عن جان مونتالدو..( 2) كتاب أعيدو الأموال

صحفي استقصائي يمتشق قلمه المتوثب ويغرزه في مواطن الوجع

الزمان أنفو _

(2) لم يكن ضابطَ شرطة، ولا قاضيًّا ولا محاميا، ومع ذلك، يعتبر أهمَّ منْ بحثَ وحقَّق في ملفات الفساد في فرنسا منذ السبعينيات. وهو الذي كشف أهم الفضائح الإقتصادية والسياسية والمالية المرتبطة بفساد مختلف أجهزة الدولة الفرنسية ومؤسساتها وأحزابها وشركاتها ومصارفها، وذلك على أكبر نطاق، من خلال ما يزيد على 26 كتابًا نشرها حتى الآن.. إنه الصحفي الاستقصائي الفرنسي جانْ مونْتَالدو (البطاقة المهنية رقم 22529)، الذي يعتبر على الإطلاق، أحد أعظم الصحفيين الاستقصائيين في العالم.

 

بدأ جانْ مونْتَالدو في تحقيقاته قبل أكثر من 50 سنة، وكان يقوم بتحرياته في أوساط ودهاليز العالم المخملي لأهل السياسة والأعمال في فرنسا، ويوَّثق بشكل يومي ملاحظاته في “دفاتره السرية” كما يسميها.. وكان دافعه الرئيسي في ذلك كما يقول، هو “إدانة الفساد وجرائم الدولة”.

أصدرَ جانْ مونْتَالدو كتابه الأول سنة 1971 تحت عنوان صاعق في تلك الفترة “الفاسدون”، حيث يكشف فيه عن هوية المشتبه بهم داخل الشرطة، وهوية رئيسهم المتورط في ذلك الوقت في قضية نادي Fétich’s Club، وهو المفوض الرئيسي المكلف بقيادة سرية قمع قُطَّاع الطرق في مدينة لييون الفرنسية، والذي، رغم كونه شريكًا في الفساد، قد ظل في منصبه رغم اتخاذ إجراء إداري ضده، يمنعه من القيام بأي عمل قضائي (استجواب، تحقيق، تحرير محاضر، توقيف، تفتيش، إلخ). لكن، وبعد عدة أشهر من التحقيقات الدقيقة، يتمكن جان جانْ مونْتَالدو، من توجيه التهمة مع تقديم الأدلة الدامغة، ضد “الفاسدين” الذين يسيئون إلى سمعة الشرطة ونزاهة العدالة في فرنسا. فكان له ما أراد.. ونجح في تلك المهمة، وبدأ نجمه يسطع في عالم الصحافة الإستقصائية.

ومنذ ذلك الحين، اقتنع جانْ مونْتَالدو بضرورة فتح أكبر ملفات الفساد وجرائم الدولة، والإسراع في صياغة المعلومات الغزيرة والحساسة الموثقة في “الدفاتر السرية”، حيث ظل يسجل آلاف الملاحظات والتفاصيل حول مواضيع التحقيقات التي يقوم بها.

يقدم جان جانْ مونْتَالدو- وهو مدقق كبير في الحياة السياسية والإقتصادية الفرنسية، في كتابه “Les Voyous de la République” أو “بلطجية الجمهورية”- عصارة تجربته في رصد وتحليل كيف انزلقت فرنسا بشكل مخيف نحو “جمهورية صقلية” تتحكم في جميع مفاصلها، المافيا، وجماعات الضغط وعصابات الفاسدين.

فنراه -في هذا الكتاب- يوجه الأضواء لكشف وتعرية “رجال الظل” في السلطة. أولئك الذين- في صمت أروقة الجمهورية- يُقيمون ويُقعدون شؤون الدولة ويعبثون بمُقدِّراتها، ويُدبرون المكائد والدسائس التي مافتئت تنفجر على شكل فضائح كبرى على مدى نصف قرن.

يقول جانْ مونْتَالدو واصفا جماعات الفاسدين: “أسمحوا لي أن أقدمهم إليكم.. لأنهم غير معروفين لعامة الناس.. فهم يعيشون غالبا في الظل، بعيدا عن المحاسبة والعقاب.. إنهم الفاسدون “بلطجية الجمهورية”.. أقدمهم لكم كما هم في قرارة أنفسهم، وكما اكتشفتهم بنفسي، بل وأحيانًا كما عانيت منهم شخصيا. ولتعلموا أنه بسبب هؤلاء الفاسدين “بلطجية الجمهورية”، تتلاشى مئات المليارات من أموال الشعب.. وبسببهم تتفاقم الجرائم والفضائح والممارسات البشعة بكل أنواعها..
هؤلاء هم باختصار فئة محدودة من مواطني الجمهورية، وجدوا أنفسهم في لحظة معينة في مراكز القرار- فقرروا أن يسيئوا استخدام الجمهورية، وأن يستغلوا هياكلها ومواردها لإثراء أنفسهم بشكل مخجل”.

أما في كتابه “أعيدوا الأموال!”، الذي نُشر في عام 1997 ، فيقدم جانْ مونْتَالدو جردا مفصلا وموثقا يُدين بالأدلة والقرائن جميع الصفقات و”الأعمال” وعمليات الفساد التي جرت خلال فترة مأموريتي الرئيس فرانسوا ميتران، أي على مدى 14 سنة. ويعتبر هذا الكتاب هو المكمل الضروري لكتابه السابق “ميتران والأربعون حرامي”.

كتاب “أعيدوا الأموال!”، يقدم إحصاء شاملا للكنوز والمغانم التي جمعها المتواطئون في أكبر عملية سرقة واحتيال، غير مسبوق في تاريخ الجمهورية الفرنسية. وقد استطاع المؤلف أن يُبيّن كيف أن سرقة تلك المبالغ الضخمة من أموال الشعب الفرنسي والحصول على كل تلك الإمتيازات والعمولات، قد تمت وفقًا لخطة مدروسة ومُتفق عليها مُسبقا، وبأوامر وتعليمات صادرةٍ عن كبار المسؤولين في الدولة، ومن أجل مصلحتهم الشخصية الأنانية فحسب.

لقد تمكن جانْ مونْتَالدو، وبشكل مُبهر، من تجميع أكبر عدد من الأدلة المكتوبة التي لا يمكن دحضها، ضد عشرات السياسيين والمسؤولين والمنتخبين، والوزراء في مختلف حكومات فرانسوا ميتران، بل استطاع أيضا أن يقدم الدليل على تورط الرئيس السابق نفسه في عمليات الفساد والإثراء غير المشروع.

وهكذا، بفضل الوثائق والأدلة الصلبة، التي غالبًا ما تكون غير منشورة وغير مُتداولة، استطاع جانْ مونْتَالدو من خلال كُتبه المختلفة، أن يقدم، دون مراوغات ولا مبالغات، الفاتورة الضخمة للاختلاس والإحتيال المذهلين اللذين تم ارتكابهما بحق الشعب والوطن.. وأن يحرِم اللصوص مع الإفلات من العقاب على ما ارتكبوه خلال كل تلك السنوات، من الابتزاز، واستغلال النفوذ، والنصب والخداع، بشكل لم يسبق له مثيل.
كما استطاع جانْ مونْتَالدو – من خلال تحريَّاته- أن يسهِل على القضاء والعدالة مهمة ملاحقة هؤلاء المجرمين واتهامهم والحكم عليهم، واستعادة الأموال العمومية المغتصبة والمنهوبة..

ولم يتوان المؤلف كذلك، عن انتقاد تباطؤ وبيروقراطية المؤسسة القضائية، ووصَمَها بالبرودة الزائدة وضبط النفس في مواجهة بعض القضايا التي هي بالتأكيد شديدة الاشتعال، مشبها العدالة بـ “آلة لقتل الحقيقة” رغم كونها مستقلة غالبا عن الانتماء السياسي لمن هم في السلطة.

أما في مواجهة الهذيان والتشهير الذي يتعرض له المؤلف في بعض الأحيان، فكان يتصدى له دائما ببرودة أعصاب، يفنده من خلال معرفته الدقيقة بالحقائق والأسرار التي لم تكن مصادر الجمهورية تبوح بها لغيره. وكان يدافع عن نفسه ضد الهجمات الإعلامية التي تستهدفه، برَوِيَّة واقتدار. وكأن لسان حاله يقول: “أمام الكذب والافتراء، ليس أمام الصحفي غير سلاح واحد هو إبراز الحقيقة والحقيقة الكاملة فقط”.

وقد ظل الإعلام الفرنسي يتساءل باستمرار، عن حقيقة جانْ مونْتَالدو :هل هو الفارس الأبيض المنقذ؟ أم هو الشعبوي المُشاكس؟ أم هو المصلح المتحرر من المصالح الضيقة؟
ولكن يبقى جان جانْ مونْتَالدو، لا هذا ولا ذاك.. إنه أولاً وقبل كل شيء، ذلك الصحفي الاستقصائي الذي لا مثيل له.. يمتشِقُ قلمه المُتوثب ويغرزه في مواطن الوجع، غير آبهٍ ولا مترددٍ..

كان جانْ مونْتَالدو، لا يخشى من تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية. يهاجم الجناة والمجرمين بشراسة لكن بموضوعية لا تختزل الأمور في ثنائية الخير والشر، بل تؤمن بالتحقيق وبثمار الحقيقة، دون أي تهاون أو مصادرة.

من صفحة محمدالسالك ابراهيم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى