وخسف القمر الأسود..! / حنفي ولد دهاه

altفتحت عيني في كولخ، على بلاغة الاستاذ محمود جوب وترويضه لشوارد اللغة العربية، التي كان يتحدثها وكأنه سحبان وائل أو قس ابن ساعدة الإيادي.. لا أزال احتفظ بذكريات طفولية عن الوفد العراقي الذي زار كولخ، وأنا أيامها أدرس القرآن في محظرة أهل الرباني.

ولا تزال تشنف سمعي الكلمة الترحيبية التي حبرها إبراهيم محمود جوب تحبيرا، رغم أنني لم أكن أفقه كثيرا من مضمونها، فقد كنت ذلك الولد الغر الذي تفوق “ولفيته” حينها لهجته الحسانية..

كل ما أتذكره أن الجمع انفض يشيد بقصيدة الشيخ المشري واليدالي ولد الدين، و أن الوفد العراقي الذي كان يمثل الزعيم الراحل صدام حسين انبهر بقدرة هذا الرجل الأسود، على رتق وفتق لغة ابي الطيب المتنبي، وكأنه غذي ماء العقيق.

كانت للرجل طريقة في الارتجال، و إلقاء الشعر تخلب العقول وتأسرها.. وكانت طريقة ربطه في المولد النبوي بكولخ، مما تتحاسد فيه العين والأذن، فقد كان والدي رحمه الله ينسب لأستاذي اباه ولد عبد الله إنه قال له يوما “لا تطربني بلاغة محمود جوب أكثر مما تطربني حركات يديه حين يتكلم”.

في ذكرى المولد النبوي بعام 1984 كان الخليل النحوي، الغائب خلف قضبان سجنه “الهيدالي”، الحاضر في نفوس أحبابه و أخوانه من مريدي الشيخ ابراهيم انياس.. فإن أنسَ لا أنسَ صوت برهام جوب الأجش، الذي كانت تعيقه حشرجة بكاء يغالبه، وهو يقرأ للخليل النحوي رائعته:

سبحان من علم الإنسان بالقلم

وألبس النور منه حلة الظُْلم

وقد غلبه التأثر فجاء صوته باكيا وهو يقرأ قول الخليل:

للحر ما شاء من عين تراقبه

ولا رقيب على العقبان والرخم

هكذا ايضا تعود برهام أن يقرأ بالنيابة قصائد محمد ولد الشيخ عبد الله، فحدث ولا حرج عن حسن الإنشاء و الإنشاد.!

كانت أول محاولة شعرية لي أحاول ألقائها في المولد النبوي بكولخ، عام 1983 وكنت حينها لم أتجاوز اثنتي عشر عاما، وقد قدمني ابراهيم محمود جوب بكلمة تتوقد حماسا.. أذكر كم تهللت لها أسارير والدي رحمه الله.. ثم دعاني لأن أصعد المنصة فألقى قصيدتي:

يا مولد المختار كم مضمر

سر العلى أظهرت أبدعَ مظهر

وفي الأعوام التي تلت.. كان برهام حريصا دائما على تقديمي على المنصة، كما كان يحثني على زيارته في بيته، ويقدم لي هدية معتبرة من مكتبته.

كنت اتحدث معه أحاديث ذات شعب، فقد حدثني مرة عن ميوله اليسارية، ريعان شبابه.. أيام كتابته لـمولفه الصغير ” على هامش النكرومية”، وهي تلك الميول التي لم تدم طويلا، فقد اعتبرها من طفح الشباب وجنونه .. وحدثني عن مشروع كتابه “في موكب الشيخ ابراهيم”، الذي لا أعتقد أنه رأى النور، والذي كان في نيته أن يدون فيه تفاصيل رحلاته مع الشيخ في الديار العربية.. كان ذلك حين قلت له إنه الوحيد الذي يمكنه أن يكتب عن “الشيخ” كما كتب انيس منصور عن العقاد.

ابراهيم جوب نسيج وحده، حفظا ولقانة.. فقد كان يحفظ غرر الشعر ودرره، و كان يقرأ عن ظهر قلب رسائل الشيخ ابراهيم و خطبه..

أتذكر أيام كنت اكتب وريقاتي “تداعيات شلة” التي كنت انتقد فيها بلغة جارحة سياسيين لم أكن راضيا عنهم كل الرضا، أنه كان حريصا على أن أعطيه نسخة منها، ويقول لي ما يعنيني في هذه الأوراق هو جانبها الأدبي.. لم يقل كما كان يقول المرحوم حبيب ولد محفوظ “إنها في قمة الأدب و قلة الأدب”، غير أنه كان يشيد بلغتي، إلا أنه ينصحني عن مضمونها برسالة للشيخ ابراهيم كتبها له أيام تأثره بثورية اكوامى نكروما، يقول له فيها “إياك أن تكون صبيا أبدا”.!

كان برهام ايضا يقول لي: إياك أن تكون صبيا يا حنفي!

في أواسط التسعينيات كان خالي الشيخ محمد النذير رحمه الله يضع حجر الأساس لروضة دينية في نواكشوط، وقد تحدث في حفله العلامة محمد سالم ولد عدود رحمه الله عن علاقاته بالشيخ إبراهيم انياس، ذكر فيها أنه حضر مؤتمرا في القاهرة تحدث فيه ابراهيم جوب فشقق الكلام وأرسله، وفتل سحيل اللغة ومبرمها، فالتفت الشيخ ابراهيم انياس الى ولد عدود الذي كان بجواره، وقال له: هذا ابراهيم ابني و سميي، أنا علمته العربية ولكنه صار أفصح مني لسانا، فأجابه لمرابط محمد سالم بظرافته المعروفة: لعل شيخه كان أفضل من شيخك! وقد حدثني الصحفي المرحوم الشيخ التجاني ولد محمد المكي أنه سأل مرة جمال ولد الحسن عن أخطب المعاصرين في رأيه، باللغة العربية، فأجابه دون تردد: ابراهيم محمود جوب.

كانت كل مواقف الرجل مشرفة لنا، معاشرَ ابناء كولخ، فكم مؤتمرا حضره فرفع فيه هامتنا سامقة تناطح الجوزاء.. وكم درسا ألقاه فأفاد فيه ما شاء و أجاد.. كأنني به وهو يخاطب جموع مريدي الشيخ ابراهيم، الواردين في مدينه كولخ مناهل التربية والترقية:

ردوا فوالله لا ذدناكم أبدا ما دام في ماءنا ورد لوارد

كان محمود جوب موريتاني الهوى، لا يفتأ يذكر شيخه الموريتاني الذي كان يجتهد في تقويم مخارج حروفه.. وله مع الموريتانين طرف ونوادر منها أن الرجل الصالح، الظريف، الحافظ ولد بدي، لم يكن راضيا عن “هدية” ابراهيم محمود جوب، وبينما كان ابراهيم يلقي خطابا، يأسر النفوس بأبهته البلاغية، التفت خالي الخليفة الحاج عبد الله إلى الحافظ، وقال له: لله دره، ما أشد فصاحته.. غير أن “الحافظ” زم شفتيه، وقال له: يخَيْ الفصاحة في اليد..!!

كان رجلا انيقا، بالغ الأناقة، حسن السمت، جميل الهندام، طيب المعشر، حلو العبارة، كأن جليسه جليس قعقاع ابن عمرو، وكأن زائره كما قال الشاعر:

أخلاقه نكت في المجد أيسرها *** لطف يؤلف بين الماء والنار

لو زرته لرأيت الناس في رجل *** و الدهر في ساعة والأرض في دار

رحمه الله، وأغدق عليه من شآبيب عفوه وغفرانه.. و حشره في زمرة الانبياء والأولياء والصديقين.. و ألهم ذويه وألهمنا الصبر والسلوان.. ففي الله عوض من كل تلف وخلف عن كل سلف.!

من صفحة الكات الشخصية على الفيس بوك

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى