من قصص بني ديمان

كان المختار بن ألما رجلا من بني ديمان “يعرف لوحه” في هدوء، مشهور في هدوء، ويعيش حياته في هدوء، وقد دأب على رحلة الصيف، حيث يشدّ على حمار له، ويحمل “ما وجد” من العلك والعملة، وليس بالكثير.

 

فالغنى لم يكن سائدا والحمل الكبير من العلك “لا يتماشى مع الديمين.

 

إن وجد الرجل رفقة إلى شمامة التي سيجلب منها “بشن” رافقها بطريقته الخاصة، فلا يسير في مقدمة الركب ولا في مؤخرته، ولا يكثر الكلام ولا يصمت كلية، لا يمازح، ولا يسأل، ولا يكثر من العبادة، ويقوم بما يقوم به جل القوم مما يحتاجه المسافرون من إحضار للحطب وإيقاد للنار وجلب للمراكب.

 

 

 

تلك كانت طريقة بني ديمان للاختباء، وعدم لفت الانتباه، إنها نوع من التلون الاجتماعي، الهدف منه الخمود والخمول، وهو نوع من التصوف يمكّن صاحبه من ممارسة حياته بحرية تامة، وخاصة الحياة الروحية من تأمل وحضور وشهود…

 

في تلك المرة كان الرجل عائدا من شمامة، رزقه الله بمرافق لا يعرفه، رجلان يسبران فلوات إيكيدي، يسوقان حميرا، حمولتها تفوح برائحة  “البشنة” الندية.

 

كان من الممكن دون كبير عناء التكهن بما يدور في ذهن أحدهما، فهو إنسان طبيعي، تنم قسمات وجهه عن نهاية رحلة شاقة خاضها منذ أسابيع لجلب الغذاء لأسرته.

 

إبتسامته الشاحبة كانت تعبيرا طبيعيا عن الجائزة التي سيتلقاها مقابل تعبه، عندما “يروح” الليلة لأهله، وهو يحمل بضاعة تقوم مقام العملة الصعبة، سيشترون منها الثياب والشاي السكر.

 

أما المختار بن ألما، فلم تكن قسمات وجهه تفيد أكثر علماء النفس تمرّسا في تخمين ما يدور بذهن ذلك الشيخ، هل يجتهد في مقصد غامض لحكم من الأحكام الشرعية المستعصية؟ هل ينظم بديعا يعز تصيّده على الأدباء؟ هل يحل بعض ألغاز المنطق أوصله إليها فهمه المتّقد، بعد أن ضنّت عليه بها حالة سادت زمانه، من شح المراجع والكتب؟ أم إنه بكل بساطة يفكر فيما يفكر به رفيقه، لكن بطريقته الهادئة؟

 

أفترق الرجلان بعد وداع هادئ، ولم ينس الرجل بعد أن يئس من قبول رفيقه، أن يعرّج  ليبيت معه، أن يشير له بأن ما بقي من اليوم يمكن أن يوصله لو جدّ السير، إلى حي من اليعقوبيين في طريقه.

 

ورفع المختار بن ألما طرفه لشمس تميل قليلا عن يساره، حمراء منهزمة أمام لطف نسائم تداعب العشب المصفر.

 

حثّ السير كما نصحه مرافقه، وما لبث حتى توارى عنه ليسير سير من لديه طريقة أخرى توصله قبل غروب الشمس لحي اليعقوبيين.

 

فأولاد ديمان لا يستعجلون لينالوا مآربهم، وربما يكون استحضر “ما لاهي يخسر شي، وإيلا اخسر شي كاع ما اخسر شي”، ثم، وفي ما يحوي صدر ذلك الشيخ من خواص السور والأدعية ما فيه كفاية  “لطي الطريق”.

 

حطّ بن ألما حمل حماره عند خيمة أمة اختارها بتمعّن وهو يستشرف الحي فعل المتمرّس، أنزل  الظروف بهدوء تحت طرف الخيمة وهو يتناوب السلام مع تلك الأمة التي كانت منهمكة في دلك عيشها، لم يأخذ منه “تقييد” الحمار وقتا طويلا  “فلذلك الحمار رغم أصله، نصيب من الصحبة جعله لا يشبه بقية الحمير” ، أخرج  “نفكتين” من الزرع وقرّبهما من الأمة  قائلا دون إضافة العيش الذي سينتج من إحداهما بعد أن تكون الأخرى أجرة لصنعه: “ما عاجلك شي”، ثم باشر الوضوء وهو يسألها عن مكان “المصلّى”.

 

في المسجد المقام من جذوع الأشجار، كان الناس في هرج ومرج لم تهدأ الهمهمات والأحاديث إلا وقت الصلاة، كان هناك حدث جلل، ولم يلبث الشيخ النبه أن عرف من مفترق الأحاديث، أن العلامة الجليل مولود ول محمد أجويد  “سيروح” الليلة لهذا الحي.

 

مكث وقت نافلة لا تلفت الانتباه، والرجال يتداولون أنواع الفنون، يخطئون ويصيبون، يتساءلون ويستفهمون، يحضرون ويبحثون، دون أن يدركوا أن بينهم من يحيط بكل ذلك علما وفهما، لكن الرجل كان يعيش هدوء غريبا، تجسّد في الانسحاب بهدوء، والرجوع إلى خيمة الأمة، ليروح في سبات عميق.

 

استيقظ المختار بن ألما بعد وقت على صوت رجل يناديه:

 

ـ أيها الضيف، أيها الضيف، قم معي، هنا وسط الحي نصبت خيمة كبيرة لاستقبال العالم الجليل مولود، تعال إلى طرفها لتتعشّى من اللحم وتنام.

 

ـ يكفي العيش، أما النوم فسآتي لأنام.

 

ـ لدينا العيش، قم معي …

 

ـ العيش سبق وحضّر.. جاء صوت الأمة: لقد أعطاني .. وهاهو عيشه فوق النار.

 

 بادر الرجل بكرم، وهو لا يقبل من المختار إلا أن يروح معه:

 

ـ قم معي، و”انتي” عندما ينتهي العيش “أيدميه”، وهاتيه له تحت خيمة مولود.

 

تحت تلك الخيمة الكبيرة المفروشة بأحسن ماهو موجود في تلك الفترة، تحلّق الرجال حول مولود، في فترة شهدت ازدهارا علميا فريدا، يتحدّثون عن كل الفنون ويستفسرون.

 

وانبرى الرجل الذي عرف بالفصاحة والقدرة على التوصيل، يمد بني عمومته بما يملك، لا يضنّ بما قرأ وسمع وفهم.

 

وتحت “الخالفة الكبلية الساحلية”، جلس المختار بن ألما يمارس ما دأب عليه منذ ولد، يستمع ويستمع ويستمع في هدوء، ربما يستشكل الرجال أمورا تكون من البديهيات عنده، يتذكّرون وينسون، يخطئون ويصيبون.

 

بعد أن هدأ الليل، اتّفق الرجال على أن يتركوا ضيفهم مولود لينام، فهو متعب من السفر، وأمامه غدا سفر طويل.

 

بعد أن راحو .. وجد مولود النوم يجافي عيونه، وحده في وسط الخيمة، ورجل أشعث أغبر، قيل إنه ضيف مار، “يتمرفق” تحت “خالفة” الخيمة.

 

فكّر مولود، ربما لو لم يكن إيمان هذا الضيف صحيحا، سأصحح له إيمانه، وسلّم عليه قائلا:

 

ـ أنت لم تشارك في حديثنا، سأفيدك بشئ، هنالك عشرون واجبة وعشرون مستحيلة في حق الله .. هل سبق وسمعتها؟

 

أجاب بن ألما في هدوء، بعد أن “تنحنح” نحنحة خفيفة تحمل ما تحمله:

 

ـ “اللّ هاك”.

 

بادر مولود: عدّها لي.

 

وأخذ الشيخ يعدّ صفات الله دون زيادة ولا نقصان.

 

تابع مولود أسئلته في العقيدة، وبعد مدة دخلوا في مستويات عالية، وولد ألما يجيب دون زيادة ولا نقصان.

 

ثم تحوّلت الأسئلة للفقه حتى وصل مولود لمكان لم يعد بإمكانه الوصول لمستوى فوقه.

 

ولم يكن الأمر ملفتا كثيرا، فمولود يدرك أنه يسافر في منطقة “إيكيدي”، وهي منطقة تعجّ بالزوايا والعلماء، لكنه تحوّل إلى مجال لم يكن متداولا كثيرا في تلك الفترة، بل كان من تخصّص النخبة، فبدأ في علم المنطق، وعندما اكتشف أن الضيف بحر لا ساحل له، عرف أنه لو سأله عن نفسه فربما لن يظفر منه بمبتغاه.

 بادره بالسؤال: هل تنظمون المقول؟

 

فسكت المختار برهة وأجاب: قليلا ..

 

هنا ظفر مولود بمطلوبه ..

 

ما هو آخر ما نظمتموه من الشعر؟   

 

حدّث الشيخ بتؤدة وكياسة: منذ مدة زارت الحي فنّانة، وطلبت من “عصر” من الشباب أن “يقولوا” لها بعض الشعر لتتغنى به وتشتهر، فأغروها بي، وزعموا لها أنني أحب الفن وأتقن الشعر، وعندما جاءتني تخلّصت منها ببعض “بوسوير” وقلت:

 

يا بنت “أحمد لولا” الله ينهاني

عن مجلس اللهو لولا نهيه الثاني

قلب المنيب إلى مولاه محتسبا

لكنت أول آت أو أنا الثاني

 

لم يكد المختار يبدأ الأبيات، حتى وثب مولود إليه معانقا يقول: هل بت ليلتي أصحح عقيدة المختار بن ألما ؟! 

 

وكانت الأبيات قد شاعت وذاعت في كل المناطق، وأخذ الرجلان يتجاذبان أطراف الحديث، لا يعلمان من أين يبدآن، كان مولود قد عزم في تلك الرحلة أن يمر بالمختار بن ألما ليستفسر عن بعض الاستشكالات في المنطق، ولم يقطع حديث الشيخين إلا الأمة تسأل:

 

ـ أين صاحب العيش؟

 

فبادرها مولود واقفا وهو يستلم العيش ليقدمه لضيفه:

 

ـ أنا صاحب العيش.

 

 

منت الناس

 

أعتذر للقرّاء، فما أكتبه ليس تاريخا، بقدرما هو قصص شعبية متداولة، أضيف عليه تصورات للمواقف من خيالي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى