عملية “شارلي إيبدو”: وصية “بن لادن” ونظرية “أبو مصعب السوري”

مرت ثلاثة أسابيع حتى الآن على الهجوم الذي هز فرنسا، ووضعها في بؤرة الاهتمام العالمي، ووضع قادتها في موقف انفاعلي مشابه للموقف الذي كانت فيه القيادة الأمريكية غداة الحادي عشر من سبتمبر، وتشير ردة الفعل الفرنسية – حتى الآن – إلى عجز الإدارة الفرنسية عن الاستفادة من الدرس الأمريكي، من خلال تلمسها لخطاها على الطريق ذاته الذي مرت منه الإدارة الأمريكية قبل 14 عاما.

صفعة اكواشي غداة السابع من يناير 2015 وضعت صانع القرار في عاصمة الأنوار أمام معادلة العقل، والقوة، الأول يستوجب النظر في مآلات الأفعال قبل وقوعها، ويضع الأحداث في سياقاتها، ويزن ردة فعله ويتحكم فيها، دون أن يلغي خيار القوة لكن يبقيه في حدود الأهداف المرجوة منه، أما منطق القوة فيتعمد ردة الفعل السريعة، وينتشي بالتعاطف الدولي اللحظي، ويوسع دائرة ضحاياه على أوسع نطاق، ويبحث أصحابه عن أهداف سهلة سريعة، لإعادة الاعتبار لصورتهم الممرغة في الوحل عبر شاشات العالم.

وإذا كان منطق العقل يعتمد إستراتيجية وقائية تحلل الأحداث، وتستشرف المخاطر، وتعالج الأسباب، فإن منطق القوة يعزز الشرخ ويزيده حتى ولو بدى في لحظاته الأولى أنه مفيد وناجع.

يبدو  أن فرنسا اختارت – بوعي أو من دونه – أن تكرر نفس الخطأ الأمريكي – غداة الحادي عشر من سبتمبر – بتقسيم العالم إلى فسطاطين، أحدهما داعم؛ ومن لم يأخذ مكانه فيه فقد اختار الوقوف على الضد. كان على العالم أن يختار إما أن يكون “شارلي” أو “كوليبالي”. لقد أعادت فرنسا الحرب على الإرهاب جذعة بعد أن انتشرت مؤشرات فشلها في أكثر من مكان، وجاء إعلان فشلها من أفغانستان بعودة الإدارة الأمريكية إلى الحوار مع طالبان، بعدما فشل منطق القوة في القضاء على الحركة التي شكلت الهدف الأول والمباشر للحرب على الإرهاب إبان إعلانها مع باكورة القرن الجديد. رسائل لعملية غير تقليدية وإذا كان الرد الفرنسي جاء تقليديا ومتماهيا مع التجربة الأمريكية التي سبقته بأكثر من عقد الزمن، فإن العملية التي جاء ردا عليها لم تكن تقليدية بالمرة، سواء من حيث أهدافها، أو التخطيط لها، أو طريقة تنفيذها، أو الرسالة التي أراد منفذوها إيصالها إلى الرأي العام الفرنسي، بل والعالمي. كانت العملية دقيقة في هدفها (صحيفة أوصى بن لادن باستهدافها)، وفي مكانها (قلب العاصمة الفرنسية باريس)، وفي زمانها (بعد أيام قليلة من ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وتزامنا مع إجراءات أمنية خاصة لتأمين احتفالات رأس السنة الميلادية)، وكان تحديد المستهدفين في العملية أكثر دقة. بعث الإخوين اكواشي من خلال عمليتهما بعدة رسائل مختلفة، من بينها النقلة النوعية للعمل المسلح من “مهاجر” إلى محلي في أوربا، وبأيدي أبنائها المولودين فيها والمتدربين على أراضيها، كما أوصلت نوعية الهدف رسالة لجماهير العالم الإسلامي، حيث حظي منفذو العملية بتعاطف غير مسبوق في العالم الإسلامي، وحملت صورهم في مقدمة ميلونية في جاكرتا، وصليت علهم صلاة الغائب في جامع محمد الفاتح، وكانت أسماؤهم على الرؤوس في التظاهرات التي خرجت من أندنوسيا إلى السنغال.

لقد أجهزت العملية غير النمطية على الإستراتيجية الغربية الهادفة إلى القضاء على الخطر الإرهابي أو إبعاده عن أراضيها، خصوصا مع فشلها المريع في القضاء على ما يسمى الإرهاب في العالم الإسلامي حيث تزايدت الحركات الموسومة بالإرهاب، وتوسعت الرقعة التي تسيطر عليها، وامتلكت إمكانيات غير مسبوقة في تاريخها.

لقد جاءت نهاية العملية كما رسمها المنفذون، حيث قتلوا مدير وموظفي إدارة الصحيفة الفرنسية، وأظهروا حرصا على إيصال رسالة للرأي العام العالمي عبر وسائل الإعلام الفرنسية بأنهم “ليسوا قتلة”، وأن “عمليتهم كانت انتقامية لمحمد صلى الله عليه وسلم”. كان انتقاءهم لضحاياهم داخل مقر الصحيفة وفي الشارع انتقائيا دون أن يفرغوا بقية رصاصهم في المزدحمين في شوارع باريس، كما استغلوا النوافذ الإعلامية التي أتيحت لهم لتعزيز رسالتهم التي كررها اكواشي: “لسنا قتلة”.

تلاعب الأخوين اكواشي بالأمن الفرنسي، حيث احتاج لأكثر من يومين قبل الوصول إليهما، وكشفت العملية عور التطور التقني، وعجزه عن تسريع وتيرة القبض على منفذي العملية، أحرى استباق العمليات، أو وضع حد لها خلال مرحلة التنفيذ.

أضاف العضو الثالث في العملية أميدو كوليبالي للعملية بعدا ظل غائبا طيلة التجارب السابقة، فقد ظل غالب نشطاء الحركات المسومة بالإرهاب من الدول العربية، أو من الدول الإسلامية غير الإفريقية، على الرغم من وجود حركات متربطة بالقاعدة تتوزع مناطق إفريقيا من شرقها مرورا بشمالها إلى غربها، وتَعزز هذا البعد بالاحتجاجات الكبيرة التي عرفتها النيجر ومالي والسنغال المزرعة التقليدية للنفوذ الفرنسي في إفريقيا.

نشطاء ما بعد “شارلي إيبدو

يمكن القول إن عملية استهداف طاقم صحيفة “شارلي إيبدو” كان بداية لنمط جديد من العمليات المسلحة، يكون الارتباط الانتمائي لمنفذها قاصر على المتابعة عن بعد، والقراءة أو متابعة أشرطة الفيديو، وفي أحسن الأحوال تبادل رسائل عبر وسائط الاتصال المنتوعة، ليتحول بعدها شخص ما إلى قنبلة موقوتة، تحديد وقت انفجارها ومكانه يعود له وحده.

ورغم أن هذه الظاهرة فرضتها الظروف التي تعرض لها قادة القاعدة بعيد الحادي عشر من سبتمبر 2011، وتعرض حلقات وصل فروع القاعدة بقيادتها للتصفية أو الاعتقال، فإنها كفكرة شكلت حلما للعديد من قادة القاعدة خلال العقد الماضي، وذلك بتحويل العمل المسلح لهم من تنظيم مرتبط ومتسلسل قياديا، إلى فكرة منتشرة في العالم الإسلامي، وبين الجاليات المسلمة في الغرب.

إن نجاح هذه الإستراتيجة سيجعل أجهزة الأمن في الدول الغربية أمام امتحان صعب، إذ سيكون عليها مراقبة حوالي عشر السكان في فرنسا مثلا، لأن أي واحد من هؤلاء قد يكون هو قائد – أو منفذ – العملية القادمة، حتى ولو لم يسافر إلى العراق ولا إلى اليمن أو مالي؛ بل ولم يخرج من فرنسا على الإطلاق.

أثبتت التحقيقات الفرنسية علاقة الأخوين اكواشي بأميدو كوليبالي، وعملهما معا في إطار مجموعة واحدة في فرنسا، رغم انتماء الأخوين اكواشي لتنظيم القاعدة، في حين أن كوليبالي أكد انتماءه لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، لقد اتحد الهدف بضرب المصالح الفرنسية، فلم يكن لاختلاف الانتماء التفصيلي تأثير على سير الأحداث.

لقد شكل هذا الأسلوب في التجنيد فرصة لتجاوز الضغط العسكري والأمني الذي تعرضت له القاعدة بداية القرن الجديد، فجاء منظرها البارز  عمر عبد الحكيم المعروف بأبي مصعب السوري بكتاب تجاوزت صفحاته 1600 صفحة، وخصص جل فصوله للتنظير لهذا النوع من التجنيد، ملخصا فيه تجربة 14 سنة من النشاط في تنظيم القاعدة.

ركز السوري في كتابه المعنون بـ: “دعوة المقاومة الإسلامية العالمية” على أن اللقاء المباشر ليس شرطا للانتماء للقاعدة، وإنما يكفي الاطلاع على ما في كتابه والالتزام به لكي يكون “الشخص كامل العضوية والفعالية”، متحدثا عن إمكانية استغلال شبكات الاتصال، وطرق إيصال الخطاب، وسهولة التواصل والتخاطب، إذا توفر العزم والإرادة.

ويشير أبو مصعب السوري إلى  اعتقاده أن الأفكار الواردة في كتابه تشكل “قاسما مشتركا لدى عموم الجهاديين”، كاشفا عن أمله في أن يتحول كتابه إلى “منهج متكامل، وهوية فكرية.. ومرجعا بين قيادات الجهاد والمقاومة وقواعدها”.

الحادي عشر بنسخته الفرنسية: اختارت فرنسا الحادي عشر يناير كأحد أيام المسيرة الكبرى التي حملت اسم “مسيرة الجمهورية”، وصادف اليوم الذكرى الثانية لانطلاقة عملية التدخل الفرنسي في دولة مالي، وإنهاء سيطرة القاعدة وأخواتها على منطقة أزواد، كما تصادف الحدث مع تزايد الحديث عن قوة إفريقية مشتركة للتدخل في نيجريا لمواجهة بوكو حرام، وتصاعد الحديث بشأن التدخل من جديد في ليبيا.

بدأت فرنسا – عمليا – منذ بداية العام 2013 النزوح من موقع الداعم من الخلف للحرب على الحركات الإسلامية المسلحة إلى موقع الفعل، ومن تابع إلى رأس حربة، وهي قفزة تستلزم بالضرورة تغيرا في موقع المصالح الفرنسية على قائمة أهداف الحركات الإسلامية المسلحة.

لقد حولت فرنسا صحيفة “شارلي إيبدو” من مؤسسة فاشلة ومفلسة إلى واجهة للجمهورية الفرنسية، يُفرض على العالم أن يقف معها، ومن لم يقف معها فقد أعلن عداء فرنسا، وقد حصلت فرنسا في الساعات والأيام التي تلت العملية على تضامن دولي واسع، لكنه سيتآكل مع الأيام كما تآكل الحلف الأمريكي قبله، لأنه في الحقيقة دعم مؤقت، وزخم زائل.

ومن المرجح أن تسعى فرنسا للقيام بخطوات تستعيد بها جزءا من هيبتها المهدورة على أسوار “شارلي”، وقد تكون ليبيا المرجحة أكثر لأن تكون الوجهة، وإن كانت نيجيريا قادرة على منافستها في ظل تصاعد عمليات بوكو حرام، وتوسع سيطرتها، وتزايد أعداد المختطفين لديها.

وفي حالة كانت ليبيا وجهة فرنسا القادمة فإن الجغرافيا السياسية ستضيف تشابها آخر للحثيات التي تتشابه فيها فرنسا ما بعد حادثة شارلي، مع أمريكا ما بعد حادثة الحادي عشر سبتمبر، وهو البحث عن “عدو” خارجي لشغل الرأي العام الداخلي باستهدافه، واختيار دولة تعيش صراعا داخليا محتدما، وبجوارها دولة قوية، تعلن مواقف رافضة للتدخل الدولي؛ هي الجزائر، لكن تجربة انحنائها السابق أمام التدخل الدولي لفرنسا في مالي، واتساقها معها تبقى ماثلة. فرنسا تسرع الخطا لتكون أمريكا ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، وليبيا مرجحة لأن تكون أفغانستان العقد الجديد، باستقبالها لتدخل دولي تتشكل طلائعه من القوات الفرنسية الساعية للانتقام من عدو ملتبس، وفي هذه الحالة لن تكون الجزائر سوى باكستان إفريقيا.

 أحمد محمد المصطفى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى