مسعود يتكلم (1)

الزمان أنفو – اسمي مسعود، ولدت على أطراف العاصمة، حيث تمتد “الضيعة” على أرض لا يملكها أحد. كنت أعيش بين أمي، العنزة البيضاء، وشقيقي، نرعى في فسحة ضيقة ومعنا نعجة وكبش، نأكل مما يساق لنا على يد جلف طويل، طيب لكنه شره، يطمع في حليب أمي أكثر من حاجتنا له.
ذلك الصباح من سبتمبر، رضعْتُ آخر جرعة دافئة من لبنها، ثم تمددت في الظل، أستمع لأصوات أهل الضيعة يستعدون ليوم طويل من الحرّ والرطوبة.

كان الناس يبيتون هنا هربًا من شوارع نواكشوط الموحلة بعد أمطار الخريف وضيق الهواء في بيوتهم. كنت أراهم كل مساء يجلسون قرب مواقد الفحم، يتحدثون عن العدالة والرحمة، وعن المدينة ومن اغتنوا وصاروا يركبون السيارات الفارهة. أطفالهم مشغولون بالشاشات، يتابعون نجوم “التيكتوك والآيفون” وهم يبيعون حياتهم الخاصة وتفاهاتهم لمن يدفع.

ثم سمعتُ صوت نادية، نادت العريف بصوت آمر. جاء بخطوات واثقة، يده تمسك سكينًا تلمع كشمس مختزنة. شعرت أمي ترتجف، دفعتني برأسها كأنها ترجوني أن أهرب. لم أفهم الخوف، لكن الهواء صار ثقيلاً.

أمسكني العريف من رجلي. كنت صغيرًا لا أقاوم. سمعت صرخة أمي تهزّ الضيعة، لكن أحدًا لم يتحرك. نزلت السكين على عنقي، واختلط دمي بتراب الضيعة. عندها أدركت أن هذا العالم لا يرحم صغاره، لا من البشر ولا من الماشية.

مع الظهيرة، كان دخان الفرن يتصاعد، يختلط برائحة الشواء. أمي تدور في الساحة، صدرها ممتلئ بالحليب، تنادي ولا مجيب. لم ير أحد مأساتها. كانوا منشغلين بالشبع والكلام عن الدين والرحمة.

في تلك الليلة، نامت الضيعة آمنة وشبعى، لكن أمي لم تنم. كان ثدياها يوجعانها كأنهما يذكرانها بأن مسعود لن يعود.

ربما كنتُ صورة لكل ما يُذبح في هذه الأرض: طفولة تُقطع قبل أوانها، أحلام تُجهض في الطين، وأصوات تُخنق قبل أن تصرخ. ربما كان موتي صرخة صامتة في وجه مدينةٍ تأكل أبناءها، ثم تدّعي أنها مدينة العدل والرحمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى