينا أن الطموح المشار إليه يُلزِم البلد استغلال جميع طاقاته وموارده العملاقة، خصوصا الاقتصادية والبشرية.

5. سوف تثار بدون شك تحفظات وتساؤلات أخرى. مثلا:

أليست الثقافة هي الميدان الوحيد الذي استطاعت موريتانيا أن تصدر فيه، عن طريق “الشناقطة” و المشايخ … وهو الميدان الواعد أكثر مما كان، في عهد حضارة الاتصال والرقميات؟

أليست أفضل ما يمكننا الاستثمار فيه ‘ ما دامت الحرب نفسها أصبحت معركة علمية قبل كل شيء ‘ يتصارع فيها طواقم من الباحثين ذوي الاختصاصات العليا يتسابقون لاختراع أسلحة متطورة وأسلحة مضادة لها في مطاردة لا تنتهي، علي أن يتم توجيه تلك الأسلحة انطلاقا من ملاجئ مختفية في أنفاق في تخوم الأرض.. مما لا يترك على كل حال مجالا للاقتداء ببطولات ” أولاد امبارك “. نعم! غير أن فوز الجيش الموريتاني ضد كتائب القاعدة المدججة بالسلاح المتطور، قد برهن على أن أحفاد المرابطين لم يبقوْا جامدين حيث كان أجدادهم؛ ثم إن تجارب حروب العصابات والنزاعات المعاصرة أوضحت أن “العامل البشري ” ـ أي الشجاعة الذاتية والمهارة القتالية ـ لا يزال يمثل عنصرا حاسما في كثير من الحالات.

6. ربما كان في هذه الاشكالية بالذات جزء من أسرار القوة الخفية الكامنة خلف التطور المفاجئ الذي عرفه الجيش الموريتاني، انطلاقا من الارث الثنائي الغريب الذي حُظيَ به ومن الازدواجية الناتجة عنه. خمسون سنة من الاختلاط في المدارس وفي الثكنات خلقت نوعا من الرجال يختلف كثيرا عن أسلافهم “المرابطين” مع أن هناك أشياء تجعلهم يذكرون بهؤلاء الأجداد الأماجد الذين برزوا فجأة في عالم لم يكن ينتظرهم وقلبوا الأوضاع فيه رأسا علي عقب في محيطهم القريب والبعيد … بُعداً يُعدُّ بآلاف الكيلومترات ” …فتحوا من تكرور المدريد ذاك افطن ما هو مدانى” كما قال أحد لَمْغَنـّيِينْ من أحفادهم يفتخر ببطولاتهم.

من خصوصيات الجيش الموريتاني أنه ـ عكس الجيوش الأخرى التي بنى المستعمر أسسها قبل رحيله من المستعمرات الفرنسية ـ لم تكن القاعدة الأولى التي بني عليها مجموعة من الجنود تكونوا في الجيش الفرنسي، بينهم نواة من ضباط الصف وقليل جدا من الضباط، نواة كونت رصيدا ثمينا للقيادات العسكرية لهذه الجيوش. وكذلك لم تبن القوات المسلحة الموريتانية فقط انطلاقا من تراثها الغني جدا بالتقاليد الحربية والمهارة القتالية والبطولات الأسطورية، تراث تزخر وتفخر به جميع مناطق البلد؛ بل اختيرت قاعدة أخرى هي إعطاء الجيش أساسا مشتركا من ” المواطنة والحداثة والديمقراطية ” ‘ ليكون قالبا موحدا، مثل “مدرسة الجمهورية”.

هل كانت هناك فعلا إرادة ” للتوحيد والتساوي ” موجودة ومبرمجة من البداية … أم لا ؟ المهم أن النتيجة كانت مدهشة، فقد تغيرت بشكل جذري عادات وتقاليد راسخة منذ قرون حتي كانت تكاد تعد من المعتقدات والقيم الأخلاقية والدينية. لقد كانت تأثيرات المؤسستين متكاملة بشكل تام، فالمدرسة “تمربط ” حسان والجيش ” يعسكر” الزوايا مع أن كليهما كان ـ ولله الحمد ـ يحتفظ بخصوصيته القديمة.

ولا ننسى الدور الإضافي الثمين الذي لعبته وتلعبه مؤسسة أخرى موريتانية للغاية هي المحظرة. لقد صاغت عودة هذه الازدواجية التي كانت مفقودة منذ قرون، نمطا جديدا من الرجال من نوع ” الجندي ـ المتعبد ” كما كان المرا بطون، مع إضافة الحداثة. وقد يقلل البعض من أهمية هذه الازدواجية بدعوى أن كثيرا من الجيوش المعاصرة يوجد فيها مقاتلون ـ علماء، ضباط ـ مثقفون …لهم خبرات وتخصص في كثير من الميادين. صحيح، لكن بكميات قليلة ولا يوجدون إلا نادرا خارج الدول الصناعية المتقدمة.

الأعجوبة الموريتانية هي أن بلدا لا يزال يحسب من الدول الاقل نموا و لم يستثمر بشكل خاص في هذا المجال، تتوفر لديه بين عشية وضحاها هذه القوة الضاربة المتمثلة في آلاف المحاربين الذين أصبحوا في نفس الوقت “علماء” وآلاف المثقفين الذين صاروا خبراء عسكريين. تضاف إلي ذلك خصوصية موريتانية أخرى هي هواية “الشارة” أي الولع بالرماية وهي عادة قديمة كانت سائدة في أوساط محدودة لكنها تطورت وتفشت وتوسع محيطها حتي كادت تعم جميع الأوساط وأصبحت بمثابة “رياضة وطنية” بامتياز. لقد تكوّن إذا ما يمكن أن يُعتبر ” جيشا مدنيا احتياطيا ” يضم آلاف الرماة المتفوقين والذين يملكون أسلحتهم الشخصية ويتدربون باستمرار أثناء مباريات تنظمها بالتناوب جميع الولايات التي تحرس كل منها علي الدفاع عن هويتها ومكانتها تجاه التراث الوطني الذى تحتل فيه المهارة الحربية أهمية قصوى.

لهذا كله أصبحت تتوفر في رأينا لدى موريتانيا شروط أساسية لتكون قوة سلام حاسمة في بعض الظروف، ضد أعداء السلام في العالم… وهم الأعداء الوحيدون الذين يُحتمل أن تواجههم أولا وقبل كل شيء دفاعا عن الوطن كأول واجب مقدس، وهو ما أبرزت فيه القوات المسلحة جانبا من طاقاتها أبهر المراقبين وترك انطباعا بأن لديها مزيدا من المهارة والعطاء ينتظر منه الكثير. من هنا فكرة استعمالها بشكل منتظم في خدمة السلام في العالم. لا لقلة الراغبين في القيام بهذه المهمة، ولكن لضعف النتائج، فكم منهم يمكن أن يوصف ب”رأس الحربة” الذي يضمن دخوله في المعركة اختلال التعادل وترجيح كفة الميزان لصالح أحد الأطراف ؟ هذا ما يمكن أن تمثله موريتانيا لصالح معسكر السلام : قوة صغيرة لكنها حاسمة، فليس الفوز دائما بعدد الفيالق الثقيلة وعدتها، إذ كثيرا ما تحسم المعركة قوة صغيرة تقتحم الميدان حين لم تكن منتظرة وتقلب الموازين بشجاعتها وإقدامها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى