سمير عطاالله.. {النمرة غلط} / يعقوب ولد باهداه

تقديم ضروري: النفط ثروة عربية عظيمة، استفاد منها الجميع، وما زال.

ويرفض القلب أن تنأى قلوبكم // إن الحبيب حبيب حيثما كانا (الشاعر الموريتاني أحمد ولد عبد القادر)

أستاذ سمير أنا إنسان من تلك الدولة الواقعة “خارج الدائرة”. جنابك، هل يمكن أن تمنحني عشر دقائق، لا غير، لأجل أن أقدم لك هنا خلاصة لرد أغلبية الموريتانيين، على ما جادت به قريحتك وسطرته أناملك لصحيفة النهار العريقة.

صنف الصومال، وحزر القمر، (نسيت جيبوتي)، ومعهم إريتريا، كما ترى، لكن حين تصل إلى موريتانيا، قد يتغير الأمر، فقرّاء الضاد فيها بعدد سكانها أو يكاد. خذها مني ولا تغضب: لقد خسرت ـ أو على وشك أن تخسر ـ ثقة مئات بل آلاف القراء، خاصة من الشباب، لكنهم للأسف من “خارج الدائرة”، وطالما طالعوا كتاباتك بنهم وشغف. الآن أنت تـُخرجهم من دائرة تحددها بنفسك. نسيت: لم نعرف بالتحديد كم قطر الدائرة؟ أستاذنا العزيز، سأكون صادقا وغير مجامل. قد لا أكون من المنسحبين عن تعاطي سحر قلمك، لكني لكن أكون بالحماس والحب ذاتهما. (مقالك اليومي في صحيفة {الشرق الأوسط} ـ قبل عملي في الصحيفة، وبعده ـ كان يطل علي كل صباح، كأنه وجبة إفطار لسجين جائع). عشنا طويلا ولقرون بلا دولة، نصول ونجول في الصحراء، ولا نعرف حدودا. تحملنا وعانينا وصبرنا، وجابهنا مستعمِرا فظا غليظ القلب، لم يترك ولا شبرا من الشوارع. وحققنا حلما جميلا: أقمنا دولة عربية إفريقية في بلد لم يعرف أي وجود للدولة منذ قرون. عانينا الأمرّين من الأقربين، قبل من نأت بهم الديار. وحدها تونس المجاهد الأكبر، قالت: هذا شعب تداعى للوحدة وأسس دولة على أرض يباب، ويستحق أن يعيش في حضن العرب. (رفض العرب المجتمعون في شتورة بالبقاع اللبناني الاعتراف بنا). نحن في قارة إفريقيا، وعلى شاطئ أطلسي طوله نحو سبعمائة كيلومتر، وبلادنا تتربع على مليون وسبعين ألف كيلومتر مربع. لا مشكلة لدينا في أن نعيش هنيئا مريئا على أرض إفريقية هي ملك لنا. نحن شعب فيه نسبة كبيرة من الأفارقة نسبًا وانتماءً، وهم جزء رئيسي ومهم من كياننا الموريتاني عبر التاريخ. ذلك فخر وتاج على الرؤوس.

لكن ما العروبة..؟

أهي النسب؟ القبائل العربية التي بدأت تستوطن تلك الصحراء ذات يوم منذ قرون خلت، عربية أبا عن جد، جاءت من جزيرة العرب، في مسيرة طويلة من الترحال، مرت بمصر وتونس والجزائر والمغرب. ولا تريد شهادة إثبات نسب من أحد. وأغلبية من ليسوا عربا، هم عرب باللسان والهوية، يربطهم بالعروبة دين وحدهم تحت ظلال وارفة، بلا فـِـرق ولا مذاهب.

أهي اللغة العربية؟ لسان عرب موريتانيا أفصح من ألسنة غيرهم، هؤلاء القاطنون “خارج الدائرة” قوم يحفظون القاموس المحيط، ولسان العرب. قوم يعيشون يوميات زهير وجرير والمتنبي والأعشى والشنفرى. لسانهم فيه بيان أنهم عرب، بلا مواربة. الطفل يولد عاشقا للعربية، لغةً وثقافة. العروبة شعور وحياة وروح. أما اللحن عندهم، فأمر يعاب على الصغير قبل الكبير. الحرف العربي مقدس، والكلمة تعني لهم روحا تنبض في كل جسد. لم تصلهم عثرات العرب الثقافية، في نهاية القرن 19م وبداية القرن 20م، بل عاشوا نهضتهم الذاتية، قرضوا الشعر تحت الخيام، عاشوا العلم والثقافة وهم رحالون على ظهور عيسهم. كانت بداوة عالمة. تالله إنه التناقض، أليس كذلك؟. لكن عد، أستاذنا، قليلا إلى استطلاع الصحافي اللبناني الراحل سليم زبال، والمصور أوسكار متري، في أرشيف العربي الكويتية، ستجد محاولة لبنانية جيدة لفك اللغز. (مجلة العربي ـ العدد 101، إبريل نيسان 1967، أيام أحمد زكي). أنت عشت في الكويت ردحا من الزمن، وتعرف “العربي”.

أهي الهوية؟ امنح جزءًا بسيطا من وقتك، تطوع به، لليوتيوب لتعرف كيف يعيش الموريتانيون، (أعلم أنك لا تحب التكنولوجيا، وما يسمى وسائل التواصل الاجتماعي)، لكن تحمّلها بالله عليك، لتصحح لك خطأ كبيرا، لا يناسب جلال قدرك، وسطوة حضورك، وعذوبة حروفك، وسعة مداركك. عرب موريتانيا يعيشون تحت الخيام، ويشربون لبن نوقهم (وليس حليبها كما درج بعض العرب)، ويقرضون شعرا عربيا فصيحا جزلا وغنيا، يأكلون الأرز واللحوم الحمراء، ويشربون الشاي ويروون أشعار العرب وأيامها. كأنهم في بوادي معان في الأردن، أو الحجاز، أو مضارب ليوا. لن تصدق نفسك، أن كل ذلك “خارج الدائرة”. نسيت أن أسأل مجددا كم قطر الدائرة؟.

أهي الانتماء؟ ماسح الأحذية في موريتانيا، قد تجده يتابع تفاصيل إصابة طفل فلسطيني بجروح خفيفة في بلدة نائية تابعة لمخيم جنين في الضفة الغربية. ويعرف خريطة صيدا وطرابلس والجبل والبقاع، ويعرف كم أغنية شجت بها فيروس مع آل الرحباني. الطفل فينا يولد وهو يعرف لغات العرب البائدة وأيامها، يميز ما بين ربيعة ومضر. يعرف بني تميم أكثر من تميميي اليوم، يحفظ ويفصل ويخوض في أنساب قضاعة، بما لا يعرفه أحفادهم اليوم.

موريتانيا العربية بحث بسيط عن كلمة “شنقيط” أو “الشنقيطي” قد يقودك لاكتشاف عالم جديد، حمله آخرون إلى وسط الدائرة. للعلم تلك بلدة من خارج الدائرة، كان يخرج منها آلاف الحجاج سنويا، حاملين معهم أطنانا من معارف لغة العرب، والعلوم، كانوا ينثرون منها دررا أينما حلوا وارتحلوا “داخل الدائرة”. فصّل بحثك قليلا، زد على الشنقيطي كلمة السعودية أو مصر أو الأردن أو العراق أو الكويت، بعضهم صحح القواميس، وبعضهم قدم لبنات عظيمة في البناء. اقرأ ما سطره طه حسين، والإمام محمد عبده، وأحمد حسن الزيات، محمد رشيد رضا، وطه الحاجري، ومواطنك محمد يوسف مقلد، وغيرهم، قد يفيد ذلك في معرفة تجليات صورة أخرى من خارج الدائرة. لا ضير في العودة إلى الحاضر، ابحث في قوائم خمسة وثلاثين شنقيطيا أساتذة في جامعة المدينة المنورة، أو فتش في قوائم القضاة والمفتين والأئمة والمدققين اللغويين في الإمارات العربية المتحدة، دار زايد الخير (ليت كـُـتاب العرب عرفوا موريتانيا كما عرفها). دعك من ذلك. سل من تراه مناسبا للإجابة عن مدققي لغة العرب ومقومي لسانهم في قنوات الجزيرة والعربية وسكاي نيوز عربية، وغيرها من القنوات. كل أولئك أناس قدِموا من خارج الدائرة، من موريتانيا. أما إسرائيل، فما أدراك ما سرنا معها. لقد طـُرد سفيرها من نواكشوط، وهدَمت الجرافات وكرَها ضحوة، لا خوف ولا وجل. نعم طرد السفير وهدمت السفارة. أتحداك هنا أن تجد من فعلها أو يستطيع فعلها أو سيفعلها من “داخل الدائرة”. صحيح كانت علاقاتٍ خاطئة، لكنك بكل تأكيد لا تعرف كيف امتعض منها الشعب الموريتاني، وعارضها، وخرج بالآلاف تنديدا بها، وكيف وقف طيلة تسع سنوات، في وجه التطبيع مهما كانت مبرراته أو أسبابه. هل تصدق أن بلادنا لا توجد فيها سفارة للملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وايرلندا الشمالية إلى اليوم؟ لا يرضون بإعادة افتتاحها، والسبب كوننا قطعنا علاقاتنا مع الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، هي والولايات المتحدة الأميركية، إبان عدوان يونيو حزيران 1967. عندها كانت دولة عربية وحيدة تعترف بنا، اسمها مُسطر عندنا بالذهب: تونس. أما مصر والسعودية ففتحا قلبيهما وقدما الدعم المعنوي قبل المادي، لكن بوصفنا دولة شقيقة ومن خارج جامعة الدول العربية أو مفرقتهم على الأصح. قبل أن نلحق بالركب عام 1973، مما صب علينا لعنات لا تتوقف، من الجاهلين بنا، إلى اليوم. سيدي، امتنعنا عن العلاقات مع إسرائيل حين كان العرب يرفضون حتى النظر في وجهونا. تدخلنا لتقطع إسرائيل علاقتها مع عشر دول إفريقية. رحل الزعيم ياسر عرفات، ولم يعد بإمكانه الإجابة. لم يبق لك إلا أن تسأل التاريخ وصنّاعه ورجاله، ممن تثق بهم: كيف ساعدت موريتانيا الفلسطينيين منذ السبعينات. يا عزيزي، قادة منظمة التحرير كانوا يحملون جوازات سفر من “خارج الدائرة”، الفلسطيني في تلك النقطة النائية يعيش ملكًا، لا شيء يعكر صفو حياته، وليس كما الحال لدى الأقربين من أشقائه. في بلادنا الواقعة خارج الدائرة، كانت تتخرج دفعة من الشرطة الفلسطينية كل سنة، جنبا إلى جنب مع شرطتنا. هناك عاش جبريل الرجوب وغازي الجبالي. هناك أيضا عاش العقيد عبد الله داود حين أبعد من كنيسة المهد، ولم يجد مأوى لدى العرب. موريتانيا، أيضا، فتحت حضنها العربي للأشقاء اللبنانيين، فقد استقبلتهم في خمسينات القرن العشرين، قبل أن تستقل عن فرنسا، وقبل أن تبني عاصمتها الحالية نواكشوط (مدنها التاريخية بعيدة عن الأطلسي). وأول من كتب وألّف عن موريتانيا هم اللبنانيون، وإلى اليوم فيها عائلات كبيرة، غالبيتها محتفظ بلبنانيته، وبعضها أصبح موريتانيًا، وتولى أفراد منه مناصب مهمة في هذا البلد العربي. فيها أيضا متاجر ومطاعم وصيدليات ومدارس وجامعة، كلها من لبنان العربي الشقيق. يا ابن عطاء الله، نـِـبالك توجهت نحو الشعب الخطأ. هو خارج الدائرة، لكن الله وهبه شيئا اسمه {الفضول المعرفي}. صحيح أن توجيه سهام النقد والتشكيك نحونا سهل جدًا. وشكرًا لمن يهدي إلينا عيوبنا، وما أكثرها. وصحيح أن الجهل بنا ليس منقصة أو عيبا. لكن الحقيقة التي على أي كاتب متجاهل لنا، “من داخل الدائرة” أن يضعها في حسبانه، هي أننا نحفظ معلقة فتى تغلب عمرو بن كلثوم.

 

 

يعقوب ولد باهداه ـ صحافي موريتاني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى