مختارات من المذكرة الصغيرة – حلقة: بين النوم والموسيقى

2

الزمان أنفو _ في طريقنا إلى مغارة “وين تيمدوين”، التي تبعد نحو سبعين كيلومتراً عن مدينة أكادير، كانت الحافلة تلتهم المنعطفات الجبلية بنهم، وعلى متنها خليط غريب من المسافرين، نصفهم شعراء، والنصف الآخر يبدون كمن هربوا من روايات لم تكتمل. الأصوات تعلو وتنخفض، بين نثرٍ وشِعر، بين ضحكٍ وذكرياتٍ مبعثرة.

إلى جانبي جلس فرج، الشاعر العراقي الهادئ، وقد انشغل بإصغاءٍ ناعمٍ لشابة تونسية كانت تغرد بشعر عن الحب والغيم والحنين.

..وكانت غفوة قصيرة، لكن لها طعم الحنين وملمس الذكريات الغائرة. غفوة حملتني من قمم جبال الأطلس إلى نهايات القرن التاسع عشر، حيث بدأت ذاكرتي تستعيد قصةً سحرية منسية، عن حبّ لم يشبه أي حب..

في أروقة الزمن البعيد، بزغت علاقة روحية بين عبقري الموسيقى الروسية تشايكوفسكي، وسيدة أرستقراطية غامضة تُدعى ناديجدا فون ميك. لم يكن بينهما لقاء، ولا عناق، ولا حتى نظرة… فقط رسائل، تجاوزت الألف، عبرت بين موسكو وباريس، الريف والمدن، الليل والنهار، تسير على سطورها مشاعر رقيقة، واشتياقات نادرة الطُهر.

ناديجدا، الأرملة الثريّة، كانت تعشق الموسيقى كما يعشق العاشق صدى حبيبه، وحين استمعت لأول مرة إلى أعمال تشايكوفسكي، أحسّت – كما قالت – أن نغماته تناديها من خلف الحبر والوتر.

قرّرت أن تدعمه دون أن تعرفه. بدأت بإرسال المال، ثم الرسائل. وفي كل رسالة كانت تضع حبّها المؤجل، وتوقها الممنوع، وإيمانها بأن ما بينهما لا يجوز له أن يُكسر بلقاء.

“لا أريد أن أراك… إن رؤيتك قد تكسر شيئًا مقدّسًا في داخلي.”

هكذا كتبت له. وهكذا قَبِل.

كانا يعيشان أحيانًا في شارع واحد، تفصل بينهما أبواب وحدائق ورسائل. وإذا لمحها هو، انحرف في صمت، طائعًا، لا خوفًا منها، بل وفاءً لما بينهما.

حتى حين أعدّت له منزلاً صغيرًا، قرب قصرها، زوّدته فيه بكل ما يحب، لم تحاول أن تراه. واكتفت بأن تقول له: “قربك من دون رؤيتك… يجعلني أسعد امرأة في العالم.”

أفاقت الحافلة فجأة على منعطفٍ حاد، وانفرطت ضحكة التونسية، وردّ عليها فرج بمقطوعة مرتجلة، كانت عن “المحبين الذين لم يلتقوا”.

أدركت حينها أن النوم لم يأتِ عبثًا. وأن تشايكوفسكي وناديجدا، وإن ماتا منذ زمن، ما زالا يعلماننا شيئًا عن الحب… الحب الذي لا يشترط الجسد، ولا المسافة، ولا الألقاب.

حبٌّ بنيناه ذات يوم نحن أيضًا، على ورق، وعلى ما لم يُقل.

ربما كنا نحتاج، في زمن الصور الفاقعة، إلى رسائل تُكتب بصمت، وتُحفظ في القلب، لا على الجدران الزرقاء.

ربما كنا نحتاج، مثل ناديجدا، إلى أن نخاف على المقدّس لا منه.

ربما كنا نحتاج، مثل تشايكوفسكي، إلى سيمفونية أخيرة، نودّع بها من لم نرهم، لكن عرفناهم جيدًا.

عبدالله محمدبونا
مايو 2015

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى