حديث السبت : باريس وصبر الانجليز وسجالات أخرى

د. محمد بدي ابنو*

” العالم خشبة مسرح. ولكن أدوار المسرحية تعاني من توزيع سئ.” أوسكار وايلد

 

ـ1ـ

 

إحدى خصوصيات باريس أنها عاصمة السجالات. في كل مرة أعود اليها أجد أن سجالا جديدا قد حلّ محلّ السابق أو هو قيد منافسته. أو أن ثالثا وُلدَ ومات في غيابي.

صحافيو اليمين وبعض صحافيي اليسار في مواجهة مع الفيلسوف آلين باديو. لم ترُق لهم خصوصا مواقفه بعد حادثة شارلي ابدو. للتاريح دائما رغبة عارمة في السخرية : هنالك ضجة أكثر صخبا حول تورط الاستخبارات الألمانية في التجسس على الرئاسة الفرنسية ـ وعلى عدد من المسؤولين الفرنسيين ـ  لصالح وكالة الأمن القومي الأمريكية. بعض الصحف كذلك في حالة استنفار ضدّ وزارة التربية الوطتية لأتها قررتْ ابتداء من العام القادم تدريس تاريخ الإسلام كمادة إلزامية في المرحلة الإعدادية. الصحف اليمينية ركّزتْ على أن موضوعات تتعلق بتاريخ المسيحية والأنوار موجودة في البرنامج الإعدادي فقط كمواد غير إلزامية.  وطبعا زايدتْ بعض الأقلام وذهبتْ إلى أنما ” يراد هو طمس الجذور المسيحية لفرنسا.” أما صحف أقصىى اليمين فلا يمكنها أن تنسى الاسم الأصلي لوزيرة التربية القومية الحالية نجاة بن القاسم، وأنها مسلمة مغربية ولدتْ في قرية بني شيكر في شمال المغرب وفيها قضتْ طفولتها.

 

ـ2ـ

 

يبدو أن المترو الباريسي فضّلَ هذه السنة الاحتفاء بربيع الشعراء بطريقة تختلف عما اعتادتْه جدرانه منذ عقد ونصف. منتقدوه يتهمونه بالخضوع لرغبات التجارة السياحية. فقد تخلى مؤقتا عن القصائد لصالح الأغاني، وتحديدا أغاني أديت بياف. المترو تملأه نصوص حفيدة سعيد بن محمد الصويري (من الصويرة في المغرب) التي أصبحت رمزا وطنيا  فرنسيا. لكأن باريس تريد أن تتناول مع بياف بعض المورفين لتتناسى آلامها ولتتغنى بـ”الحياة الورديةّ” أو تٌنشد مع شارل دمون وبياف “لا، لا أندم على أي شيء …”.

 

ـ3ـ

 

تابعتُ زوال أمس خطاب مارين لبين في التظاهرات التقليدية لحزبها بمناسبة فاتح مايو. طبعا لا يتعلق الامر في عرف أقصى اليمين بعيد العمال وإنما بذكرى جان دارك التي تعتبرها السردية الوطنية محررة فرنسا من الإنجليز في نهاية حرب المائة عام. مارين لبين هذه المرة لم تُركز على المسلمين بشكل مباشر، عكسا لما اعتادتْه في السنوات الأخيرة. بل ركّزتْ على الجانب الاقتصادي، بمفردات تعود في أغلبها إلى أدبيات أقصى اليسار. ولكن استدعاءاتها للرموز التاريخية والأسطورية الذي ظلتْ كما هو متوقع طاغية على جزء من خطابها لم تخل من إحالات ضمنية إلى علاقات فرنسا بالمسلمين.

 

ـ4ـ

 

كانت حرب المائة عام سلسلة من الصراعات بين عائلات ملكية أصولها واحدة (فرنسية). ولكنها نجحتْ في توريط الشعوب وتحويل الأحداث إلى مواجهة بين سكان الجزيرة وسكان جيرانهم في القارة. وتمّ العمل على خلق هويتين متمايزتين. وانتمائين وطنيين أو قوميين مختلفين. شعار العائلة المالكة الانجليزية (عائلة “بلانتاجانت” ذات الأصول الفرنسية)  أنها لا تريد فقط للانجليز الخروج من هيمنة المملكة الفرنسية ولكنها تريد لهم الانتقام من هذه الهيمنة عبر استتباع فرنسا. في آخر الحرب ظهرتْ جان دارك التي تمنحها السردية الفرنسية قدرات أسطورية خارقة كـ ّبطلة منقذة”. ولكن القديسة دارك  قُتلتْ في فرنسا بأسلوب داعشي فقد أدانها عميد جامعة باريس (السوربون) بالهرطقة وحكم عليها بالإعدام حرْقا.ثمّ  بعْد حرْقها بخمس وعشرين سنة أمر البابا كاليستوس الثالث بإعادة محاكمتها فتمتْ تبرئتها. لاحقا ستعمّدها الكنيسة (تُـطوبها) بين السعداء وستعتبرها قديسة.  أما الفرنسيون فسيطلقون عليها في سرديتهم الوطنية القومية ألقاب “العذراء” أو “عذراء أورليان” و”أمّ الأمة الفرنسية”.

 

مارين لبين، من جهتها، تقود صراعات غير مشرفة في جبهات عديدة أكثرها لغطا وإحراجا لها صراعها الحالي مع والدهاـ مؤسس حزبها ورئيسه الشرفي ـ جان ماري لبين. لذلك أصبح التركيز على شخصية جان دارك كـ”بطلة امرأة” وكـ “أمّ الأمة الفرنسية” التي “ظهرتْ في حقبة درامية لاتقاذ بلدها من الغزو الأجنبي” وسيلة دعائية متعددة الوظائف.

 

ـ5ـ

 

ولكن الانجليز صبورون على الانتقام. فما لم ينجحوا فيه تماما في حرب المائة عام سيكسبونه قرنين بعد ذلك في العالم الجديد. فقد قضوا خلال حرب السبعة أعوام (تُسمى أحـيانا الحرب العالمية ما قبل الأولى) على “فرنسا الجديدة” التي كانت تمثل أهم المستعمرات الفرنسية في المرحلة الاستعمارية الأولى. فقد ضمّتْ فرنسا الجديدة أغلب أمريكا الشمالية لتمتدّ عبر الضفة الشرقية من كبك إلى لويزيانا أي إلى جنوب الولايات المتحدة الحالية. انهارت فرنسا الجديدة مع اتفاقية الاستسلام التي وقعتْها  في معاهدة باريس سنة 1763. يَعتبر مؤرخو اللغة أنه بهذا الاستلام بدأ العد التنازلي للغة الفرنسية التي كانت قد نجحتْ مع نهاية حرب المائة عام في أن تحل تدريجيا محل أمها اللاتينية في أجزاء واسعة من أوربا وأن تصبح شيئـا فشيئا لغة الآداب والعلوم والديبلوماسية. بدأ عدها التنازلي بينما بدأ العد التصاعدي للإنجليزية رغم أن الأمر لم يتجسّد ميدانيا إلا قرنا بعد ذلك. فحتى بعد معاهدة باريس الاستسلامية بعشرين سنة كان بإمكان كاتب كريفارول أن يكسب مسابقة في برلين عن “الطابع الكوني للغة الغرنسية” وأن يعلن كوريث للأديب بوالو “كل تعبير ليس واضحا ليس فرنسيا. كل تعبير ليس واضحا هو إما إنجليزي أو إيطالي، أو إغريقي أو لاتيني”. وطبعا ستواصل الثورة في نفس اتجاه ريفارول وسابقيه وستمنح طرحهم اندفاع وعنفوان الثورة. تماما كما ستواصله الحروب النابليونية. ولكن الانجليز لم يقبلوا أن يستعيد الأمبراطور في أوربا ما خسرتْه فرنسا في أمريكا. كسبوا المعركة الثقافية واللغوية خارج أوربا وبقوا حريصين على الحفاظ على هذا المكسب رغم انفصال الولايات المتحدة عنهم وتحالفها في البداية مع فرنسا. بعبارة أخرى تمّتْ تصفية الحساب بين اللغتين أواخر قرن “الأنوار” خارج أوربا ودون أن تَظهر في البداية إلا ببطء آثار هذا التحول الثقافي والجيوستراتيحي الضخم الذي اكتشف العالم مداه أساسا بعد الحرب العالمية الأولى.

 

لذلك حين احتفتْ أسبوعية التايم الأمريكية بمارين لبين في نيويورك الأسبوع قبل الماضي اغتنمت ابنة جان ماري لبين “الفرصة” لترفض أن تتحدث بالانجليزية ولتعلن أنها “كأغلب الفرنسيين” لا تعرف لغة شكسبير.

 

 

 

* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى