إفريقيا من ادب التحرر والمقاومة الى فكر التنمية
مشاركة الدكتور محمد بشرى عيسى جيي، رئيس منظمة الكتاب بالعربية في الندوة التي نظمت رابطة كاتبات المغرب وإفريقيا بالعيون

الزمان أنفو _ الندوة الدولية بالعيون.
التاريخ:10 و11/05/ 2025م
.
التنظيم: رابطة كاتبات المغرب وافريقيا؛ المكتب الجهوي بمدينة (العيون المغربية).
ضيفة الشرف (دولة أنغولا).
المحاضر: الدكتور محمد بشرى عيسى جيي، رئيس منظمة الكتاب بالعربية في السنغال، ورئيس الجامعة الأفريقية العربية الإسلامية القاضي عمار فال السنغال، ورئيس المنتدى العالمي للدراسات والبحوث الأفروعربية الغربية والإسلامية.
الموضوع: التنمية الثقافية جسر وحدوي للهوية الأفريقية.
المقدمة
إذا كانت التنمية بكل ما تحملها الكلمة من معاني، اقتصادية، اجتماعية، علمية، سياسية، صناعية … فإن التنمية الثقافية الفكرية تعتبر بمثابة ركيزة أساسية وجسر تعبر من خلاله الشعوب والمجتمعات لإبراز وإظهار هوياتها وتواريخها وحضارتها وثقافاتها…وتتميز هذه الشعوب بتقوية وتنمية هذه الثقافة وفرض هويتها بإظهار تحقيقاتها وإيجابياتها…فتحاول جاهدة تنمية وتطوير وبلورة وازدهار هذه الثقافة في شتى الميادين، الدينية والفكرية والفنية والرياضية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية … حتى تتبوأ المرتبة والمنزلة التي تستحقها من بين الحضارات المصطدمة والمتنافسة، بل والغيورة والنافية الكارهة الحاسدة الحاقدة من غيرها … فالتنمية الثقافية بشتى أنواعها تبين وتعكس جدارتها واستحقاقها في تبوء المكانة اللائقة لها من بين صراعات الثقافات التي لم تعد تسمح لأي ضعف ثقافي أو عجز إبداعي او ابتكاري من الاستمرار بل حتى من البقاء … فسيبتلعه أخطبوط الثقافة الغربية والآسيوية التي لا تدع شيئا إلا جعلته كالرميم؛ فكلما نمت هذه الثقافة وازدهرت بينت هويتها و ترسخها في الأصالة، وكونها ضاربة في العمق والتجذر، وعكست قوة ومتانة الهوية وعراقتها … وأنها جديرة بالإظهار والبيان والتبيين … فالهوية الأفريقية بكونها تحتاج تذكير نفسها وإيقاظ ما ينام فيها وتنشيطها، بعد أن حاولت بعض الأعداء طمسها وتجاهلها … فهي قادرة على إحياء ما مات، وإيقاظ ما نام، وتنشيط ما خمد من ثقافتها التي رمز وتجسيد لهويتها … فالثقافة الأفريقية ليست قرعا للطبول، ولا رقصا على الإيقاعات، ولا غناء على المحافل … فحسب؛ وإنما إبداعات فكرية فلسفية أدبية سياسية، إبداعات في شتى المجالات والميادين … فهذا ما يضفي عليها المصداقية … وينفي ويدحض أعداء القارة الأفريقية الذين يحاولون، ـ يائسين ـ إخفاء هذه الهوية أو تجاهلها … أن كون التنمية الثقافية جسرا وحدويا تعكس الهوية الإفريقية لا تتأتى إلا إذا كملت أركانها، وتقوت ركائزها وتبلورت إبداعاتها، وتنوعت أغراضها وترسخت عناصرها واختلفت ابتكاراتها … فآنئذ ستلعب دورها كاملة حتى تستحق أن تصطف مع الثقافات النامية، والهويات المتأصلة والمتجذرة…
إن هذا العنوان، التنمية الثقافية جسر وحدوي للهوية الأفريقية، عنوان ذو أهمية بمكان؛ ذلك انه يبين ويبرز دور الثقافة الأفريقية في إثبات هويتها وكونها تستطيع مقاومة جميع أشكال السيطرة والغلبة والاستضعاف التي تصدر من المتسلطين والمتجبرين كالمستعمرين والمستعبدين … كما تساهم في بناء إفريقيا جديدة، “بعيدة عن نير الاستعباد والاستعمار، وفتح آفاق وأوراش للتنمية في القارة من اجل مستقبل واعد”.
فهذه التنمية الثقافية بحاجة إلى إعطاء نفسها مصداقية، وذلك بكونها قوية نافعة منتجة إيجابية واعية متطورة نامية تعكس ما تسطيع أن تفعله وتساهم به في رفع التحدي الذي يواجهها لإبراز وإظهار كفاءتها وقدرتها في خوض معترك الحياة وفي فرض نفسها من بين الثقافات العالمية … فتؤكد على أن الهوية الإفريقية، وخصوصا السمراء الأكثر تعرضا للتهميش والقمع واللامبالاة، على أنها موجودة وحاضرة، بل وقادرة على مواجهة التحديات الراهنة والمستجدة؛ وذلك بقيام رجالاتها في تقرير وإثبات ذلك بالكتابات والانتاجات والتحقيقات والإبداعات والابتكارات…في شتى المجالات والميادين، وبالأخص المجال الثقافي الفكري العلمي الحضاري والتاريخي…وعلى هذا الأساس فلزام علينا معشر الأفارقة، بل يجدر بنا أن نصب جام اجتهادنا واهتمامنا على الجوانب الثقافية والعلمية والفكرية والفنية والرياضية والفلسفية…وبجملة واحدة، كل ما له صلة بالتقدم والنمو والتطور والابداع والابتكار في هذه المجالات سالفة الذكر…فالقارة الأفريقية غاصة وزاخرة بالأعلام والمفكرين والأفذاذ … الذين يستطيعون رفع هذه التحديات والنجاح فيها، فكل مقومات النجاح فيها موجودة إذا استعملت بالطريقة الملائمة والمناسبة من لدن ابناءها الوطنيين المخلصين لقارتهم وبلادهم الذين يجعلون مصالحها العامة فوق مصالحهم الخاصة … فلقد حان الوقت أكثر من أي وقت مضى للانسلاخ من مخلفات الاستعباد والاستعمار البغيضة التي انهكت واضعفت كيان القارة وابناءها وحاولت ان تسلبها كل خيراتها … فيقوموا قيام رجل واحد لتدارك ما فات ومضى، فالقارة زاخرة بالخيرات والركائز والكنوز … ولقد حاول المستعبد والمستعمر ترك بصماتهما على القارة وذلك بوجود أذناب وأذيال يواصلون هذا الاستغلال وهذه التبعية فشكلوا استمرارا وامتدادا لهذين الأخيرين سالفين في الذكر … فالاستعمار خرج من الباب ورجع إلى النافذة، فرغم التحرر الجسدي والاستعمار الفعلي الرسمي فلقد ظل البعض مستلبا ومعجبا بالتبعية والإخلاص للاستعباد والاستعمار … فالتبعية السياسية والاقتصادية والثقافية … من أخطر آثار الاستعمار ومخلفاته … فالغزو الفكري والثقافي والحضاري … استراتيجية تبنتها القوى الاستعبادية والاستعمارية لهيمنة الشعوب إلى الأبد بعدما يئست من إمكانية البقاء في الاستعباد الجسدي والاستعمار الفعلي لها. إلا أن بعض أبناء القارة، وهم الأغلبية، وعوا خطورة هذا النوع من الاستغلال المستبدل فجابهوه بكل ما أعطوا من قوة، فقاموا بإصلاحات جذرية وتغييرات إيجابية، منها تنويع الاختيارات والتوجهات السياسية والاقتصادية … وتغيير أسماء بعض الدول والشوارع ذات الصبغة الاستعبادية والاستعمارية … فما التوجه نحو الصين وروسيا وتغيير أسماء بعض الدول(بوكينا فاسو، فولتا العليا، سابقا، بنين، الداهومي سابقا) إلا انعكاس للوعي العميق والشعور الكبير الذي أضحت الشعوب الإفريقية تتمتع به، والخروج من الاعتماد الاقتصادي المالي التابع للدول الغربية، وبناء اقتصاد محلي قوي يعتمد على موارد وقدرات وكفاءات البلاد.
إن التنمية الثقافية يمكن اعتبارها جسرا وقنطرة لتبيين وبيان الهوية الإفريقية، وذلك بتفعيل القواسم المشتركة بين الشعوب الإفريقية المختلفة في الألسن والألوان والأشكال … بطريقة إيجابية نافعة تخدم لصالح القارة برمتها، “﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾ (1)
فالوعي في إيجابيات هذا الاختلاف، وليس الخلاف، هو الذي يفضي إلى التعاون والتآزر والتعامل والتكامل، “وجعلنا بعضكم لبعض سخريا”، وأن مثل هذه الملتقيات المهمة تساهم وتساعد على تقريب الآراء وتفاهمها وتعارف أبناء القارة وتعاونها …”وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (2)
الخاتمة
يتضح لنا مما سبق أن الهوية الإفريقية تتضح معالمها بتنمية الثقافة وتطويرها حتى تتبوأ المكان الذي يلائمها من بين ثقافات العالم … ولا يتأتى ذلك إلا بوعي أبناء القارة على ذلك … وكتابة وإنجاز، بل وإظهار هذه الثقافة بكيفية قوية نافعة، ولكن نزيهة وموضوعية … فقد حان الوقت أن يكتب تاريخ هذه القارة أبناءها المخلصون النزهاء بكل موضوعية بعيدين عن حقد وعداوة المستعمر من جانب، وعن انحياز وعصبية الإفريقي من جانب آخر ويكون لزاما على أبناء هذه الرقعة من القارة الأفريقية أن يعيدوا صياغة ما كتب عن أقطارهم ويمحصوه، ويتداركوا ما شوهه بعض المؤرخين ليضعوا بذلك لبنة أساسية على جدار بناء الأمة الإفريقية … مقتطف من كتاب (جهود علماء السنغال في خدمة المذهب الأشعري، للدكتور محمد بشرى عيسى جيي).
1ــــ سورة الروم الآية 22
2 ـــ سورة الحجرات الآية 13
وقد قال الكاتب الافريقي الملغاشي من (مدغشقر) اسمه اندريا تشيلا:” كتب تاريخنا غيرنا، وكانوا ضدنا، وأمنيتنا نحن السود، أن نكتب تاريخنا بأنفسنا.) ويقول عالم إفريقي آخر وهو الكاتب الأثنوغرافي الفيزيائي شيخ أنت جوب:” أن التاريخ الذي يكتبه الأفارقة يجب على الشخص الذي يكتبه أن يكون قادرا على جمع المعلومات بكيفية موضوعية صحيحة، حتى يستنبط النتائج المفيدة والضرورية لكي يحتل المكانة اللائقة في العالم المتحضر المتمدن).
استنتاجا من هذه المقولات يتبين جليا أن التنمية الثقافية يمكن أن تكون جسرا وحدويا للهوية الأفريقية إذا استثمرت إيجابيا في الابداع والابتكار … وذلك ببلورة وتطوير جميع النواحي والجوانب التي يبرز ويظهر فيها تجذر هذه الثقافة وعمقها … فلا يخفى على أحد ما للتاريخ والحضارة والثقافة الحبشية (الصومال، جيبوتي، اريتريا، السودان، كينيا، تنزانيا) من إيجابيات ومنافع … مما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم، يرسل أول وفد للهجرة إليها، فالهجرة الأولى كانت في الحبشة قبل المدينة المنورة، فلقد كان عندهم ملك عادل اسمه النجاشي، كما هيمنوا وسيطروا على اليمن قرونا طويلة، فلقد كان لهم أيضا بأس وشدة، وسيطرة وجبروت، والملك أبرهة مثال على ذلك، فلقد حاول هدم الكعبة انتقاما من بعض قبائل الأعراب الذين اعتدوا على كنيسته ولطخوها بعد ما قام بالعناية بها وزخرفتها … وسمي ذلك العام بعام الفيل، ونزلت على إثر الحادث سورة الفيل: ﴿أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَـٰبِ ٱلۡفِيلِ (1) أَلَمۡ يَجۡعَلۡ كَيۡدَهُمۡ فِی تَضۡلِيلࣲ (2) وَأَرۡسَلَ عَلَيۡهِمۡ طَيۡرًا أَبَابِيلَ (3) تَرۡمِيهِم بِحِجَارَةࣲ مِّن سِجِّيلࣲ (4) فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفࣲ مَّأۡكُولِۭ (5)﴾ (1)
1 ــ سورة الفيل من الآية 1 إلى 5
وفي النهاية يجب على أبناء القارة الأفريقية أن يعملوا جاهدين في سبيل تنمية وتطوير الثقافة في شتى المجالات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والرياضية … حتى تساهم وتشارك في الإبداع والابتكار بناء على أصالتها وعراقتها، الجمع بين الأصالة والمعاصرة، مع الثقافات ذات الجودة العالية والنافعة، الثقافات العالمية الراقية المتحضرة التي انتفعت من إيجابيات ماضيها التليد … فتزاحمها وتنافسها، بل وتتفوق عليها، واعية ما لهذه المنافسة والتعالي والتفوق من عراقيل وتحديات وصعوبات … ولا يتأتى ذلك إلا بوعي أبناء القارة على هذه التحديات … والاجتهاد على مجابهتها ومواجهتها عن طريق البحث والتحصيل والإبداع والابتكار لتنمية هذه الثقافة وجعلها قادرة على تحقيق عبور وحدوي آمن وقوي لإثبات وتأكيد الهوية الافريقية.
المصادر والمراجع:
1 ــ القران الكريم.
2 ــ الحديث النبوي الشريف.
3 ــ برامج في بعض القنوات، مثل:
الجزيرة
TV5MONDE/ France 24/ قناة ميدي1 الدولية.
4 ــ تقارير من مجلات حقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة.
5 ــ جريدة (الشمس السنغالية الرسمية).
6 ــ كتاب جهود علماء السنغال في خدمة المذهب الاشعري للمؤلف محمد بشرى عيسى جيي.
الكاتب:
الدكتور محمد بشرى عيسى جيي رئيس الجامعة الأفريقية العربية الإسلامية القاضي عمار فال السنغال، ومدير منظمة الكتاب باللغة العربية في السنغال، ومدير المنتدى العالمي للدراسات والبحوث الأفروعربية الغربية والإسلامية.
الهاتف:00221772642005/ المغرب00212775980920/
البريد الالكتروني: [email protected]/