رؤيتي لشروط التهدئة ـ الجزء الثاني من مقال الرئيس مسعود

alt إنه لمن المهم للدولة أن يعاد في العاجل تأهيل الشرطة الوطنية في دورها البارز والأول في حفظ النظام والأمن العمومي. وهو الدور الذي لا يمكن لأية هيئة أخرى أن تقوم به مثلما تقوم به هي، دون إخلال، إذا اقتضت الضرورة، بإنشاء قطاع مواز ليكملها بدلا من منافستها في عملها أو استبدالها به.

إن على نمط الاكتتاب والتصفيات والتحويلات والترقيات العادية أو الاستثنائية للشرطة والدرك والحرس والجيش الوطني أن تحترم باستمرار نفس المعايير والقنوات المهنية وأن تعني كل المواطنين دون تمييز.

لم أتخل أبدا عن أي من قناعاتي، وما زلت أرفع كل الشعارات التي كرست لها حياتي مراهقا وبالغا. الآن وأنا في عقدي الثالث، ما زلت مهموما ومشغولا دائما بالاستقرار والأمن والوحدة والسلم الاجتماعي للبلد.

إذن لم أتخل أبدا عن كفاحي السلمي ضد العبودية، لأن ذلك يشكل قناعتي أولا، ولأنني، ثانيا، أعي أنه لا يوجد خطر وشيك أكبر على البلاد من عدم وجود حل جاد ونهائي لهذه الظاهرة.

وانطلاقا من هذه القناعة الخاصة، أحذر كل الفرقاء (من المواطن العادي، إلى رئيس الجمهورية، دون أن أنسى الوزراء والفاعلين السياسيين من كل المشارب، والمجتمع المدني، والقضاة، والولاة، والحكام، ورؤساء المراكز الإدارية، ومفوضي الشرطة، وقادة فرق الدرك والحرس، ومناهضي الرق) من مغبة سوء إدراك هذا المشكل، وخاصة من المحاولات المتهورة لاستغلاله في هذا المنحى (تحويله إلى مجرد شعار سياسي تافه) أو ذاك المنحى (التسلي بتشجيع تمرد الضحايا)، فالأمران كفيلان، في هذه الحالة أو تلك، بإحداث هزة اتسونامية.

إنه معضلة حقيقية، تجب مواجهتها في الصميم، والتوقف عن الاعتقاد بأن صيّـغا طنانة أو معالجات سطحية عرضية تكفي لحلها، كما يجب التوقف عن خيار المزايدة بالنسبة للذين يستهويهم اللعب بهذه النار.

إن إعادة التوازنات بين العرب والزنوج الأفارقة يجب البحث عنه من خلال تشريع مناسب وهادف يحدد، من جهة، الخصوصيات غير القابلة للتذليل، ويُـعَــرّف الحقوق غير القابلة للتصرف المرتبطة بها، ويبتكر، من جهة أخرى، تسوية سياسية وتنظيمية قادرة على إقناع كل شخص، في إطار احترام مَـواطن الاختلاف، بأنه مُواطن في دولة لا تتجزأ، يتمتع فيها، من الآن فصاعدا، بكل حقوقه، ليس فحسبْ الثقافية، لكن أيضا السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

هنا أيضا يجب التوقف عن اعتبار التعايش مشكلة تافهة، يمكن بسهولة التغلب عليها بالعدد، الأمر الذي لا يمثل معيارا يمكن الدفاع عنه في الديمقراطية، وأحرى إذا تعلق الأمر بالثقافة والحضارة. كما يجب القبول بأنه ثمة حدود لكل شيء، بما فيه مطالب الأقليات.

والحقيقة أنه لا يمكن لأية أغلبية ولا لأية مجموعة أن تحتكر الانتماء أو حرية التصرف بطريقتها الخاصة في ما هو أملاك عامة (السلطة، البلاد، الدين)، كما لا يمكن أن تعني الأقلية حرية المطالبة بتشريع المحظور والمحرم.

إن البحث عن التوازن العادل هو مشكلتنا، جماعات وأفرادا.

هذا هو أيضا الثابت الذي يجب أن يميز العلاقات أو التعايش السياسي بين الأغلبية والمعارضة اللتين ليس لأي منها، وهي تلعب دورها كاملا ومستغلة الصلاحيات التي يمنحها لها الدستور، أن تنسى أن مساحة عملها مشتركة، وأنهما بالتالي ليستا حرتين في استخدامها حسب هواهما.

إنني متأكد، من جهتي، أن الكفاح الأنبل، والأكثر فائدة، والأكثر إلحاحا، والذي يتوجب على كل مواطن القيام به اليوم، دون تردد، هو الوحدة الوطنية المحفوفة بالمجازفة أكثر من أي وقت مضى.

إن على التفاهم والتوافق والتضامن والتآخي أن تمثل التدابير التي على إيقاعها اليومي تتحرك مسيرة أولئك (شعبا ومجتمعات) الذين ساقتهم صدف التاريخ وعنجهية الطبيعة وحَـكـَــما عليهم بالعيش معا.

إن فهم ما سبق وبذل الجهد لتجسيده يمثل الواجب الأول والدائم لكل مسئول سياسي حريص على نقش اسمه بين العظماء.

لكن الحديث عن مشكل العبودية وتعايش مختلف مكونات المجتمع، ووصف الأمر بالبركان الخامد القادر على أن يستيقظ فجأة فينشر الرعب والخراب، لا يعني إسقاط أو التقليل من شأن المخاوف الوشيكة والمدمرة الناتجة حتما عن مواصلة التسيير الكارثي للاقتصاد مجسدا في الظلم الكبير والجلي في توزيع الثروة الوطنية. والحقيقة أن الاستثمارات العديدة والمثمرة التي يتحدث عنها الناس، لا يبدو أن كافة المواطنين استفادوا منها، كما أن الدول ذاتها لا يبدو أنها أفادت منها البلاد على أحسن وجه، حسب ما يروج. ويعتبر تفاقم البطالة، وضعف مستوى الرواتب، والارتفاع المذهل للأسعار، بما فيها أسعار المواد الأساسية، مؤشرات واضحة الدلالة في هذا الصدد.

وإذا انضاف إلى ذلك الغياب شبه التام للبنى التحتية والمعدات الأساسية المتعلقة بالماء الشروب والتعليم والصحة والسكن، يكون هناك سبب وجيه للقلق، خاصة إذا ما لوحظ الظهور الغريب والسريع والوقح لأقلية من الأغنياء الجدد المتكئة على الزبونية السياسية والمحاباة والعنصرية والقبلية والإقصاء، والتنامي غير الرحيم، والسريع للفاقة والمجاعة. يجب إذن أن نبقى حذرين وأن نتذكر أنه من الذائع هذه الأيام أن نسمع عن شغب الخبز أو الشغب من أجل الخبز. هناك من ينظرون إليّ تارة على أنني متآمر، وتارة ينظرون إليّ على أنني دمية تخدم النظام، وتارة كشخص غير أمين ومرتش، وتارة كخائن، وتارة كالعدو اللدود لمنسقية المعارضة، وتارة كالمدافع الذاب عن الرئيس محمد ولد عبد العزيز، ومن هذا المنطلق يعتبرون أنني المسئول بشكل كبير عما يحدث في البلاد من الدواهي.

إن ترددي على الرئيس وسهولة اتصالي به، يحيلان إلى الاعتقاد، وربما التأكيد، بأن لدي تأثير كبير عليه، يُمَــكـّـنني، إن أردت ذلك، من تسوية كل المشاكل.

يسرني أن أرد على كل هذه الاتهامات والتخمينات بأن طموحاتي لمواطنيّ ولبلادي ولنفسي تــُـبقيني بعيدا كليا عن هذه الأوصاف المهينة التي لا أسعى أبدا لأن تكون لصيقة بصورة أي كان. إن علاقاتي بكل من أعرفهم، سواء كانوا أباطرة أو ملوكا أو أمراء أو رؤساء أو أشخاصا عاديين ومغمورين، هي نفسها، بمعنى أنها – في ما يخصني- كـَـيــِّـــسة وموقرة ومباشرة وصريحة، وهو ما يمكن أن يعتبره بعض من حاوروني غطرسة ورعونة وقلة احتشام أو حتى تهورا. ليس من عاداتي أن أكذب، أو أتصنع، أو استصغر نفسي لأطعن في الظهر، لأنني كنت دائما أملك الجراءة لأكشف لمن يحاورني، مهما كان ووجها لوجه، عما أعتقد. والأكيد أنني بقيت، بالرغم من عديد الوظائف السامية التي تقلدت، ذلك الشخص الذي لا تصادفونه أبدا في صالونات الأكابر الوطنيين أو الأجانب، حيث تحاك وتوضع، في ما يبدو، كل المؤامرات والاستراتيجيات. فما كان أبدا ليغريني التقرب من الأقوياء. إنني أحافظ دائما على نفس أصدقاء الطفولة وأصدقاء المدرسة وأصدقاء المكتب والأصدقاء المتواضعين والطبيعيين. إنني متمرد بما يكفي لمنعي من ربط صلات مستديمة مع أي شخص بمقدوره أن ينظر إلي بازدراء، أو ينظر إلي على أنني تابع له، أو أدنى منه مرتبة، أو من ضمن حاشيته. وفي السياسة، فإنني أقوم دائما بما يخدم موضوعيا الأهداف التي أريد بلوغها أو، على الأقل، ما لا يبعدني منها.

إن هذا بالضبط هو ما دعاني لربط اتصالات بالرئيس محمد ولد عبد العزيز، وهو ما حدد رفضي للربيع العربي، ورأيي بخصوص الحوار، وكان وراء مبادرتي: “موريتانيا أولا”، وهو ما قادني للمشاركة في الانتخابات التشريعية والبلدية وقبول كل النتائج المعلن عنها من قبل هيئة لا ثقة لي فيها إطلاقا. هذا أيضا هو ما سيحدد مستقبلا موقفي بخصوص الانتخابات الرئاسية المقبلة. أما بالنسبة لتأثيري المفترض على الرئيس، فأنا أعترف بأنني لا أملك عليه أي تأثير من طبيعته أن يجعله يقبل بأفكاري كبديل عن أفكاره، مع أننا نحسب أننا مهمومان، كِلانا، بالمصالح الكبرى للبلد، ومسكونان لأجله بأنبل الطموحات، غير أن لكل منا طريقته وفقا لشعوره الخاص. وليكن واضحا أيضا أنني لست ممن تحدوهم التبعية العمياء لأي كان، فابتعادي واقترابي من صاحب قرار أو مسئول يمليه تشبثي الدائم بالمصلحة العمومية أو العامة. هكذا أنا منذ أن عرفـــتــُـني، وباستمرار. وإن أية صورة مغايرة هي محض فبركة بذيئة وملفقة وبالتالي مفتراة أريد بها المس من شرفي وكرامتي، وهو ما لا يجب ترجمته على أنه رفض مني للصفح عن كل الذين وجدوا متنفسا في إذايـتي وسبي. وإني لأشهـــِــــد الله وأشهد كل الناس أنني سمحت وصفحت عن كل من آذاني وسبني.

وكما أكدت في عديد المناسبات، فإن حبي لبلدي، وبغضي الحَـدْسي لكل ما يمس من شرفه وكرامته أو يضر بمصالحه، ليس، بحال من الأحوال، مرادفا لرفض أو كراهية الآخر. لست إذن ضد الغرب ولا أنا ضد فرنسا، وهو ما لا يـُـقــْــصي إمكانية أن تكون لدي علاقات متوترة مع بعض ممثليهما.

لكن تلك العلاقات، الشخصية البحتة، لا تؤثر سلبا على رأيي بالنسبة لفائدة وأهمية أن تربط بلادي علاقات، ذات نفع متبادل، مع شركائها: فرنسا والغرب وغيرهما. غير أن هذه العلاقات، ومهما كانت مهمة ومفيدة، يجب أن تنبني دائما على الاحترام المتبادل والمعاملة بالمثل. إني لأؤيد انفتاح البلاد على الاستثمارات الأجنبية مع كل ما يعنيه ذلك من ضمانات قانونية وقضائية وسياسية، لكنني ضد الاستغلال المفرط لثرواتنا دون مقابل معتبر لبلادنا.

إن على مرتنة الوظائف، كلما كان ذلك ممكنا، أن تكون واجبا لا يمكن لأي مستثمر التملص منه. أرجو أن يكون الجميع قد فهم أن هدفي، بفتحي لهذا المنبر، وكما هي العادة، هو أن أكوِن صدىً، من خلال مشواري التجريبي، للشعور العميق بالظلم الكبير، والخوف من غد تزداد صعوبة السيطرة عليه يوما بعد يوم، والاعتزال الذي يسكن مواطنينا مهما كانت اختلافاتهم وتنوعهم أو مشاربهم السياسية أو أصولهم الاجتماعية. هذا ما أحس بأنه يموج بين جوانح كل شخص وتكشف عنه خلجات الجميع.

إنه أيضا ما تخفيه كل ابتسامة ويعبر عنه كل إطراء. إنه لحـْـنُ كل موسيقى ولازمة كل نشيد. إنه في النهاية السبب الأول للنواح والتلوي ألمًا وعويلا. الموريتانيون قلقون وتواقون إلى ما يـُـطـَـمْـئنهم حول مستقبل بلادنا، حول أمنها، ووحدتها، وانسجامها الاجتماعي، وتضامنها، واستقرارها السياسي، ورفاهيتها الاقتصادية، كشروط لا غنى عنها لاستقرارها وبالتالي لبقائها. إنهم ينتظرون أن يروا إشارات لا تترك أي مجال للشك حول تصميم أصحاب القرار على إيجاد مخارج سالكة والتكفل بمختلف مشاغلهم القائمة على شقين:

الأول يجب بالضرورة أن يكمن في تنشيط أو اتخاذ مجموعة تدابير تشريعية وتنظيمية تهدف لاحتواء النوازع البادية أكثر فأكثر والمحرضة على تفاقم وتمجيد الخلافات، لأن البلاد ليست محصنة تماما ضد الانجرافات القائمة على الهوية و/ أو الطائفية أو ضد تلك القائمة على التطرف الديني أو ضد انحرافات الإعلام والسياسة. بديهي أن الأمر لا يتعلق بتضييق الحريات ولا بتكميم الإعلام، لكن الأولوية التي نشترك فيها جميعا يجب أن تكون للحفاظ على الوحدة والانسجام الاجتماعي والسلم المدني

. أما الثاني فيكمن في الشروع العاجل في إخماد لهب الوجع أو، بتعبير أدق، الغضب المتنامي للسكان من خلال سلسلة تدابير تصحيحية للتوعك الاقتصادي والاجتماعي حيث يسود الشعور بالظلم واللامساواة والمحسوبية والتهميش والإقصاء. هذه الأولويات، لأنها متعددة الأشكال ومعقدة وخلافية، ستفقد شحنتها العاطفية وتكسب السرعة والسهولة وفاعلية الحل إذا اتــُّـخذت أو اقتــُــرحت في بيئة سياسية مواتية: هادئة وخالية من العاطفة والشخصنة. هذا المسعى سيكون مناسبا على اعتبار أننا ولجنا عتبة جدولة انتخابات مهمة جدا لأنها ستحدد، إنْ خيرا، كما أرجو، أو شرا، لا قدر الله، مستقبلَ الديمقراطية ووجود البلد. المسئولون والفاعلون السياسيون من الأغلبية والمعارضة مدعوون علنا من قبل الشعب الموريتاني المنهك للقيام بواجبهم الوطني الذي يفرض عليهم إظهار مدى استعدادهم وإخلاصهم وإصرارهم ووضعهم المصلحة العليا للبلد فوق كل اعتبار. من أجل هذا يتوجب عليهم أن يقبلوا مُـضِيّ بعضهم إلى بعض واستماع بعضهم لبعض والتوصل إلى تنازلات مفيدة متبادلة. وإن الواجب الوطني لمسئولي المجتمع المدني والإعلام والشخصيات المرجعية (الدينية والفكرية) يتمثل في تشجيعهم علانية.

1- من المستحسن، كأول إشارة ملموسة للتهدئة، قبول السيد رئيس الجمهورية، فور انتهاء اتصالاته الجارية حاليا عبر السيد الوزير الأول، بأن يستقبل مباشرة، وبحضور الثاني، كل رؤساء الأحزاب الممثلة في الجمعية الوطنية الجديدة وتلك التي كانت ممثلة في الجمعية الوطنية السابقة.

2- هذا اللقاء سيرسخ جو التهدئة والتقارب الجديد، كما سيشكل إشارة قوية لحسن نوايا الجميع، في الوقت الذي سيمثل فيه فرصة لرئيس الجمهورية كي ينتدب وزيره الأول لمناقشة الترتيبات التنظيمية للانتخابات الرئاسية القادمة ومقترحات الضمانات القادرة على تسهيل وتشجيع مشاركة الكل، خاصة الأحزاب التي قاطعت الانتخابات الأخيرة.

3- إشعار اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات بانتهاء مهمتها واستبدالها (وفق ترتيبات متفق عليها) بهيئة أكثر كفاءة وأكثر نزاهة وأكثر تشبثا بالمصلحة الوطنية.

4- القبول المتفق عليه للتأجيل الضروري للانتخابات بغية التمكن من تنفيذ كل الإجراءات المتخذة.

5- كل مقترح آخر يهدف إلى تحسين وضع الحرية والشفافية والحياد، فهو محل رغبة وترحاب. * أما هدفي الآخر، الأقل أهمية ، فيتمثل في أن أقدم تعريفا بنفسي للذين يرغبون بجدية في ذلك. فأنا لا أختلف عن أي كائن بشري، لأنني مخضخض من الجيّد والسيّئ، الجميل والقبيح، الحار والبارد، الذئب والحمل، الأحلام الناعمة والكوابيس الفظيعة. 

وإذا ما أكدتُ بصراحة للذين ما يزال يكتنفهم الشك بأنني لا أدعي براءة الحمل ولا ضراوة الذئب، فإنني، منذ بلغت سن الرشد، سعيت إلى تقمص صفة الراعي، ذلك الذي يطمح ويتمكن تارة من بث أقل قدر من التوازن والتعقل والإنسانية عساه يجعل الحـُـلم ممكنا في غابة تتربص بها كل أنواع العفاريت. أرجو أن أكون قد نجحت في ذلك لعلني أقنعتكم بمن أكون حقيقة.

انواكشوط 17 مارس 2014

مسعود ولد بلخير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى