في جذور الغش / د.إسلك أحمد إزيدبيه

مقالات كتبها الوزير السابق الدكتور في حلقات:

الزمان أنفو ـ

فى جذور الغش (١)

في يوم الاقتراع لبلديات ١٩٩٤، كنت أتجول في بعض المكاتب الانتخابية (في نواكشوط) محاولة مني للوقوف في وجه آلة التزوير الانتخابية للحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي، فاكتشفت أن الأمر ليس بالسرية المتوقعة وأن حوادث الغش غير قابلة للجرد لكثرتها ؛ فمثلا خلال مروري أمام مكتب “سوسيم”، لاحظت حركة مريبة لعدد كبير من الناخبين، حيث كانوا يقصدون بيتا خلف مكتب الاقتراع قبل الإدلاء بأصواتهم. ركنت السيارة الصغيرة التي كنت أستقل بمفردي وارتديت لثامي ثم اتجهت نحو البيت الخلفي، هناك كانت المفاجأة: بطاقات انتخابية شاغرة وأخرى معبأة بالمئات على الأرض وكؤوس (شاي) صغيرة ونوريا “ناخبين” ثابتة وأخرى متجددة وتعليمات واضحة… بعد التأكد من ما يجري، خاطبت الجمع : “ذَ شنهو؟”، “انتوم ما تكسحو؟” ثم بدأت أتوعدهم (بصوت عال) بتبعات قضائية لتصرفاتهم المجرمة قانونيا، محاولة مني لإرباك نشاطهم ريثما يوجد حل… فجأة، توقفت سيارة سوداء فاخرة وخرج منها سيد عرفته للوهلة الأولى طلب مني أن نتحدث جانبا، الشيء الذي استجبت له لصعوبة الموقف بالنسبة لي وتوسما لمخرج ما. قال لي الرجل لهجيا ما معناه : “هذا مجرد مكان لتوفير الشراب للناخبين…” ؛ رددت عليه بأنني لست بحاجة إلى معرفة ما يجري في المكان المذكور، لأنني بقيت داخله ما يكفي من الوقت للاطلاع على كل التفاصيل، حتى أنني اقتُرح علي التصويت ببطاقة مزورة. طلبت منه إغلاق مركز التزوير، وأمام إصراره على حجته، وضعت حدا للحديث غير المجدي بيننا.
عدت إلى المقر المركزي لحملة حزب “الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم” وقصصت حصيلة المآخذ على رفاقي داخل لجنة الإشراف، فاقترح علي أحد حكمائها أن أتفقد مكاتب “الملعب الأولمبي…” ووعدني بمتابعة كل الخروقات التي تطرقْت إليها، خاصة ما حدث في مكتب “سوسيم”. يومها فهمت لأول مرة أنه في المجال السياسي وفي بلدنا آنذاك، لا يكفي فقط أن نكون على صواب لاسترجاع حقنا، لأن الخصم كان (في نفس الوقت) حكما غير آبه بأبجديات العدل والقانون.

ـ 2 ـ
خلال السنة الدراسية ٨..٢-٩..٢، وأنا في مكتب رئيس جامعة نواكشوط، تم إشعاري بأن شخصية إدارية ودبلوماسية معروفة تريد لقائي ؛ لبيت الطلب على الفور لاعتبارين رئيسيين: ماضي الرجل كموظف عمومي وسنه المتقدمة.
ما هي إلا ساعة تقريبا حتى أُخبرت بمقدم ضيفي، وقفت قرب باب المكتب حيث استقبلته بأكبر حفاوة ممكنة وأشرت إليه بمكان جلوس يدل على التقدير والاحترام، وجلست بجانبه. بعد التحايا المطولة عادة في ثقافتنا والتي أطلتها عن قصد احتفاء بالزائر المميز، شرح لي هذا الأخير بأنه تقاعد من مهمة خارجية وأن ابنه قدم معه لأسباب قاهرة وأنه يود تسجيله في تخصص معين قريب من مجال دراسته في الخارج، ثم سلمني ملف الطالب. تصفحت الملف باهتمام ورددت عليه بأن نظام “ل.م.د” الجديد يعطي صلاحيات واسعة للعمداء المنتخبين على حساب رئيس الجامعة، إلا أنه نظرا للمسوغات المقنعة التي شرح لي، فإنني أتعهد له بتحويل الملف إلى العميد المعني مع الاتصال به لشرح أحقية صاحبه (القانونية) الواضحة والمستعجلة في التسجيل.
حاولت أن لا أقاطع الرجل وأن أتفاعل إيجابيا مع مواضيع حديثه اللاحقة ؛ بعد فترة، هم بالمغادرة، فوقفت لتوديعه كما استقبلته. بمجرد أن استوى واقفا، قال لي لهجيا وهو يبتسم : “لدي ملاحظة أفضل أن أبديها لك الآن، بدلا من أن تكتشفها لاحقا…”. ظننت أنني قصرت في الاستماع إليه، فطلبت منه الجلوس مجددا، إلا أنه استطرد وهو واقف :” خير، الولد باكالورياه مزورة…”. كان وقع هذه الكلمة الأخير علي كالصاعقة ؛ ورغم محاولتي إخفاء صدمتي، عجزت عن إيجاد كلمات مناسبة لتوديع ضيف تدحرج مستوى اعتباري له فجأة ليلامس الصفر أو يغوص تحته… أعتقد أنه لاحظ ذلك، لأن عبارة محياه تغيرت ادراميا. بمجرد إغلاق الباب خلفه، أخذت الملف المذكور بين يدي وضغطته ضغطا ورميت به في سلة المهملات، ثم اتصلت هاتفيا بالكاتبة لآمرها بأن لا تقبل منه أي اتصال بي في المستقبل…

5
خلال استحقاقات انتخابية في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، قررت دعم المعارضة في المقاطعة المركزية بولاية الحوضالشرقي ؛ كانت الحملة الانتخابية شاقة ومهينة، حيث استغل “الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي” كل الرافعات المتاحة (الوسائلالبشرية والمادية للإدارة العمومية، القبيلة، ترهيب المعارضين على قلتهم، شراء الذمم، احتكار التجهيزات والمعدات، البذخ الماليواللوجستي…) لسحق نواة المعارضة قبل يوم الاقتراع. وأمام استحالة الوقوف في وجه “اتسونامي” التزوير الرسمي، قررت، يوم الاقتراع،التركيز على بعض الجيوب السكنية على امتداد المقاطعة، أملا في الحصول على نسبة مئوية من رقم واحد -على أية حال-، لكن أبعد مايمكن من الصفر… في هذا الإطار، زرت عدة تجمعات، فكانت المفاجأة! على سبيل المثال، طلبت من حوالي عشرين ناخبا من قرية في إحدىالبلديات التابعة للمقاطعة المركزية مرافقتي للإدلاء بأصواتهم في مكتبهم الذي كان موجودا في قرية أخرى تبعد أقل من أربعة كيلومترات. توقفت السيارة أمام المكتب الانتخابي المفترض (حوالي الساعة الحادية عشر)، فنزلت واتجهت نحو “المكتب” لأجد بداخله ثلاثة أشخاصيحتسون الشاي ويتناولون “وجبة خفيفة” (گرته واتنبسكيت (أو امبسكيت) ). رغم الكثافة السكانية، لم ألاحظ أي مؤشر يدل على أن هناكمكتبا للتصويت: لا حيز للاقتراع السري، لاطاولة، لاحبر، لا لوائح، لاصناديق اقتراع، لاناخب ، لاشيء… بعد السلام، سألت عن “مكتبالتصويت”، فانبرى أحد الرجال يرحب بي بحرارة ويطمئنني على أنهم سيهيئون بسرعة ما يلزم لتصويت المجموعة، ثم بدأ ينادي بصوت عال: “جيبونّ ادره!” (آتوني بغطاء!)، ثم شرع مباشرة وبمساعدة أحد رفاقه في تثبيت هزلي لمسمارين في جدار البيت الطيني، إيذانا بمحاولةمبكية-مضحكة لتخصيص إحدى زوايا البيت للاقتراع السري. كان المشهد لا يطاق. في النهاية، تعذر الحصول على “البساط” وبينما أناوالجماعة ننتظر “فرجا ما”، جاء رجل وجلس بجوارنا، قرب باب “المكتب” ؛ بدأت أرقب هذا الرجل الهادئ والذي لم ينبس ببنت شفة بعد نهايةطقوس السلام المطولة. لقد كان يوما عاصفا، كما هو العادة خلال شهر أكتوبر في المنطقة، فجأة حاول الرجل الوقوف، فتطايرت منه بطاقاتالتصويت في الهواء بالعشرات وتساقط بعضها على الأرض، قرب قدمي؛ عندها فهمت مهمة الرجل، فقررت مغادرة المكان ورفاقي، دونتحميل المشرفَين على “المكتب” أو الرجل الثالث داخله والذي بقي يراقب المشهد دون تدخل أو “الزائر” الذي قدم ل-“التصويت” نيابة عنجماعته، وزر غش ممنهج خطط له أناس سيئون وقبضوا ثمن ذلك توظيفا غير مستحق وعقود تموين وهمية، على بعد أكثر من ألف كيلومترمن “المكتب الانتخابي” للقرية x الوديعة!…

عدت برفاقي إلى قريتهم ثم قررت التوجه إلى أقرب وأهم سلطة إدارية من المكان (رغم عدم الاختصاص!)، حاكم مقاطعة مجاورة، مدينة أحبكرم أهلها وثقافتهم العريقة. كان علينا قطع أقل من ثلاثين كيلومترا، لذا لم تستغرق الرحلة إلا حوالي نصف ساعة ؛ لم أكن بحاجة إلىالسؤال عن المكان الذي أقصده. بعد توقف السيارة، لاحظت أن باب مكتب الحاكم كان مفتوحا، فتوجهت إليه مباشرة، فحدثت “أم المفاجآت” : صديق لي وأحد رموز المقاطعة السياسيين جالس مكان الحاكم ومنشغل بالطباعة على حاسوب محمول. لقد سعدت بلقاء هذا الصديق وبعدالتحايا والمزاح (سألته مثلا هل تم تعيينه حاكما للمقاطعة المذكورة، فرد بأن علي أن أتخلى عن “الأوهام” وأن أكون “واقعيا” بخصوص فهم”المسرحية” الديمقراطية في البلاد وأنه من الأفضل بالنسبة لي محاولة “مساعدة” نفسي ومحيطي بطريقة ذكية…)، سألته عن مكان تواجدالحاكم، فأجابني بطريقة فهمت من خلالها أنه لا نية لديه لتحديد هذا المكان أو أنه لا يعرفه بالضبط. بعد توديع هذه الشخصية، توجهتمباشرة إلى المقاطعة المركزية، النعمة ومنها مباشرة إلى نواكشوط، دون توديع أي كان ودون السؤال عن أية نتيجة انتخابية، وخيبة الأمل تثقل تفكيري…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى