بن مايابى الشنقيطي بعيون أعلام المشرق مواقف ومآثر خالدة

alt  

فى مثل هذا اليوم الثامن من صفرمن عام 1363هــ قبل أزيد من سبعين عاما رحل عن الفانى إلى الباقى أبو المواهب بخاري عصره الحافظ الشيخ محمد حبيب الله بن مايابى الجكني الشنقيطي ، ومازال زادَ المسلم ، وفتحَ المنعم ، وإضاءةَ الحالك ، وإيقاظ الأعلام وتزيين الدفاتر .

هاجر فى سبيل ربه من بلده موريتانيا بعد استيلاء المستعمر عليها ، إلى الحرمين الشريفين، وفى طريق هجرته أقام بضع سنين فى المغرب ناشرا للعلم ما بين تدريس وتأليف وإفتاء، أخذ عنه خلالها سلطان المغرب العالم الجليل مولاي عبد الحفيظ، ثم قدم الحرمين ، واستقر ردحا من الزمن مدرسا بهما وبالمدرسة الصولتية بمكة المكرمة، فأقبل عليه طلاب العلم من مختلف الأقطار الإسلامية ، ثم خرج من هناك إلى مصر فلقي الحفاوة البالغة والتبجيل واختير مدرسا بكلية أصول الدين بالأزهر الشريف ، وأخذ عنه من طلاب العلم مالا يحصى ،  شهد له العلماء الأجلاء فى الأزهر المعمور وغيره بقوة الحفظ وغزارة العلم والكشف والاستقامة والجرأة فى قول الحق  (فقال تلميذه العالم الجليل الشيخ صالح الجغفري الذى يعد من أكابر الأزهريين لقد ذهبت إلى بيت الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطى ، بجوار القلعة ، ناوياً بقلبى أن أستأذنه فى أن أكون مقرئاً له متن حديث البخارى ومسلم ، فلما وصلت البيت بغرفة الاستقبال ، وهى أول مرة أزوره بها، جاءنى بها مبتسماً ، فلما سلمت عليه وقبلت يده ، وقال لى : أنت الذى – إن شاء الله – ستكون لى سراداً فى هذا العام ، ومعنى سراداً : مقرئاً ، والحمد لله قد لازمته خمس عشرة سنة إلى الممات، ونزلت قبره ، ولحدته بيدى، والحمد لله ، وكنت أقرأ للإخوان الحاضرين درساً قبل حضوره بالمسجد الحسينى، فإذا عارضنى إنسان أو شاغبنى يهمس لى فى أذنى عند جلوسه على الكرسى بقوله: يعاكسونك وأنت خير منهم، كأنه كان معى ، ثم يأتى فى دروسه بكل موضوع قصرت فيه ، وقد حصل ذلك منه مرات كثيرة. وكان إذا حصل له عذر يرسل تلميذاً أن اقرأ الدرس نيابة عن الشيخ، وفى يوم أرسل لى ورقة مكتوبة بخط يده، فيها: قد وكلتك بقراءة الدرس، فتعجبت من ذلك، لماذا غير الشيخ عادته من المشافهة إلى المكاتبة؟ وما أشعر إلا ومدير المساجد قد حضر وأنا أقرأ الدرس، فسألنى: وهل وكلك الشيخ؟ قلت : نعم ، قال: وأين التوكيل؟ فقدمت له الورقة المرسلة من الشيخ ففرح بها ، ودعا لى بخير، وكانت هذه كرامة منه – رحمه الله تعالى- وغفر له، وأسكنه فسيح الجنان، فإنه كان يحبنى كثيراً ويقول لى: أنت بركة هذا الدرس ، قد أجزتك بجميع إجازاتى ومؤلفاتى.، وكان يقول لى: عليك بشرحى على زاد مسلم فيما اتفق عليه البخارى ومسلم ، فإنى ما تركت فيه شاذة ولا فاذة) وفى كتاب” رجال لقيتهم” للشيخ فتح الله السلوادي الأزهري تحدث الشيخ السلوادى عن ذكرياته مع كبار مشايخ الأزهر مثل الشيخ محمود شلتوت والمراغى ومحمد عبده وغيرهم والشيخ محمد حبيب الله الشنقيطى لكن اللافت أن جانب الإعجاب العلمي فى ذكرياته مع أولئك المشايخ كان من نصيب الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطى حيث قال إنه داوم على حضور دروس الإمام محمد حبيب الله الشنقيطي في مسجد سيدنا الحسين، وتحديدا فى شهر رمضان من كل عام، وقد روى عن تلك الآيام فقال: “وجلست فى حلقة درسه ، وكان الحاضرون كثيرين جدا ، ومما أثار انتباهى ودهشتى أنه يكثر فى الحاضرين على هذا الشيخ الجليل كبار الأساتيذ والعلماء فى الأزهر والجامعة المصرية كما كانت تسمى ذلك الحين ، ودار العلوم وكبار العلماء فى المجمع اللغوي وسائر المعاهد ومن بلاد بعيدة ، كان الحشد الكثيف صامتا لايرف فوقه إلا وقار العلماء ، وكان الشيخ على كرسيه ، كما شهدته عيناي ذا لباس بسيط بعمامة يسيرة لا تأنق فيها ولا تعجل تذكر بعمائم السلف ، كان أقرب إلى نحافة الجسم ، بوجه حنطي اللون ولحية استطالت قليلا تملأ قبضة اليد لو أطلقت عليها الراحة بصوت لا تزال فيه قحة مغربية كان يقرأ الحديث الشريف يبدأ بالسند أعنى رجال الحديث ثم يعطى شرحا موجزا عن كل واحد ثم يذكر رتبته من حيث العدالة والضبط ، ويأخذ فى توضيح المتن ، ويذكر أن فلانا روى كذا ، وأن فلانا وضع لفظا ، وكان لفظ بحيث يتوضح كل ما جاء حول الحديث الشريف ، سندا ومتنا وأن طريقة الشيخ الإمام فى درسه واضحة محفوظة فى الكتاب الرائع المتداول بين يدي أهل العلم (زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم ) ثم يشرح الكلمات اللغوية وتصرفاتها وشتى استعمالاتها ، ويورد بعضا من الشواهد لها شعرا ونثرا حتى يخيل لمن يسمعون أنهم عند أبى علي القالى فى كتاب الأمالى ، أو عند ابن قتيبة … فى عيون الأخبار ، وقد يعرض لمسألة نحوية فيشبعها شرحا وبيانا وبعد ذلك يشرح الحديث والهدف الإرشادي فيه حتى يخيل للسامعين أنهم فى عصر النبوة أو التابعين يعيشون ، وكان إذا تحدث عن عيب اجتماعي أو نقيصة فى قوانين الدول الإسلامية يتحدث بصراحة ولا يبالى بما عساه يكون . جاءه ذات مرة وهو فى درسه رجل وسأله عن حديث يتعارض ظاهره مع حديث آخر ، وقرأ كل حديث منهما وتعمد أن يؤخر فى بعض الرواة ، وأن يضع اسما فى الرواية من عنده ، وقرأ كل حديث قراءة طبيعية متأنية فأجابه الشيخ بصوت فيه حدة واضحة ، فصحح له خطأه فى الرواية ، واستنكر الاسم الموضوع ثم ذكر معنى كل حديث بما لامعارضة فيه للآخر ، ودهش السامعون ، وقد فطنوا لمغزى صنيع السائل من كونه اختبارا ولكن الشيخ بتوفيق الله وسلامة حفظه أجاب بما أدهش وسر ،( وقلت فى نفسى (الكلام هنا للسلوادى ) سبحان الله يتعرض هذا المحدث الكبير لمثل ما تعرض له من قبله أمير المؤمنين فى الحديث الإمام البخاري رحمه الله. (وعن أخلاقه وشمائله قال تلميذه الذى لازمه بمصر العلامة الشيخ محمد طاهر الكردى المكي فى كتابه النفيس التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم كان رحمه الله تعالى على فقره سخيا كريما يقصده الناس خصوصا من أهل شنقيط فكان بيته مفتوحا على الدوام ، وكان يسعى فى قضاء حوائج الغرباء وكان يحب الصالحين وأهل العلم ، وكان مستقيما جدا لا يترك التهحد ليلا، يمثل العلماء العاملين)، (وقال تلميذه المؤرخ حسن قاسم (ت1349هـ) ورأيت من حلمه وكرم خلقه أنه كان يدعو لشاتمه ويستغفر له ويغض الطرف عن هفوته وعاش فى مصر فى بحبوحة من العيش ، وأقبلت عليه الدنيا بحذافيرها إلا أنه كان شديد التحسر والتأسف على فراقه لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وود أنه لا يحصل على القوت ويكون فيها معززا غير مهان )، (ووصفه الشيخ محمد عبد الله بن عبد الله آل رشيد بأنه ” كان آية فى حفظ المتون واستحضارها عند التدريس والإفتاء سريع النظم جل وقته بين المطالعة والكتابة وكان من أعلام أهل الجديث رواية ودراية وبلغ من عنايته به أن كتب من مكة المكرمة إلى حامل لواء الرواية والإسناد فى عصره الإمام الحافظ محمد عبد الحي الكتانى يستجيزه ويسأله أن يكتب له بأسانيده واتصالاته بالفهارس والأثبات ومرويات الأعلام فكان ذلك سببا فى تصنيف السيد عبد الحي لمعلمته الشهيرة (فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات ) الذى لا يزال الناس عالة عليه حتى يومنا هذا ثم لما ورد مصر بادر إلى طبع ثبت الأمير ولم يكن طبع من قبل واعتمد فى ذلك على خطية صحيحة عليها إجازات للشيخ العدوى وغيره فكانت هذه من محاسن الشيخ الشنقيطى فى إحياء علم الرواية بمصر وقد استجازه بتلك الطبعة من “ثبت الأمير ” العدد الغفير من المصريين وغيرهم.) وقد أخذ عنه خلائق لا يحصون فى المغرب والمشرق منهم على سبيل المثال الدكتور عبد الله دراز الذى وصفه فى كتابه من كنوز السنة بقوله 🙁 أستاذنا الكبير القارئ المحدث الأصولي الفقيه الأديب الجامع بين أسانيد المشارقة والمغاربة الشَّيْخ “محمد حبيب الشنقيطي). وكذلك المحدث الكبير الشيخ عبد الرحمن الساعاتي مؤلف الموسوعة الحديثية الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني فقال إنه أجيز فى الحديث من الشيخ محمد حبيب الله. ومنهم العالم الجليل المقدسي الشيخ جمعة النجار الذى كان ينزل الشيخ عنده حينما يكون فى القدس الشريف وكان وثيق الصلة به كما يظهر من المراسلات بينهما رحمهما الله وكتب عنه الأديب المصري أحمد حسن الزيات تأبينا فخما فى مجلة الرسالة فى عدد 12- 555 فقال مانصه:

الشيخ الشنقيطى

فى صباح الخميس الثامن من صفر سنة 1363 هــ توفي العالم الغزير العلم والرجل القوي العزم الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطى عن 68 سنة . ولد رضي الله عنه فى بيت علم ورئاسة بشنقيط، وتلقى أكثر العلوم على أكابر مشايخ القطر الشنقيطى من أقاربه وغيرهم ثم هاجر إلى مراكش فعلم به السلطان مولاي عبد الحفيظ فاصطفاه لأخذ العلم عنه ثم استأذنه وهاجر إلى المدينة المنورة فجاور هناك وبعد الحرب العامةالماضية سافر إلى دمشق فصحب شيخ القراء فيها وأجازه بالقراءات ثم هبط مصر فندبته مشيخة الأزهر لتأليف كتاب يضم ما اتفق عليه البخاري ومسلم فعكف على ذلك عشر سنوات ونيفا ، وقد تم طبعه بآخرة فى ستة أجزاء ، واختارته مشيخة الأزهر كذلك مدرسا بتخصص كلية أصول الدين وعضوا فى بعض اللجان العلمية ، ورجاه بعضهم أن يلقى محاضرة فى جمعية الشبان المسلمين ، فلما علا المنبر اقترحوا عليه أن تكون المحاضرة فى التاريخ فاقترحها من صدره فعجبوا منه وعرف مكانته كثير من أهل العلم والفضل بمصر فزاروه وحفلوا به ، ورأيت منهم فى داره بعض جماعة كبار العلماء ومشايخ كليات الأزهر وغيرهم . وترك فى شنقيط والحجاز ومصر من التلاميذ والتآليف المطبوعة والمخطوطة مايدون اسمه فى سجل الخالدين . ودفن بجوار العالم الصالح الشيخ محمد الجنبيهى بمقابر الإمام الشافعي أفاض الله على قبره نورا ورحمة وعوض الإسلام منه خيرا .

وقد غسله تلميذه العلامة القاضى الشيخ محمد عبد الله بن آدو الجكنى رحمهم الله

ومما رثي به قول تلميذه الشيخ محمود عبد الوهاب من أبيات لهف نفسى عليك كان بودى* أن توارى بداخل الأجــــــــفان إن تواريت فى الثرى فلقدفقـــ*ـــت الثريا وجزتها فى المكان

 

ومن كراماته الباهرة بعد موته ماجاء فى ترجمته فى كتابه كفاية الطالب فى مناقب علي بن أبى طالب فى طبعته الجديدة أن أحد أقربائه (وهو ابن أخيه القاضى الشيخ محمد فاضل بن الشيخ محمد تقي الله بن مايأبى ) توفي فى مصر بعد سنين طويلة من وفاة الشيخ محمد حبيب الله فأرادوا دفنه مع الشيخ محمد حبيب الله فوجدوه لم يتغير جسده ! فرحمه الله وأسكنه فسيح جناته وبارك فى ذريته.

 

بقلم : يحيى محمد الخضر مايأبى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى