“وادي الحطب..لَفَحَاتُ الدَّسَائسِ والتَّهْميش… وَنَفَحاتُ الفنِّ والجَمال

الزمان انفو ـ

 

السالك ولد الشيخ:

عكَفْتُ على رواية “وادي الحطب” للكاتب الشاعر الشيخ أحمد ولد البان.

 

والحقيقةُ التي لا مِراء فيها أن لغتَها الصَّقيلة وأسلوبَها الأخَّاذ منحاني طاقة ضافية شدَّتْني لمواصلة القراءة حتى أتيتُ على آخر الرواية.

 

كنت ـ وأنا أرتِّل حروف هذه القصيدة النثرية البديعة ـ وأتنقل بين فصولها أشعر بالغبطة تجاه قراءٍ طالما رووا لنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي أخبارَ إكمالهم لقراءة “وادي الحطب” فزادني ذلك اندفاعا لأني كنتُ أودُّ أن أقولَ عن “وادي الحطب” ولا أريد أن يسبِقني أحد لما أودُّ قولَه… أو بعبارة أخرى لا أريد أن “يقع الحافر على الحافر” وهو أمر في غاية الصعوبة ولا أدعي تحقُّقَه. كيف والمَهْيعُ واحد؟ والمورِد عذبٌ شديد الزحام؟!

 

لكن عزائي في ذلك أن الأدب الخالد لا تَبْلى جدتُه، ولا يَخْلَقُ على كثرة الرّد فـ”وادي الحطب” مهما تفيأ النقادُ ظلالهَا فسيظل فيها مجالٌ للقول فسيح، نظرا لخصوبة مادتِها وجدة طرحها وبراعة أسلوبها…

 

رواية “وادي الحطب” ليست من أقصرِ الروايات إذ تمتد في حدود ثلاثمائة وعشرين صفحة من الحجم المتوسط موزعة علي عشرين فصلا.

 

ولكني بعد إرجاعِ النظر وتَطْواف التأمل استطعتُ أن أرُدَّ موضوعها إلى ثلاثِ قضايا رئيسية أزعمُ أنه لا يخرج عنها:

الأولى: قضية القبائل الموريتانية وتعاطيها مع المستعمر، وخصوصا شيوخ القبائل والصراعات الدائرة بينهم على النفوذ.

الثانية: قضية الاستعباد القاسي والتهميش الممض الذين عانت منهما شريحتا (العبيد، والمعلمين).

 

نحن نعلم أن العبد عندما يَعتَق من سيده قد يرتفع عنه نير العبودية لكنه يبقى تحت وطأة مَيسَمِ التهميش، ومع ذلك أفاضت الرواية في مأساة الاسترقاق المؤلمة، وأهملت ملهاةَ التهميش المضحكة! لذلك غاب عنها بقوة مصطلح “لَحْراطين” رغم حضوره السياسي والإعلامي في المشهد، وحضرت فيها بقوة مصطلحات (لَعْبيد… الإماء… الرقيق) رغم غيابها في المشهد السياسي والإعلامي في حاضرنا اليوم…

 

لم تتعرض الرواية للتهميش ـ وهناك فرق بين التهميش والاسترقاق ـ إلا في سياق حديثها عن الصناع التقليديين (لمْعلمين)، وهي فرصة وُفق الكاتب في استغلالها للحديث عنه (التهميش) في أكثر صوره جلاء حيث إن المتتبع لتواضعات مجتمعنا يحس بالمدى العميق الذي وصل إليه هضم هذه الفئة، ذلك الهضم الذي يصفه بعضهم بـ”الإبادة المعنوية” وقد أفصحت الرواية ـ لا قطع الله لسانهاـ عن ذلك أيما إفصاح.

 

الثالثة: قضية الفن والجمال، أو لِنقل: وصف العادات الاجتماعية وخصوصا منها المتعلقة بالفن (عزفا ورقصا وغناء) وبالجمال (طبيعةً وزينة)… وتوسع الوصف ليشمل الملابس والمفارش والمآكل والمشارب والأدوات المستخدمة  لذللك بما فيها أدوات التدخين وأدوات “النَّشُوق” (الشم)

 

أما عن وصف الطبيعة فحدث ولا حرج…

 

قد يقول البعض إن قضية المحظرة كانت واجبةَ الذكر بين هذه القضايا الثلاثِ، ولكنها في رأيي جزء من القضية الأولى، نَعم… جزء مهم، حيث مثلت المحظرة وطلابُها وشيخُها مدخلا أساسيا للحديث ولو قليلا عن المقاومة الثقافية التي يبدو من خلال الرواية أنها اللون المقاوم الوحيد الذي استطاع الصمود، أمام المخاوف والمطامع حتى قُتل شيخها ـ رحمه الله ـ ثابتا على الحق شهيدا من طرف بني جلدته الذين سمموا له “النَّشُوقَ” فمات بسببه.

 

ـ استطاع الكاتب أن يسيطر على الحبكة الفنية للرواية، فافتتح روايته بعُقْدة “اختفاء خطري” وظلت العقدة قائمة والعيون شاخصة ترمق من حين لآخر ظهورَ أي خبر يمكن من الحصول على خطري الذي لا يُدرَى أهو “مرمي في بئر عميقة من آبار قلعة تامشكط مقيدَ اليدين والرجلين، لا يستطيع دفعَ لدغات العقارب والأفاعي، ولا يخرج إلا لِتُلهب ظهره السياط، أو لِيتعرض للسب والشتم… أم هو في أقصى مناكب الأرض يتناوب على تعذيبه زبانية الزنوج السود والنصارى البيض، وهو بينهم لا يملك سوى الأنين المر، والدم يتقاطر من مواضع القيود في يديه ورجليه؟ ..أم أنه أصبح جثة مرمية في فلاة تتناهبها وحوش الأرض” (وادي الحطب، 67 – 68)، ظلت هذه الأسئلة  تكبر وتتوالد… حتى الفصل التاسع عشر، الذي جاء فيه الحل على نحوٍ مَا من المفاجأة لم يكن بذلك الحماس المطلوب، رغم محاولة الكاتب إنعاش المشهد بجنون “تربه فال” الذي رافق الحل.

 

والفصل التاسع عشر هو الفصل الأخير عمليا في الرواية من الناحية الفنية على الأقل، لأن الفصل العشرين مجرد تلخيص وقولبة لأحداث الرواية ورسائلها.

 

ـ اختار الكتاب شخصيات روايته بانتقاء ملحوظ وبشكل بديع حيث كانت ظلالُ الاسم وحدها كافيةً لرسم ملامحِ شخصيةِ صاحبِه.

 

وفي هذا السياق يكون “خطري” وهو اسْمٌ له دلالته التاريخية ورمزيته البطولية ـ بطلَ الرواية القوي الذي فُتلتْ حبالُها من قصته، وتفرعت أغصانها عن جذعِ شجرته.

 

– ويكون “لمرابط ولد اتلاميد” هو شيخ المحظرة المقاوم الذي لا يهادن المستعمر، ويأبى الدنية ولا يقبل الضيم.

 

– ويكون “لمرورح” باسمه الدرامي هذا، هو الطالب النجيب ذو الأفق الرحيب والخيال الخصيب الذي يسير على منهاج شيخه في الممانعة، بيد أنه يزيد عليه في انتقاده الحاد للتفاوت الطبقي المقيت والاستغلال القاسي لهذه النفوس البشرية التي تُعامَل كآلات رخيصة صماء لا كرامة لها.

– ويكون”اجَّمْلَه” باسمه هذا الذي يحيل إلى الجملِ ضخامةً وقوةً: هو الرجل القوي الذي لا طموح لديه ولكنه يُستعان به عند المعامعِ والملمات الصعبة.

– وامبيريك هو العبد الطيع في يد أسياده يقلبونه كيف شاءوا.

– و”فاطم الخادم” هي الأمة البئيسة التي شفطت سَمومُ الهواجرِ وضرباتُ الشمس كل نضارتها حتى تركتها شَنًّا ذاويا، وخَتم لها القدر بالإكراه على الزواج من “امسيعيد المجنون” لتتواصل مأساتها التي ستصبح حجة دامغة في يد لمرورح يدمغ بها مجتمعه عند الحاجة…

– وهكذا يكون “لمعيدل” بما يحيل إليه هذا الاسمُ من عطف وتواضع هو الصانع التقليدي الذي تميز بالشجاعة والذكاء والقوة وحفظ القرآن، وتكون الفارهة بنته الثائرة صاحبة المحاججة القوية والمطارحة الشهيرة يوم سِيمَ (لمعلمين) أمامها خسفاً فأسمعت قَطْعاً لونادت ضمائرَ حيةً ولكن…

– ويكون سلماتي أخا لخطري، وامهادي أخا لزوجة خطري تربه فال، وهما (امهادي وسلماتي) أكبر عميلين متآمرين في هذه المجموعة، ويشكلان نموذجا فاضحا لشيوخ القبائل الذين تمارس عليهم العبودية الناعمة من طرف المستعمِر.

– وتكون “تربه فال ولَعْناد” امرأتين كريمتين من ذوات الحسب والنسب وعلى إثرهما في ذلك البنتين المدللتين “العالية” بنت خطري و”مانه” بنت امهادي التي وصف الكاتب حفل عرسها وصفا تفيضُ له الجوانح طربا.

– ويكون بوفال وأهل لمسرز أنبياء “التييدنيد”

 

…تتواصل الشخصيات متحدثة عن ذاتها معطية انطباعا عن نفسها على هذا الشكل ، دون أن نحاول استقصاءها، لأن المذكور منها يعطي صورة ولاشك عن مُجتمعِ رواية “وادي الحطب”.

 

ـ ومن أجمل ما يستوقفك في هذه الرواية الوصف الدقيق للمشاهد المختلفة بل أزعم أن الوصف كان الأداة التعبيرية الأولى في هذه الرواية وخصوصا عندما يصل الكاتب  ـ الذي يبدو أن “وذْنُ بَيْظَ” ـ إلى وصف العزف أو الرقص وما يتخللهما، من مناداة ومناجاة في الأعراس  “ففي عرصات الأعراس يرتفع الحرج”(وادي الحطب، 199).

 

نعم، كان قادرا على الوصف قدرة من يقول  “…لكأن الحياة توقفت فجأة ثم تنفس الكون بعدها الصُّعَدَاء، وانطلقت حياة جديدة، حياة يمتزج فيها الضربُ على الدفوف بالرقص، والزغاريدُ بصوت البنادق التقليدية.

 

خَفَّ كلُّ شيء وفقد رزانته، حتى الشيوخُ الذين كانوا يَتَوَقَّرُونَ قبل العقد اسْتخَفَّهمُ الجو الطَّرُوب، حين مروا بالنسوة وهن يضربن على الدفوف، حَرَّك بعضهم أكمام فضفاضته راقصا بِوَقارٍ يناسِب سِنَّه فضجت النسوةُ ضاحكاتٍ” (وادي الحطب، 198)، وسأعود إلى الوصف لأني جعلته قضية من الثلاث التي تشكل موضوع الرواية.

 

وكان من أبدع ما التقطته عدسته العالِيةُ الجودة صُوَرُ تلك النسوة اللواتي ألبسهن حُلَلاً زخرفية مغرية بالاستمتاع والتأمل.!

 

قبل أن آخذَ في استشهادات من الرواية أراها ضرورية لاستجلاء الصورة فيما يتعلق بالقضايا الثلاث السابقة الذكر… أود أن ألخص رأيي في الرواية في كل قضية من هذه القضايا على حدة مُشفِعا ذلك بالاستشهاد والتعقيب إن كان من تعقيب:

  1. أما عن رأيها في قضية القبائل والمستعمر، فهي ترى أن القبائل بواسطة شيوخها أصبحت واد من الحطب يتحكم فيه المستعمر بواسطة أدواته البشرية الطيعة متمثلةً في شيوخ القبائل الذين كان همهم الأكبر مقصورا على التفاني في الحصول على النفوذ السياسي والحظوة عند أسيادهم الفرنسيين، واستمرأوا في سبيل ذلك كل مكيدة ودسيسة “خيانةَ الدم للعِرْق” وتخلوا عن ضمائرهم وقيمهم في سبيل تلك العبودية الناعمة التي مارسها عليهم الفرنسيون، والتي يحسبونها شيئا وماهي بشيء! رضوا بالذل والمهانة مقابل أطماع جلها لم يتحقق لهم.

ـ فـــ”التعاليم البوليسية تقولُ إنه يجب أن تهين كرامة العميل، وتدوس على شرفه قبل أن توظفه، فالعميل لا يتقن عمله الدنيء وبين جنبيه نفسٌ نبيلة” (وادي الحطب، 233)

 

– كان الفرنسيون يُهينون شُيوخَ القبائل وكان الشيوخ بدورهم يُهينون العامة، وبما أن قصة التآمر على بني الجلدة من أجل “اشْيَاخَه” قد أخذت حيزا كبيرا من الرواية، يكفيك منها ـ في نظري ـ أن تتصور أن رجلا حصيفا ذا مكانة في قومه كـ”مْهادي” يتآمر مع الفرنسيين ضد زوج أُخْتِه وأبي أبنائها، فيقوم للضحية أخوه على رأس الباحثين عنه حتى إذا ما ظهر له بصيصُ أمل في إمكان “شْياخَ” له، ترك هو الآخرُ قضية أخيه ولهث وراء مصلحته الشخصية وانقض على رجل من خيرة قومه كان قد خرج معه بحثا عن أخيه ودسّ له السم في النَّشوق قربانا للفرنسيين!

 

“قلبي على ميكافيلي! لو علم أن مذهبه هو السائد في هذا المجال الصحراوي المفتوح لما اضطهدته الكنيسة، ولما مات منعزلا في قرية صغيرة على أطراف فْلَوْرَنسَا. لو أنه هاجر إلى هؤلاء لجعلوه “أميرا” فِعْلِياً. اقتسمتُ أنا وهؤلاء البيضان ـ يقول الفرنسي ـ مبدأيْ ميكافيلي العظيمين، هم أخذوا مبدأه “الغاية تبرر الوسيلة”  وأنا أخذت مبدأه “فرق تسد” (وادي الحطب، ص: 315).

 

– في رأيي أن الرواية في هذا الشق منها بينت الوجه الناصعَ للمقاومة الثقافية متمثلة في امرابطِ اتلاميد الذي مات ولم يبدل ولم يغير وتلميذِه لمرورح ومحظرة “الأنحاب”، ولكنها همشت المقاومة المسلحة (العسكرية) التي أظهرتها في موقف الضعف مسحوقةً بين مِطرقة الفِرنسيين وسِندانِ شيوخ القبائل الواقعيين، والطامعين (المتوقَّعين). حتى خرج زعيمُها خطري من السجن مصالحا ومهادنا بل متنازلا!

 

  1. أما عن الاسترقاق والتهميش وهما قضيتان متقاربتان:

– فقد رسمت للاستعباد صورة قاتمة كانت تتشكل داخل مجتمع مسلم! لكنه لا يرحم أمثال هؤلاء العبيد الذين يبدو أنه يرى أنهم لم يُخلقوا إلا ليُساموا سوء العذاب ، ولم يكن هناك من ينتصر لأصحاب هذه المأساة إلا من رحم ربك، حتى أهل العلم مثل “لمرابط” كانوا في غمرة ساهون.

 

تقول الرواية “…لقد انهارت صخرة من البئر تحت أرجل العبيدِ السُّقاة، وانطبقت على ثلاثة منهم…كان امْبيريك يروي لهم ما حصل وعيناه تغرورقان بالدمع …كان يبكي لموت أحاسيس أولئك الرجال الذين لم يظهر على أي أحد منهم أي أسىً حقيقي على نفوس بشرية ماتت بطريقة بشعة…ليس في الأمر ما يستدعي حزنهم، فموت عبدٍ مثل نُفُوقِ دابة، بل إن نُفُوقَ الدابة أكثر أثرا في النفس من انطفاء روح عبد لئيم.

 

وقف رجلٌ يلهثُ من شدة العدو وقال بنبرة يُقَطِّعُهَا نَفَسُه المتتابع:

 

ـ امهادي (أحد الأسياد) يأمر بدفن البئر فورا والانصراف لمتابعة أعمال الرحيل…بدأ العبيد الناجون في دفن البئر كما أمر “امهادي”. كانوا يهيلون التراب على زملائهم الذين ربما ما يزالون أحياء. دموع العبيد تختلط مع عرقهم المتصبب رغم برودة الجو…قلوبهم تتقطع كمدا وغيظا، كانوا يحثون الرمل موقنين أن زملاءهم ما زالوا على قيد الحياة!!” (وادي الحطب ص: 33- 34 بتصرف يسير)

 

ـ وفي هذا السياق كانت مرافعة “لمْرَوْرَحْ” أرفع موعظة زاجرة، وأبلغ رسالة ساخطة تُسَفِّه هذا السلوك وتستبشعه ويبدو أن تأثيرها كان واضحا حتى  على “شيخِ لمرورح” الذي غالب أدمعه وهو مصغ إلى هذا “الحق المر”!

 

– تقول الرواية “وصل لمْرابط في شرحه قول خليل ((وَجَبَر المالكُ أمةً وعبداً بلا إضرارٍ لا عَكْسُه))، فتنهد “لمرورح” تنهيدة فهمها الشيخ لقد خبر تلميذه عدة سنوات وعرف ما يجوسُ في جمجته الكبيرة من أفكار مثالية، تحاول قياس ما يجري في الواقع على ما هو مدون في الكتب، كما يعرف جرأته على نقد عادات المجتمع، وخاصة ما يتعلق منها بمعاملة العبيد.

– مالك تتنهد أيها المشاغب؟

برقت عينا لمرورح وعلت مُحياهُ مسحة جدٍّ ظاهر… ثم قال تذكرت “فاطْمَه الخادم” وكيف زُفت رغم قلبها النافر وعينيها الدامعتين إلى “امْسيْعيدْ الْمَجْنُون” وكيف أن رجال الحي كانوا يمنون عليها بأن منحوها عقدا شرعيا، ولم يتركوها مثل بقية العبيد تُنجب بلا شرع ولا نظام…

 

كان وجه “لمرابط” يتغضن، وهو يغالب دموعه، أما بتار فقد سيطرت عليه الدهشة…بينما انفجر لمرورح بالبكاء وبدأ يتدفق كمحامٍ بارعٍ أمام محكمةٍ جائرة:

 

– كنتُ حينها ابن خمس عشرة سنة وقد سمعت نحيبها وتوسلاتها التي ضاعت في فِجاج الأودية، دون أن تلامس قلبا رحيما، ومهما بَلِيَتْ الأحداث في ذاكرتي، فإن صراخها ليلة زفافها له، وهو يضربها بما تيسر له من حطب وحِبال لا يزال كوابيس توقظني كل ليلة، فأبكي وأحزن لأني لا أملك أي حيلة لإنقاذها.

 

قد تقول لي ياشيخي المبجل إن إنقاذ “امْسيعيد” من الجنون اقتضى ذلك وبه أشار الأطباء والرقاة، وهو عبد فهو أنفعُ لمالكه إذا شُفي من أمةٍ. ولكن هل يجوز شرعا إنقاذ نفس بإهلاكِ أخرى؟ وإذا حصل الأمر بدافع الرحمة والشفقة برجل مجنون ، فهل الرحمة تتجزأ بهذه الطريقة الفَجَّةِ؟ ثم لِمَ لَمْ يمنحوه إحدى بناتهم؟ فهن والله أشفى له وأطيبَ لنفسه من أَمَةٍ أنهكها السير حافية بين الجبال والأودية، وحولت لوافحُ الحر والبرد جسدها الغضَّ إلى جلد يابسٍ لا نضرة فيه ولا حياة.

 

إن السبب الحقيقي لجنون امسيعيد ـ كما تعلمون ـ هو اختطافه من بين أهله وبيعه عبدا في أسواق النخاسة الجنوبية لم يستطع تحمل الصدمة …كان يقص أخبار اختطافه وكيف أنه ابن أمير زنجي، له زوجتان جميلتان لستُ أذكر اسميهما وله أبناء وماشية وأموال وعبيد. من يريد أن يُرجع إلى امسيعد عقله عليه أن يرجعه إلى أهله حيث مكانته وسؤدده.

 

ـ لقد فكرت ـ ياشيخي ـ أكثر من مرة ـ وأنا الفتى الصغيرـ أيام زفاف فاطمه الخادم الظالم أن أختطفها، وأعود بها إلى بلادها، كي أنقذها من هذا الجحيم، بل لكي أنقذ قلبي الذي أصبح على حافة الجنون، كلما خطرت به توسلاتها وبكاؤها وهي تُزَفُّ عروسا لمجنون!

 

بل أُفشي لكم الآن سرا أني أخذت فرسَ أبي وربطتها خارجَ الحي،وتسللت إلى تلك المسكينة، وهي في غيضة “لخروف” ترعى غنم أسيادها كانت ساجدة تحت شجرة قتاد تصلي الضحى ، فلما سلمت ورأتني ذُعرت خوفا من أن أخبر أسيادَها أنها منشغلة بالصلاة عن رعاية الغنم، طمأنتها وعرضت عليها أن تركب خلفي وأوصلها إلى أرض السودان لعلها تجد من تعرفه، أو من يوصلها إلى مكان أهلها.

 

لا أنسى دموعها وهي تحضنني وتقول بلكنتها البمبارية (أنا كائفه) تعني خائفة، ثم أشارت بيدها نحو السماء وقالت كلمات لم أفهم منها إلا اسم الجلالة الله.! أظنها كانت تشكو إليه!

 

كانت إحدى اللحظات التي لا يمكن بعدها مواصلة الحديث، بعضُ المواقف يستدعي أن يذهب كل أحد بعده في سبيله، كأن نظر وجوه بعض الحاضرين فيه إلى بعض وقاحة غير ضرورية.!

 

مسح “لمرابط” الدمع بطرف عِمامته ثم نهض دون أن يرفع بصره عن الأرض، وضع يده على منكب لمرورح وقال:

ـ لقد أيقظتني بكلماتك…أستغفر الله العظيم ، سنكمل تدريس “القف” في الحصة القادمة”(وادي الحطب،ص:50 وما بعدها)

 

ـ كما رسمت الروايةُ صورة تقشعر منها الجلود ، ويمجها الذوق، وتنفر منها الطباع السليمة لنظرة المجتمع للصانع التقليدي (لمْعَلَّم).

“لمعيدل لا تنس أنك مجرد صانع تقليدي، يجب أن يظل تفكيرك في عود تنحته أو سكين تشحذها، ولا يصح لك الدخول في صراعات علية القوم…ابتلع لمعيدل ريقه وشد على فأسه بين يديه بينما كانت عيناه تقفزان بين وجوه القوم لعله يظفر بمن ينصفه من سكاكين لسان خطاري التي تنهَش عرضه دون رحمة، لم يظفَر بطائل، فما قاله خطاري هو قناعة كل هاؤلاء الرجال بما فيهم “لمرابط” نفسه الذي قال له ذات يوم (…..إن الصانع التقليدي كماله في النقص، ونقصه يوم يرنو إلى الكمال)”(وادي الحطب، ص:174 – 175)

 

فالمجتمع “لا يرى هيبة لخيام الصناع التقليديين، فهي عندهم ملتقى الأحبة، ومكان اقتناص اللذات العابرة بين العاشقين، لكن أسرة “لمعيدل” عُرفت في ذلك الحي بالصرامة الأخلاقية” (وادي الحطب، ص: 218).

 

“وقد قال عنه “لمرابط” ذات يوم إنه لوكان بن عائلة كبيرة، ولم يكن صانعا تقليديا لاستحق زعامة المجموعة بجدارة” (وادي الحطب، ص: 227).

 

“قالت “لعناد” ونوبة ضحك هستيرية تقطع كلامها: (…ليست في لمعيدل أي خصلة من خصال لمعلمين سوى جشعه وحبه للطعام، لولا ذلك لأعطيته مريامه ابنتي ونسبته إلى أسر أهل بوطرومة، فهو حافظ متقن للقرآن، وشجاع لا يرتجف قلبه، وكريم حد الإسراف، ولكنه يفقد وعيه في حضرة الطعام …ثم قالت متعجبة: لماذا “لمعلمين” يفقدون الوعي على المائدة، ولماذا هم جبناء، ولماذا يكثر فيهم النفاق والكذب؟)

 

– “ليسوا كلهم كذلك في الحقيقة وليس خاصا بهم، هي طباع توجد في كل البشر، من كل الأعراق والفئات والطبقات الاجتماعية، ولكن المجتمع منح كل فئة بعض الطباع والأخلاق، وأصبح بناء على ذلك التوزيع المسبق للقيم والأخلاق يحيل لكل فئة من القصص والحكايات ما يناسب ما أعطاه لها من تلك القيم” (وادي الحطب،ص:242 وما بعدها)

 

“إنهم يعيشون من عرقهم ويحتقرونهم مع ذلك، حادثة وادي ((أَيْزِنْ)) كانت كاشفة، لقد طولبت بالعفو عن بعض المشاركين فيها من أبناء الزوايا، لكن هناك اثنين لم يهتم بهما أحد، لأنهما من تلك الطبقات المهمشة.فلمعيدل رغم بلائه وقوته وشجاعته ودوره البارز في الحادثة، ها هو يقبع في بئر معتمة، لم يكلمني أحدمنهم في موضوعه، ومْبيريك العبد الذي لا يزال يعيش في الصحراء مطاردا لم يحدثني فيه “امهادي” ولا “سلماتي” الذي يملكه أخوه خطري .

 

لكن اعتقال خطري واختفاءه أدى إلى أزمة استمرت مدة اختطافه، وكادت تودي بأمننا في المنطقة، وواجهنا كثيرا من الغضب والاحتجاج بسببه لأنه ابن أسرة عالية المستوى في الهرم الاجتماعي، إنه مجتمع غريب، معاييره المزدوجة للإنسانية محيرة” (وادي الحطب،ص:318،319)

ـ وكما كان “لمرورح” فارس الدفاع في وجه جحيم “الاسترقاق” الذي اصطلى بناره العبيد ، كانت “الفارهة “بنت “لمعيدل” فارسة الدفاع في وجه قاع التهميش ومستنقعه الآسن الذي أَرْدَى فيه المجتمعُ شريحةَ لمعلمين، ولطخ به وجهها الناصع ويدها الممدودة إليه بالخير فصرخت “الفارهه” بحقهم في الكرامة  الإنسانية ، وداست على تلك الأعراف السائدة الجائرة…حتى أذعنت لهاالحاضرات.

“قالت عجوز متربعة في آخر المجلس، وقد انحنى ظهرها حتى لَيخيَّلُ إليك أنها ساجدة :

ـ يابنتي الفارهة، هذا أمر الشريعة المحمدية، فمنازل “لمعلمين” لا يرتفع منها دعاء إلى السماء.

علقت امرأة أخرى:

ـ قال لي أبي رحمه الله إن الصلاة في منازلهم أشد كراهة من الصلاة في معاطن الإبل، وكان يَستحِب الإعادة لمن صلى فيها.

قالت أخرى في طرف المجلس، كأنها لا تريد لكلامها أن يسمع، وقد وضعت يدها على أنفها متأففة:

 

هذا حكم يعرفه الجاهل،فـ”لمعلمين” خُلِقوا من روث حمار عزير عليه السلام، وأنى لمن خلق من النجاسة أن يطهُرَ!

 

كانت الْفارْهه تتابع حديثهن وهي تتميز من الغيظ،كل هذا الكلام سمعَتْه من قبل، وتعرف أن المجتمع ينظر إلى أسرتها باعتبارها في طبقة أدنى، ولكنها لم تكن تظن أن الأمر يصل إلى هذه الصراحة الوقحة، طوفت بذاكرتها في تاريخ أسرتها فلم تجد مغمزا في دين ولا خلق.

 

تذكرت والدها لمعيدل وعرفت أن الرجال الذين هاؤلاء زوجاتهم وبناتهم سيخذلونه، وسيتركونه مُهمَلاً في سجن النصارى وعذابهم، لأنهم يرونه ناقص الإنسانية ليست له عصبة تحميه، وليست لهم ضمائر تعطفهم عليه.

 

انفجرت باكية، ثم وقفت تلقي عليهم حِمم البراكين التي كانت تتقد بجوانحها منذ عقلت هذه الدنيا:

 

أي فضل لأسر هذا الحي على أسرتنا؟ أليس جدي رحمه الله هو الذي كان يقطع خشب الألواح لآبائكن ويكتب لهم فيها القرآن؟ هل في هذا الحي حافظ يشار إليه لم يدرس عليه؟ هل اتهم طيلة عمره المديد بنقيصة؟… هلا سألتن أراملكن من الذي عطف عليهن؟ وكان ينفق عليهن من عائدات عمله النبيل! وهذا أبي لمعيدل الذي تتجاهلن اليوم كُرْبتَه، وتحرمنه دعاء عند رب كريم، أو ليس أبي خير رجال هذا الحي مروءة وشجاعة ونبلا! هل في هذا الحي أحفظ منه لكتاب الله أو أخشع منه في صلاة؟! الفرق بينه وبين آبائكن أنه يعيش من عمل يده ، وآباؤكن ـ إلا من رحم الله ـ يعيشون من استغلال عباد الله باسم الدين وباسم النسب. هل في جُوالقات خيامكم إلا حبوب مزارع العبيد، الذين يتعبون فيها، وتأخذونه أنتم بالحيلة والمكيدة؟! وهل في عرصاتكم إلا ما جمعتم بالهدايا والأحجبة والأوراد من المستضعفين! أيُّ فضل لكم علينا؟ وبأي كتاب أم بأية سنة حُزْتم ذلك الفضل؟ بالعلم والدينِ فأبي ـ والله ـ من أكثركم علما وأزكاكم نفسا، وإذا كان الفضل بالشجاعة والإقدام، فأبي والله لا يهتز جنابه ولا ترتعد فرائصه وحادثة وادي (أيزن) تشهد بذلك….

قذفت الفارهه نُفاثَةَ صدرها، ثم جلست وتركتهن واجمات يترامقن بنظرات الدهْشة والاستغراب!” (وادي الحطب، 269 – 270).

 

كان الأجدر بالكاتب أن يورد هذه الصرخة المدوية والمرافعة الرصينة على لسان فتاة من فتيات علية القوم كما يسميهم، فالنقد الاجتماعي الحقوقي يكتسي أهمية قصوى ومصداقية أكبر عندما يصدر من الذين لم يكتووا بنيران التهميش، سيكون هذا الكلام أقوى لو أن شخصية من أعلى الهرم الاجتماعى هي التي تقف وراءه! لأن الإنسان ـ مهما كان ـ متهم فيما يطلبه لنفسه!

 

آهْ تذكرتُ “لمعيدل” وعيناه تقفزان بين وجوه القوم لعله يظفر بمن ينصفه من سكاكين لسان “خَطَّاري” التي تنهش عرضه دون رحمة، لم يظفر بطائل، فما قاله خطاري هو قناعة كل هاؤلاء الرجال بما فيهم “لمرابط” نفسه…” في هذه الحال لا سبيل للمهمشين إلا الدفاع عن أنفسهم بما ملكت أيمانهم من الحُجج.

 

كانت مرافعة لمرورح مثلا قوية لأن (لمرورح) وهو ابن الأسياد كان فوق ذلك، يقف في صف المطهدين مدافعا قويا وناصحا أمينا.

 

لا أريد أن أفهم أن الزوايا كانوا يشرعنون هذه الممارسات، ولكن الرواية أشارت إلى ذلك على لسان تلك “المسنة التي احدودب ظهرها والتي اعتبرت هذا (التهميش) من الشريعة المحمدية، والتي كان الزوايا في مجتمعنا أعرفَ الناس بها!

 

 

  1. أما عن وصف العادات الاجتماعية المتعلقة بالفن والجمال والطبيعة والحياة …فهي القضية التي شكلت رحيق الرواية وسلسبيلها العذب وشَهْدَها المُسْكِر!

ـ فوصفت النَّاي (النيفاره)

“النايُ هبة القدر لأولائك المطحونين ينفثون فيه الشَّجَن”

“كانت النايات تردد وراء الإماء المغنيات نفس الكلمات فلا يدرى أيهما الأفصح، تنساب أصداء النغمات الملتاعة في أثير القرية فيخف له كل شيء”

“تقول الحكاية الشعبية: إن العبد كلما كان أكثر حزنا أبدع في إنطاق الناي لذلك يعمد بعض الملاك إلى ضرب عبده ضربا مبرحا قبل كل حفلة سيشارك فيها بنايه…أثر السياط سيكون باديا على ظهور أولائك العبيد العازفين الذين يسكرون القرية بنُفَاثِهم في تجاويف تلك القطع الخشبية”(وادي الحطب،109،110)

 

ـ ووصفت التِّيدنيت  “رنَّتْ “التيدنيت” بين يدي “بُوفَّال” رنات متقطعة،كان يداعبها بأنامله المُلْسِ يحركها يمنة ويسرة، وكأنه أب يُهَدْهِد أول حفيد.

 

التيدنيت آلة عنيدة، ولكنها في حضن “بوفَّال” ألوف رؤوم،ما لبثت أن لانت واستقامت تحت أنامله…كان “بوفَّالْ نبي التيدنيت في زمانه…صعدت التيدنيت السلم الموسقي لـ”انْتَماس” تحدوها ترنيماته الشجية بأشعار المديح، فسكِر الجالسون بخمر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم لانت جلودهم وقلوبهم إلى مجلس ((أزَوان))  التقطت “هَمِّي” أصداء ((كَرْ انكافيَه)) وهي لا تزال أمشاجا في تيدنيت بوفال، فعزفته في ((آردينها)) فصيحا، وصدحت بحنجرتها الساحرة (انتامَه كلبُ ماهُ هونْ)…حملت  نسماتُ الليل أصداء ترنيماتها إلى لمرابط وهو منتصبٌ يتهجد بآي القرآن…انبعثت منه تنهيدة دون وعي…انتصب مكبرا افتتح سورة الأعراف، وبدأ يتلوا بصوته الشجي، يتنقل في تلاوته بين المقامات الموسيقية وَفْقَ ما تحمله النسمات إليه من أصداء العزف، بات المنعِش الثالثَ لذلك السمر، لو كانوا يعلمون.

 

لا يكاد “لمرابط” يقف في جوف الليل تاليا حتى ينشج بكاءً لكنه في تلك الليلة لا يدري هل بكى بسبب شجْوِ الموسيقَى الذي يداخله، أم بسبب زفير جهنم الذي تلفحُه به آيُ الأعراف، لكنه يعرف فقط أنه ارتقى في تلك الليلة مدارجَ روحية لم يرتقها منذ عقل القُربات“(وادي الحطب 201،200 بتصرف).

 

قصة تعانق فيها العلم والتصوف والأدب، بل هي قصة الفتوة في بعض مظاهرها.

 

ووصف الدُّفَّ “كانت “امَّانه بنت سَدُّوم” توقع بأناملها الرخصةِ توقيعات خفيفة منتظمة على دف صغير تضعه في حجرها، جِلْدُ جَدْيٍ مدبوغٌ مشدودٌ بسيورٍ محكمةٍ على فوهة قدحٍ خشبي متوسط الحجم” (وادي الحطب، ص: 131).

 

ووصف الرقص، وأبلغ ما روته وادي الحطب من ذلك (رقصة امْبيريك) التي يصفها الكاتب قائلا “قفز إلى الأعلى مترين ونصف…متجاوزا الجماهير المتزاحمة حول حلبة الرقص، كان دخوله مشرفا ومفاجئا في نفس الوقت، تمادت الإيماء في التصفيق والزغاريد إعجابا بحركاته الرشيقة والبديعة، فالتهبت جوانحه زهوا، استخرج كل خبرته في الرقص الفلكلوري.

 

رمته إحداهن بمِنجَل تعبيرا عن إعجابها برقصه، أمسكه عاضا عليه بين أسنانه في احترافية سحرية لا تصدق، كان يرميه إلى الأعلى ثم يتلقفه بفمه، واثقا أنه لن يخطئه، يقف على يديه ويرقص برجليه! دون أن يرتبك خطوه الموسيقى.

 

جُنَّ العازف باحترافية امبيريك فأفرغ جنونَه في تجاويف نايِه الذي كاد ينطق بلسان فصيح، لقد جُنَّ النايُ أيضا وجن الجمهور الذي نسي كل شيء أمام هذا العبد المجهول! كانت لحظةً من الطرب والشجَن والوجد والجُنون، أبدع فيها امْبَيريك حركات لم يكن يعرفها من قبل، أصبحت بعد ذلك رقصة معروفة باسمه في عموم الحوضين“(وادي الحطب، ص: 111)

 

ووصف النساء وزينتهن، يقول ـ حفظه الله ـ: “تقف “تربه فال” أمام خيمتها بجسمها الضخم وقامتها الفارعة” (وادي الحطب 36)

تربه فال من ذلك الصنف من النساء اللواتي وهبهن الله مسحة جمال فردوسي أخاذ، عيناها السوداوان الواسعتان وأنفها الأقنى الطويل وشفتاها المترددتان بين الاكتناز والارتخاء، كل ذلك يمنح وجهها جمالا طبيعيا، لكن جرحا قديما مطبوعا على خدها الأيمن، يعطي ذلك الجمال نكهة خاصة، لا يحتاج حسنها إلى رعاية تجميل، لوجهها نفس السحر والبهاء، سواء كانت تحت الشمس الحارقة أو في كنف الظِّلال…” (وادي الحطب، 130).

 

“… تخيلتها تفرك أثر أصباغ النيلة عن ذراعيها الناعمين، وأساورُ الذهب تلتمع على بياضهما كأنها القناديل المعلقة،” (وادي الحطب، ص:74).

 

“تحملن على رؤوسهن نفس التاج البدوي، إنه تقليعة النسوة في تلك الأيام، عود معقوف في شكل قوس تضعنه على مقدمة جباههن، مشدودا بضفائرَ محكمة الفتل. تتدلى أسلاك قماشية رقيقة من القماش من آذانهن، إنهن بذلك يحافظن على الثقوب التي توضع فيها أقراط الذهب والنحاس في أوقات الزينة، يتشابهن في طريقة الجلوس وزيغِ العيون حين يبصرن إنسانا غريبا فيتطلَّعْن إليه بفضول موارِبٍ” (وادي الحطب،  ص: 129).

 

ووصف الكاتبُ عادات القوم في الشاي وفي إيقاد النار “فَتَحَ… جِرابا جِلْديا به قطعٌ من الكتان، وأخذ أعوادا من البَشَام والشَّفَلَّحِ ، وبدأ يَحُكُّ برأس أحدهما في جَنبِ الآخر …فجأة رأى خُيوطَ الدخان تتصاعدُ من قلب عود البشام، فبادرَ بوضع الكتان المنفوشِ على مَكانِ انبعاث الشرر، فالتهبت النار في أطرافه.

…فتح جِرابا آخرَ به مَوَاعينُ الشاي: إبريقٌ حديدي قديم، وكؤوس زُجاجية صغيرةُ الحجم، ضرب بمطرقة حديدية صخرة سُكَّرٍ وَهْرَانِيٍ، فانفلقت منها ثلاثُ قطع متوسطة.

 

كان الإبريق قد بدأ في الغليان، غطاؤه يرتعد كرجل ريفي يجتاحه الغضب، في قضية متعلقة بالشرف، وَفُوهَتُهُ تنفُث البُخار كسفينة تمخُر عُباب الأطلسي.

 

أمسكَ مِقبَضَ الإبريق الفائر، ووضعَه على طستٍ نحاسيةٍ صفراءَ، ثم أخذ حفنة من شاي الصين الأخضر،ورمى بها في جوفه فأزبد ملقيا برغوتها خارجه، لولا أنه كتم أنفاسه حين أعاد غطاءه بسرعة احترافية، منتظرا تفتُّح وُريقات الشاي، وسرَيَانَ عصيرها وسط الماء الحار…”(وادي الحطب، ص: 103بتصرف يسير).

 

ـ ووصف كيف كانوا يتعاطون التبغ والنَّشُوق (الشَّمْ) بدقة عجيبة“ملأ فوهة الْغَلْيونِ تبغا ثم سَدَّها بجمرة الشِّهاب الذي في يمناه، وسحب الدُّخانَ طويلاً، حتى غارَتْ لحْمتَا شِدْقيْه، تركه يتردد في صدره لحظات ثم أخرجه تدريجيا، وعيناه تغرورقان بدمعِ المتعة” (وادي الحطب، 265).

 

أخرج سلماتي حُزمة صغيرة من القُماش كان قد لفها على بعضِ النَّشُوقِ، حل عقدتها ثم وضعها في يُسْراه، قبض أصابعَ يمناه، ثم أخذ منها حُصيَّات، واستنشقها مُحدِثاً صوتا مطَّاطاً يُشبهُ خُروجَ الروح، اغرورقت عيناه وعطَسَ ثلاثا…” (وادي الحطب، 102).

 

ـ ووصف ذبائحهم وموائدهم وخيمهم أيام الأعراس “سبع خيام كبيرة مضروبة حول خيمة امهادي، والمواقِدُ حولها تُنضِجُ كلَّ ما تُمِدُّها به المسالخُ، خمس عشرة شاة معلقة في جُذوع الشجر، تَتَخَافَقُ السكاكينُ في أيدي العبيد، بينما تتخافَقُ المَداقُّ في أكُفِّ الإماءِ رفعاً وخفْضاً في قُعُورِ المَهاريسِ الغاصَّةِ بالدُّخن الأبيضِ، تلكَ الغَلَّةُ التي يَصنعْنَ منها بُرْمةَ الْكُسْكُس” (وادي الحطب 196).

 

وبالجملة فإن روايةَ “وادي الحطب” مولودٌ تاريخيٌ ثقافيٌ أدبيٌ اجتماعيٌ استطاع أن يسلط الضوء على المنظومة القِيمية والأخلاقية للمجتمع الموريتاني وخصوصا في حقبة الاستعمار، تركه المؤلف مرآةً عاكسة لما كان عليه المجتمع ـ وما يزال! ـ دون “تحكُّم” منه، بالمعنى السلبي لهذه الكلمة.

 

حمَل رسالةَ “بعضِ المهمشين” وأحياها إنسانيا وجلب لها تعاطف قلوب ذوي الضمائر الحية، كما داس على جملةٍ من الأعراف السائدة عند بعض القوم إحسانا منهم للظن وتزكية للذات.

 

وأبْرق ببعض الرسائل المتعلقة بالعلاقة بين البندقية والقلم أو بين (الزوايا وحسان في منطقة أفلَّه)، كل ذلك في أسلوب رشيق ولغة باذخة.

 

فهل سيواصل الكاتب مشواره الروائي، أم أنه سيعود أدراجه بعدما وضع أولى قدميه على عتبة الإبداع النَّثْري؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى