أبو العباس يدون عن البرلمان وحرية التعبير

الزمان أنفو (نواكشوط): في تدوينة جديدة نشرها على صفحته، استعاد الكاتب والأستاذ في جامعة لافاييت الأميركية، عباس ابراهام، واقعة تعرّضه في أبريل 2022 لهجوم من نائب برلماني موريتاني، اتهمه بالإساءة للمقدسات ودعا إلى سجنه. لكنه يشير ساخرًا إلى أنّ من انتهى به المطاف خلف القضبان بتهم الإساءة هو النائب ذاته، في مفارقة وصفها بأنها “من حفر حفرة لأخيه وقع فيها”.
ابراهام انتقد بشدّة ما وصفه بنفاق بعض البرلمانيين الذين يرفعون شعارات “نُصرة الإسلام” بينما يسهمون في تقييد الحريات ومحاصرة التعبير، مؤكدًا أن الإسلام بريء من سجن القُصّر أو مطاردة التلاميذ والكتّاب بتهم الزندقة. وذكّر بأن الاستتابة في التراث الإسلامي كانت من اختصاص العلماء، لا السياسيين أو هواة الشعبوية.
ورأى أن بعض الأصوات التي تدّعي الدفاع عن المقدسات لا تهدف سوى إلى الاستثمار السياسي في العواطف الدينية، حتى لو كان الثمن تشويه صورة الإسلام في الداخل والخارج، وتحويله إلى دينٍ ضيّق الأفق، غاضبٍ، مهووسٍ بالمطاردة لا بالحكمة.
وختم بالتحذير من خطورة المرحلة التي تعيشها البلاد، معتبرًا أن نظام الرئيس غزواني “ديكتاتوري قمعي”، وأن تعطيل البرلمان ليس سوى خطوة ضمن مسار طويل لخنق الخلاف والرأي الحر. ودعا إلى هبّة وطنية للدفاع عن حرية التعبير، تقودها أصوات صادقة وليست انتهازية.
نص التدوينة:
في أواخِر إبريل 2022 استصرَخَ علي نائِبٌ ديماغوجي البرلمان الموريتاني، داعياً إلى سجني بتهمة الإساءة للمقدّسات. ولكن احزَروا: من سجَنه البرلمان الموريتاني ومن داخِل البرلمان على الإساءة للرموز؟ إنّه ليس المتكلّم، الذي تضامن مع السجين. بل النائب نفسَه. من حفر حُفرةً لأخيه وقَع فيها. ولا يحيق المكر السيء إلاّ بأهلِه. ولا يُفلِحُ الساحِر حيث أتى.
ولم يكن ساحِرنا شجاعاً في محنتِه. بل استعطَف السلطان بأفراخ حُمرُ الحواصل؛ واعتذر عن “اتقشري”؛ وخرج بصفقة صمت؛ وتابَ؛ وحسُنت توبته. وفاقم من محنتِه أنّه لا اعتراض له عليها نظرياً. فهو، لإيمانه بالأحكام السلطانية، يُقرّ للسلطان حقّ التأديب والتعزير ويُثبِتُ للدولة الحبس على التعبير. بل وإنّ هذا هو جوهر نضاله. وفي هذا السياق نرفَزَ الإسلام وصغّره. وجعل مهمة الدّين الأساسية العويل في الشوارِع ومطاردة المراهقات والقُصّر والأقلام المستعارة والمتفسبِكة، ومؤخّراً المجانين، على قضايا الإساءة. بل وأعطى لنفسِه حقّ استتابة سعد بوه في سجنه. وكلّها امتيازات اختلَسَها. فلا يوجد في الإسلام استتابة البرلمانيين للجمهور. ولا يوجد فيه سجن القُصّر على الزندقة، بل يوجد فيه تعليمهم وتأديبهم (لا سجنهم لسنوات). ولا يوجد في الإسلام اعتبار ورقات الامتحان إساءة، بل هي أخطاء تعليمية توجد في نوادِر الحمقى والمغفّلين، لا طبقات المسجونين والمسحولين. وعلى المجتمع تعليم الجهلاء، لا سجنهم. والإسلام يعطي دوماً فرصةً لسُهيل بن عمرو.
وحتّى الاستتابة الإسلامية التي تقلّدها ليست للعامة بل هي للعلماء: كما في تفتيش الأوزاعي لغيلان الدمشقي أو محاكمة ابن أبي دؤاد لأحمَد ابن حنبَل أو حُكم قضاة المذاهب الأربعة على ابن تيمية أو استتابة ابن عقيل على آرائه الاعتزالية وإجباره على العودة للحنبلية، إلخ. ولا أصَل في الإسلام لسلطة ناسِ ليسوا من أهل المعرِفة والنظَر والحِكمة على تلفظات الناس. بل الله هو الحسيب. وإنّما يوجد ذلك في شعبويات الأصولية الرثّة وتقسيمها المجتمع، لأسباب انتخابية، إلى كفرة ومؤمنين. إنّه يظنّ أنّه ينصُر الإسلام بهذا، بينما هو يُقزّمه له ويمنعه حِلمه التاريخي وعظمته في التعدّد والتجاوز والسماحة ويجعله ديناً مراهِقاً. ولكنّه ليس مهتماً بإضراره بالإسلام ولا بصورة الإسلام في العالم، بل يهتمٌ بما يدخل جيبه السياسي من ذلك.
إنّه من المؤسِف أنّ حقّ الدفاع عن حرية التعبير في البرلمان يقع اليوم على ناسٍ لا يؤمِنون بحرية التعبير أصلاً، بل يؤمِنون بالتعزير والحبس على الرأي وتفتيش الناس، حتّى في حقّ القُصّر والمراهقين. وجلّ مطالبِهم هي السجن على الرأي. في زمن الانحطاط لا تُحسن الطبقة الحارِسة صون المبادئ الحافِظة للأمّة. بل هي تأكل من أصنام التمر.
إنّ نظام غزواني ديكتاتوري يقوم على قمع التعبير وحظر الخلاف ؛وما فعله من إغلاق البرلمان هو عملية ممنهجة. وآن الأوان لهبّة وطنية ضدّ أفعالِه. ومن المستحسَن أنّ تأتي تلك الهبّة من مؤمِنين حقيقيين بحرية التعبير، لا من متاجِرين بها.