د. السيد ولد إباه : يحكي قصته مع رواية المسعدي ” حدث أبو هريرة قال

altجرى الحوار، عبدالرحمن الخضيري لصحيفة الرياض السعودية

    يقول المفكر د. عبدالله السيد ولد أباه أستاذ الفلسفة والدراسات في جامعة نواكشوط أن التحولات الكبرى التي عرفتها البشرية ارتبطت بكتب مؤسسة وفي مقدمتها الكتب السماوية، التي شكلت معتقدات البشر وصاغت قيمهم ولا زالت، ويضيف أن هناك كتباً تغير من كينونة الانسان وتؤثر في شخصية القارئ، معتبرا أن القراءة قوة دافعة للتغيير وهي بالوقت الراهن ضرورة فإلى الحوار:

* ما الكتاب الذي أحدث تأثيرا فيك بعد قراءته؟

– من اكثر الكتب التي أثرت في مساري الثقافي وتجربتي الانسانية عموما كتاب “حدث أبو هُريرة قال…”، وهو عمل إبداعي من نمط خاص ألفه الأديب والفيلسوف التونسي محمود المسعدي (المتوفى ٢٠٠٤). ليس الكتاب بالرواية بمفهومها الحديث ولا هو من نوع السرد الحكائي العربي القديم الذي يستعير شخوصه ولغته ومناخه الاجتماعي للتعبير عن تجربة وجودية كثيفة شملت مختلف أوجه الظرفية الانسانية من حب ورغبة وتدين وسياسة وموت قرأت الكتاب في نهاية السبعينات بعد سنوات قليلة من نشره (رغم ان المؤلف كتبه في الأربعينات وضاع منه سنوات طويلة قبل العثور عليه وإخراجه)، وكنت وقتها طالبا في الثانوية، فلم استوعب منه الكثير وان كنت انبهرت بأسلوبه ولغته التي استخدم فيها معجم وتراكيب التوحيدي والجاحظ للتعبير عن افكار ومفاهيم الفلسفة الوجودية الطاغية في تلك المرحلة العاصفة من تاريخ العالم. ومع انني لم افهم الكثير من الكتاب وقتها، إلا أنه فتح لي آفاقا رحبة من الفضول المعرفي والقلق الفكري، ما دفعني الى الاهتمام بالفلسفة قراءة واطلاعا قبل التخصص فيها في سنوات التحصيل الجامعي والاشتغال بها في ما بعد تدريسا وبحثا وتأليفا دفعني كتاب المسعدي الى عالم الفيلسوف الألماني المثير نيتشه في جذرية نقده لمألوف الأفكار والقيم، فقرأت وما زلت طالبا في الثانوية جل اعماله في ترجماتها الفرنسية وافتتنت بكتابه الشاعري الجميل ” هذا هو الانسان” الذي هو نوع من السيرة الذاتية الفلسفية، كما أعجبت بكتابه الشهير ” هكذا تكلم زرادشت ” الذي كان من اول الكتب الفلسفية التي ترجمت للعربية (نقله الى العربية الكاتب اللبناني فيلكس فارس). وعن طريق كتاب المسعدي بدأت أطل بخوف وحذر على كتابات الفيلسوف الألماني الأسطوري “مارتن هايدغر ” ولم يكن بإمكاني قراءتها آنذاك في مصادرها المباشرة، ولذا اكتفيت بأعمال تلميذه الفرنسي ” جان بوفريه” الذي حاول تقديمه للجمهور بأسلوب مبسط، كما وصل إلى يدي عدد من مجلة ” الطليعة ” التي كانت تصدر في مصر في الستينات ضم ملفا هاما حول هايدغر فرحت به كثيرا. ومع ان استاذي للفلسفة في الثانوية فرنسي من اتباع جان بول سارتر الذي كان نجم الفلسفة والأدب في النصف الثاني من القرن العشرين الا انني لم أمل إليه رغم قراءتي لجل اعماله التي كانت مقررة في درسي الادب والفلسفة، بل ان موضوع المقالة الفلسفية التي قدمت لي في امتحان الباكالوريا هو عبارته الشهيرة ” الانسان محكوم عليه ان يكون حرا”، وقد فضلت عليه صديقه الروائي ” البير كامو” الذي كتب احد اهم النصوص الروائية العالمية أعني رواية الطاعون التي قراتها كثيرا وكدت احفظها من شدة الافتتان بها.

* ما نوع التأثير وهل أنت مقتنع به؟ وما مدى استمراره؟

– تجدر الاشارة هنا أن للمسعدي رواية اخرى هي رواية ” السد” التي اثارت نقاشا بين مؤلفها وعميد الادب العربي طه حسين الذي اعتبر انها تشبه في منظورها الفلسفي رواية كامو ” أسطورة سيزيف” من حيث كونهما تتفقان في النظر الى التجربة الانسانية كعبث لا طائل منه وكجهد لا جدوى منه.طه حسين احتفى برواية السد واعتبر انها تؤسس للأدب الوجودي العربي في حين نفى المؤلف هذا القصد عن عمله الذي اعتبر انه يكرس فكرة الفاعلية وحيا الحياة والجهاد من اجل العمل الفردي والجماعي حتى لو كان الموت راصدا والفناء أفقا لا محيد عنه و رجعت في الثمانيات لرواية المسعدي ” حدث ابو هُريرة قال” بعد اعادة طبعها في سلسلة ” عيون المعاصرة” التونسية، وقد فتحت لي أوانها مقدمة الناقد المتميز ” توفيق بكار” افاقا واسعة لفهم النص، وقد بدأت في ضوء تكويني الفلسفي الاستفادة من هذا العمل الأدبي الفكري الرفيع من أوجه غير مسبوقة.في هذه المرحلة انتقلت الى الإقبال على كتب الفيلسوفين الكبيرين الألماني ” مارتن هايدغر ” والفرنسي ” ميشل فوكو”، واذا كان هايدغر هو منبع الفكر الوجودي الذي ينتمي اليه كتاب المسعدي (رغم ان هايدغر يتنكر للوجودية ويرفض تصنيف فلسفته بانها وجودية)، فان فوكو هو عدو الوجودية الاول، الساخر من نزوعها الإنساني ومفهومها للالتزام، وقد اشتهرت عبارته الشهيرة حول ” موت الانسان ” و” ابتسامته المستهزئة” ردا على الوجوديين وفي مقدمتهم سارتر. أبعدتني كتب فوكو عن اجواء الادب الوجودي التي افتتنت بها طويلا، وفتحت لي آفاقا واسعة من بينها أفق الكتابة التاريخية الحديثة الذي يعتبر فوكو من رواده الكبار، بيد انني لم ابتعد عن المسعدي وروايته الرائعة.

وعلى رغم مرور اكثر من ٣٥ سنة على قراءتي الاولى لرواية ” حدث ابو هُريرة قال” لا زلت من حين لآخر احس بحاجة عارمة الى الرجوع للكتاب الذي لم يجد ما يستحق من عناية في الدراسات النقدية العربية، بل لعله لا يزال مجهولا الى حد يعيد خارج تونس بلد المؤلف الذي تولى وظائف وزارية سامية في بلاده لم تشغله عن السؤال الفكري والكتابة الأدبية.

* هل ترى أن القراءة محرك أو دافع للتغيير في وقتنا الحاضر؟

– حاصل الامر أن ثمة كتباً فكرية وابداعية تغير من كينونة الانسان وتؤثر نوعيا في شخصية القارئ وتوجه مسار حياته. القراءة قوة دافعة للتغيير، وهي في الوقت الراهن ضرورة قصوى بعد ان وفرت الثورة الرقمية إمكانات كثيفة غير مسبوقة للقراءة، على عكس التصور السائد بأن ثقافة الصورة قد قتلت الكتاب وقلصت مساحة القراءة. التحولات الكبرى التي عرفتها البشرية ارتبطت بكتب مؤسسة في مقدمتها الكتب الدينية التي شكلت معتقدات الناس وصاغت قيمهم ولا تزال حاضرة وفاعلة بقوة في وعي الناس، وكذا الكتب الفلسفية والعلمية التي أطّرت الفكر المعاصر ولذا فإن مسار التحديث الفكري والاجتماعي المتعطل في ساحتنا العربية يحتاج لثورة قراءة تدفع للتغيير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى