عندما انقطع الشكُّ باليقين ..

محمدن ولد سيدي الملقب بدن يكتب:

الزمان انفو _
في خضمِّ الحملة الانتخابية الرئاسية سنة 2019 حضرتُ إلى جانب مدير الديوان محمد أحمد بن محمد الأمين بصفتي مستشارا في الديوان ، مهرجاناً خطابياً تعبوياً نظمتْهُ جماعة من إخوتنا الوولفْ في مقاطعة السبخة في فندق “كمبي صالح” لصالح المرشح آنذاك و فخامة رئيس الجمهورية الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني.
و اكتملتْ عناصر المهرجان قبيْل صلاة المغرب و أصر المدير السائق أن نؤدي صلاة المغرب في المسجد الجامع ( أو مسجد السعودية ) في كبِّتَالْ بما يتطلب ذلك من إسراعٍ في السير و اختزال في المسافاتٍ و سرعان ما اكتشفتُ حجمَ المخاطرة عندما لاحظتُ أنني أسلمتُ المقودَ لمن هو بعيدُ عهدٍ بشبكة الطرق في انواكشوط و بأصول السياقة و قواعدها فيها كذلك، ولانواكشوط في السياقة أصول وقواعد مخصوصة ! ..و انطلقنا على بركة الله..
و من وحي كمبي صالحْ اكتسى حديثنا العفويُّ في الطريق طابعه التاريخي قبل أن نتدرج بعد ذلك إلى موضوع الطرق الصوفية و خاصةً منها الطريقة القادرية و فرعها الفاضليِّ و من هنا جرى الحديث عن الشيخ التراد بن العباس و عن رسوخ قدمه في الشريعة و الحقيقة و عن مريديه الكبار و فجأةً تمحض الحديث عن أحد أبرز هؤلاء و هو الشيخ محمد عبد الله بن آدَّ البوصادي المتوفَّى سنة 1984م ( صاحب الصورة ).
و حول هذا الموضوع أخبرني محمدْ أحمد أنه التقى ذات حجة أو عمرة في المدينة المنورة المهاجر المجاور الشيخ محمد محمود بن محمد الأمين البوصادي و هو من كبار تلاميذ الشيخ محمد عبد الله بن آدَّ الذين رافقوه في رحلته الجوية المشهورة بعيدَ الاستقلال من كيفة إلى الديار المقدسة . و قال إن الشيخ محمد محمود حدثه عن لحظة وصول الموكب إلى طيبة فقال: لما بلغت بنا السيارة مشارف المدينة المنورة و بدت معالمها للناظرين تملك الشيخ حالٌ عجيب و هو في مقدمة الشاحنة و كأنما غاب عن الوجود و هو يكرر قوله تعالى { قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا }. و كان رفقاؤه قبل ذلك يُشغلون أوقاتهم بالتساؤل عن رحلة الشيخ هذه هل هي لغرض مجرد الحج و العودة أم الحج ثم الإقامة بجوار رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فانقطع عندئذ شكهم باليقين!
و من هنا استرسل محدثي في المأثورات من سخاءِ الشيخ محمد عبد الله بن آدَّ و روى من ذلك العجب العجاب.و قد علق بذاكرتي المُضطربة ، بعض من ذلك منه ما رواه مباشرة عن المرحوم العقيد فيَّاه بن المعيوفْ . قال إنه و رفيقه المرحوم محمد بن سيدي عالي نزلا ضيفيْنِ على حضرة الشيخ في بومديْدْ قادميْنِ من تجگجه في طريقهما إلى كيفه يرافقهما حرسي أسندت اليه السلطات الاستعمارية آنذاك مهمة توصيلهما وجهتهما و هما المعلمان المسكونان بهاجس الثورة المحوَّلانِ عقوبة من تگانتْ إلى مكان ما من بلاد شنقيط .قال فيَّاه رحمه الله : أحسن الشيخ ضيافتنا في حضرته القادرية ليلتئِذٍ و لما هممنا بالرحيل باكراً في صبيحة اليوم الموالي ، لحق بنا مِنْ تلاميذه مَنْ سلَّمَ كل واحدٍ منَّا ظرفًا يتضمن عشرة آلاف أوقية و هو ما يمثلُ آنذاك أضعاف مرتباتنا الشهرية!
و روى محدثي كذلك عن السفير بكار ولد أحمدُّ رحمه الله أنه قال : كنا في مدينة تجگجه في عهد الإستعمار مجموعة من الموظفين الشبان من مختلف الجهات و الإختصاصات نستأجر منزلاً نقيم فيه و كان يتحملُ مصاريف ذلك المنزل عن بُعْدٍ الشيخ محمد عبد الله بن آدَّ البوصادي .قال : و تحررت البلاد من ربقة الاستعمار الفرنسي بعد حين ، و فرقتْ بيننا الوظائف و هاجر الشيخ و تشاء الأقدار أن لا أصادفه بعد ذلك إلاَّ سنة 1977 في رحاب المسجد النبوي و كانت مفاجأتي كبيرة عندما عرفني فخاطبني باسمي بعد غياب دام حوالي عقدين من الزمن !
و ختمَ المدير حديثه عن كرم الشيخ بقصته المتداولة مع الأمير اعلِ ولد بكار قال: كان الأمير اعلِ ولد بكار في عهد المستعمر الفرنسي حليفاً سياسيًا للشيخ الغظفي محمد أحمد ولد الشيخ الغزواني بينما كان أخوه الأمير عبد الرحمان ” الدان علَماً ” حليفاً للشيخ القادري محمد عبد الله ولد آدَّ و ذلك في نطاق السياسة المحلية إذْ ظل الشيخان يشكلان طرفيْ المعادلة على مستوى مقاطعة بومديْدْ كما ظل الأميران يشكلانِ طرفَيْها على مستوى ولاية تگانتْ .
و فوجئ الشيخ محمد عبد الله بن آدَّ ذات يوم بالأمير اعلِ بن بكار يزوره في حضرته على غير عادته . و إذا بالأمير يضع المصلحة العامة للحلَّة فوق الاعتبارات الشخصية و السياسية الضيقة ، فقدْ اضطرَّتهُ الظروف إلى أن يلجأَ إلى الشيخ القادري يلتمس منه لقومه هدية من بقرات حلائب . فما كان من الشيخ إلاَّ أن أحسن ضيافة الأمير الزائر ثم أهداه خمسين بقرة حلوبًا دفعة واحدة !عندئذ أراد الأمير ملاطفة الشيخ ولد آدَّ فقال له : ” يا ليت شعري ما ذا تبتغي يا شيخُ من وراء هذه الهدية السنية : هل هو الجزاء في الدنيا أم الثوابُ في الآخرة ؟! فأجاب الشيخ بداهة : ” أيها الأمير ، إن من الأعمال من لا يرجو منه صاحبُه أي جزاء في الدنيا و لا ثوابٍ في الآخرة ، و تدخل هذه الهدية في صميم ذلك “! و ضحك الرجلان و سارت القصة بين الناس كالمثل السيَّار.
ومن طريف تلك القصص ما يرويه الشيخ محمد الحسيْن رحمه الله .. قال إنه عنَّتْ له مرة حاجة من نقود و هو في المدينة المنورة فلجأ فيها إلى الشيخ محمد عبد الله بن آدَّ و كان ذلك باقتراح من زوجته .. ولما ظفر من الشيخ بمطلوبهِ وهو مبلغ معتبر ، أخفى ذلك عن زوجته إذ بدا له أن يصرفه في هم أسريٍّ آخر في السودان .. ولا زالت زوجته تستغرب كيف أن الشيخ البوصادي المشتهر بالكرم لم يقض لزوجها حاجته كما اعتاد أن يفعل لجميع الناس و خاصة منهم الشناقطة فما بالك بمن منهم يطلب مجرد سلفة مردودة ان شاء الله .. أما الشيخ محمد الحسين فقد سافر كما قال إلى السودان مستعينا بسلفة الشيخ فقضى به أربه ثم عاد إلى مهجره في طيْبة الطيبة . وبعد فترة ذهب إلى الشيخ محمد عبد الله يحمل المبلغ الذي اقترضه من عنده فلم يجده و تركه له عند شخص مؤتمن من محيطه الخاص. و لما توصل الشيخ بالمبلغ أمر احد مريديه بأن يعيده إلى الشيخ محمد الحسين ويقول له إنه هدية لا عارية ! امتثل المريد امر شيخه ولكنه لم يصادف في المنزل الا الزوجة التي لا يزال في نفسها شيء من قصة زوجها مع الشيخ البوصادي بالرواية التي سيقت لها من قبلُ فدفع اليها الرسالة .و هنا كانت دهشتها كبيرة و هي تستلم المبلغ و تستمع الى المريد يسرد التفاصيل . يقول الشيخ محمد الحسين إنه علم من خلال هذه الموافقة العجيبة ان الله أراد أن يبرئ الشيخ مما علق بذهن تلك المرأة من تهمة له برده خائبًا .. فما كان منه الا ان اعترف لها بخيوط المؤامرة من المدينة إلى الخرطوم !
اكتملتْ القصة و نحن عند مدخل المسجد الجامع و قد أدركنا شطرًا من الصلاة سالمينِ، فعمرتُ سائر الأركان بالحمدِ خالصاً لوجه الله!

رحم الله السلف و بارك في الخلف.

من صفحة الأستاذ الباحث: محمدن (بدنه) ولد سيدي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى