سيساسيكو: سينما بطعم الرمال /عبدالرحمان لاهي

الزمان أنفو-

صدر هذا المقال في كتاب الدورة السابعة من مهرجان أفلام السعودية – يونيو 2018

عبد الرحمن سيساكو، مخرج صامت، ومتصوف كتوم، وثائر متحرر.. يقاسمنا أفلاما كبيرة، تحكي أشيائنا الصغيرة، وتحولها إلى ملحمة مشتركة، وإيقاع متناغم، وقصيدة يفهمها الكل.. بالقليل من الكلام والكثير من الصمت، يقدم لقطات حبلى بالإشارات والدلالات، في عمق كل لقطة عشرات القصص والأحاسيس.. والمطبات كذلك.
ومع كل إنارة داخل إطار الصورة يحدد سيساكو درسه الذي يريد لنا كمشاهدين أن نكون جزءا منه.. وأن نتخلص من عقدة المشاهد، وعقدة الطلب والعرض.
مدرسة سيساكو الفنية متعددة التخصصات والنظريات، لكنها موحدة في المنهاج، فهي تعتمد على مادة واحدة (الصمت والمراقبة).
تتولد غالبا تلك الخاصية من ثقافة الصحراء، حيث الصمت الصاخب، والمراقبة الدقيقة لأفق لا ساحل له، وحبات رمل لا تتوقف عن الرحيل. تلك الصحراء، التي لم تُكتب إلا شعرا، حتى جاء حفيد أولائك الشعراء ليترجم قصائدهم إلى صور.
ورغم كثافة وحداثة المواضيع التي عالج في أفلامه، إلا أننا سندخل محرابه، ونكتفي برحلة صمت ومراقبة لمحطات ثلاثة أفلام من بين أفلامه: (في انتظار السعادة) – (باماكو) – (تمبكتو).

حين يستعير منا انتباهنا، وأشيائنا..
يستخدم سيساكو فنا بارعا من الاستعارة التي تميز كل أفلامه، وتشكل مساحة الاستعارة، الزمان والمكان الذي يضرب فيه الموعد مع المتفرج.
في الموعد/ الفيلم، يتحدث سيساكو مع جمهوره من خلال الصورة التي لا تحتاج لوسيط ولا لمترجم، ويتفادى لغة الترغيب والترهيب، فهو لا يمارس الدعاية لفكرة، ولا الوعظ من منبر، إنما يقدم بكل بساطة دعوة مفتوحة غير ملزمة، للحضور إلى أشيائنا التافهة وقصصنا الساذجة، بعد أن يطبخها على نار هادئة في مساحة مشتركة.
مساحة تُغفِل في الكثير من الحالات هوية الحدث والمكان والبطل، وهي حِيلٌ يتقنها سيساكو، لدرجة وضع المشاهد في حالة إرباك من الزمان والمكان، مع ثقة مطلقة بالأحداث والأشخاص، تماما كما يتلاعب بنا David Lean في فيلم (لورنس العرب)، من خلال تحريك الكاميرا يمينا ويسارا لينقل لنا الشعور بحجم السفر وتنوع الأمكنة في الصحراء.

سيساكو.. يكتب ذاته
كل فيلم لسيساكو هو بمثابة سيرة ذاتية، وإن لم يكن كذلك ففيه، على الأقل، من روحه نفخة، ومن حياته محطة، وفي مجمل أفلامه سرد لمحطات مختلفة من حياته، من قصص حب عاثر “بموسكو”، وتتبع لطيف صديق “بروندا”، واستراحة محارب بصحاري “تونس”، وتخليد يوم كوني في قرية نكرة “بمالي”، وتتبع ذكريات عائلة بمدينة “كيفه”، والتجول بين منازل مدينة “نواذيبو” .. تلك المنازل المصطفة استعدادا للسفر في الصحراء والبحر.
كان آخر تلك المحطات، تلك القصيدة المرئية التي كتب بين سهول المجابات الكبرى على مشارف مدينتي “ولاته” و”تمبكتو”.

ليس كل صمت قاتلا
القاسم المشترك في سيمفونية أفلام سيساكو، هو “الصمت والمراقبة”.. مراقبة لرحيل إلى وجهة مغايرة استعدادا لرحيل آخر.. رحيل يشبه رحيل حبات الرمل مع هبوب أي نسيم أو أية عاصفة مهما كان اتجاهها. أو كرحيله، هو ذاته، حتى وهو يحط الرحال مؤقتا في مكان مؤقت.
رغم ذلك فهو يحاول في كل مرة التخلص من ألم الرحيل الذي لا يفارقه، ليبدع بعيدا عن مكمن إبداعه في المرة المنصرمة، لكن المبدع شبيه بالمحب العاشق، إن لم يكن هو ذاته، والعاشق لا يشفى أبدا.
“يجول بآفاق البلاد مغربا … وتسحقه ريح الصبا كل مسحق”
وما بين قوسي البحر والرمل، ومزدوجتي بداية فلم ونهايته، رحيل يبدأ وآخر يدفن.
يقوم سيساكو في أفلامه بمحو كل العلامات التي من شأنها أن تخلق منك مشاهدا، فهو يريدك أن تكون جزءا من العمل، يريدك فاعلا لا مفعولا به. أنت بالنسبة له، جزء من سردية رسومات وعلامات الفيلم التي يمكنك تجميعها حسب رغبتك، لتكتب فيلمك من فيلمه.

في انتظار الفيلم.. أو في انتظار السعادة
فيلم (في انتظار السعادة) هو مفكرة لرحلة زائر عابر سبيل، إلى مدينة تتهيأ للمغادرة.. في هذا الفيلم، يكتب عبد الرحمن سيساكو مذكرات المدينة والمارة والفراغ والأشباح، في انتظار الفيلم، لكن الفيلم يبدأ دون أن ننتبه، فجأة نجد أنفسنا داخل الفيلم، دون أن نستعد، أو ننتبه..
تماما كما تهب العاصفة تحت جنح الليل بين تلال الصحراء الوعرة، وتخترق صمت الليل في حي بدوي، كان يمارس قبل لحظات لعبة محاكاة النوم، فتنطلق الأحداث والصراعات ويختلط الترقب بالخوف، والرحيل بالانتظار.
عبد الله، الشاب العشريني، يصل قمة الصراع مع ذاته، فهو عالق حد التيه في حب الفتاة (نانا).. ومتعلق حد التبتل بالمغادرة إلى هناك.. أي هناك، المهم ألا يكون هنا.. فهو كما يقول سيساكو عن نفسه: (أينما كنت أتواجد، أشعر دائما أنني هناك).
هذه “الوصفة” تنطبق على كل سكان “الحوش”, من غسال الملابس (ديالو) إلى المطربة (النعمه بنت اشويخ).. لا أحد يريد البقاء، بل لا أحد يعرف تماما لماذا هو هنا! تائهون، هائجون.
وفجأة تنقشع “العاصفة” وتهدأ الأحداث، وتتحول العاصفة إلى هفيف، وينسى أهل الحوش.. بل وينسى المشاهد حدة وهيجان اللحظات السابقة.. ويتناغم الجميع مع ألحان المطربة النعمه بنت اشويخ، وهي جالسة تحت خيمتها المنصوبة في الحوش، ولسان حالها يكرر مع أعرابية الخليفة العباسي:
وما ذنب أعرابية قذفت بها … صروف النوى من حيث لم تك ظنت
وتتأوه (سكينه) والدة الشاب عبد الله.. وهي تخرج وتدخل غرفتها.. فقط لأن إرادة الخروج لا تبارحها، وعلى شفتيها تتلاعب أحرف وكلمات تشبه كثيرا بيت الأعرابية الآخر:
لها أنة عند العشاء وأنة … سحيرًا ولولا أنَّتاها لجُنَّت
فتتمايل الأقمشة المتراصة على حبل وسط الحوش وكأنها جماهير جاءت لتستمتع بطرب النعمه بنت اشويخ، ورائحة البخور المنبعثة من غرفة سكينة.

صدى المحيط الخارجي
من بين الأشياء السحرية التي يتقنها سيساكو، سلاسة وانسيابية إسقاط معاني ودلالات مناخ ومحيط التصوير داخل لقطات الفيلم، فأنت لا تشاهد ما في إطار الصورة فقط، بل تعيش الإطار كجزء من مشهد متكامل، وهو ما يُرى ويُسمع في فيلم (في انتظار السعادة).
فلا تكاد تخلو لقطة من صفير القطار، وصخب البحر، وهزيز الريح.. ثلاثية السفر والحركة. ولا يكاد يمر مشهد دون الإحساس بالرمل والفراغ والسكون.. ثلاثية الأمكنة الصحراوية.
فالفيلم كالصحراء بأقسامها الكبيرة الكثيرة المفتوحة والمتناقضة، تماما كأقسام الحوش المتنافرة، وأقسام اللقطات المتناغمة، وأقسام الحياة المتتالية: وداع، وسفر، ومنفى.
تقبض سكينة حبات رمل من أثر خطوات عبد الله وهي تودعه في سفره إلى هناك.. عادة أو عقيدة صحراوية، لم تغب عن المخرج، حتى وهو يضع المشهد في عصر حديث، ولغة وملابس عصرية مدنية.
تحتفظ سكينه بصرة الرمل في طرف ملحفتها، كمن يقول: أنت من هذه وإليها ستعود، أو كمن يقول: حين أشتاقك سألقى الرمل في مهب الريح وأتبع حبات الحصى لتوصلني إليك.
وينطلق عبد الله وفي نيته سفر طالما حلم به وخطط له. وعند بوابة الصحراء، يظهر سد الصحراء كبوابة حصن مغلق. وكما عانى سيزيف، يكابد عبد الله للصعود إلى أعلى ذلك التل الرملي الذي يُخيل إليه أنه يفصله عن (هناك)..
مشهد من أجمل سخريات الصحراء من القادمين من هناك.. وافد ببذلة كبذلة بائع أسهم في طوكيو، ونعل كنعل راقصي الافلامينكو، يتسلق تلا رمليا في عمق الصحراء.
يتهاوى عبد الله، كجلمود صخر حطه السيل من على.. عائدا لقاع التل. تودعه حبيبات رمل رشيقة ومنسابة بهدوء ورشاقة. لكن التل ليس بتلك الصعوبة والتمنع، والصحراء ليست خالية من السكان كما يوحي المشهد، فذلك الرجل الملثم الذي يخرج من لا مكان، ويشعل لعبد الله سيجارته، قطع التل عموديا وبسرعة البرق وبأقل عناء.
في هذا المشهد المهيب للصحراء، يخِزنا سيساكو قليلا.. نعم.. الصحراء خاوية، وكبيرة وهي مجرد حبات رمل متراكمة أو متراصة، لكنها ليست لكل العابرين.. أو على الأقل تحتاج إلى لغة وابروتوكول للتعايش والتناغم معها، إلى ملاطفة في الأفعال، ومساكنة بالتي هي أحسن، وإلا تحولت إلى كابوس، كالذي ظل يقض مضجع عبد الله، وهو الآن يتحول إلى علامة فارقة بأن الرحيل لن يكون.. أو أنه مؤجل على الأقل.
وإذا كانت الجثث التي يقذفها البحر في انتظار السعادة رمز لرفض حضارة لأخرى. فالرمل هنا، تأكيد لذلك الرفض.
سيرورة التعليم والتوريث التي رافقت الفيلم من بدايته، مع الفتاة الموسيقية ومعلمتها النعمه بنت اشويخ، والفتى عبد الله ومعلمه اللغوي الصغير (خطره)، تنقلب أيضا إلى عكس كل التوقعات مع الطفل خطره بعد أن فارقه معلمه (معط).. وتركه يواجه عواصف المواقف وحده بعمره اليافع، وأسئلته الكثيرة، وعلامات الاستفهام اللامتناهية.
كل البدايات في الفيلم لم تُكتب نهاياتها، لذلك يريد الطفل خطره، أن يعيد الشريط لبدايته، وأن يجرب إعادة الولادة والبدء من جديد، فينطلق في آخر لقطة من الفيلم، في صحراء تشبه السراب، بحثا عن معالم وأطلال (الأم)، وهنا يستقبله سيساكو بديكور من أجمل وأعمق وأذكى حيل إعادة رسم الصحراء وتطويع أشكال كثبانها؛ تلين منفصلين ومتوازيين يفصلهما عن تل ثالث، كومة عشب صغيرة.
يسير الطفل خطره بين التلين حتى يصل كومة العشب، ويتوقف لحظة كأنها دامت تسعة أشهر، لينطلق كمن جاء للحياة من جديد، مخلفا وراءه ذلك المشهد الرملي العاري، تتوسطه كومة عشب ندية وصغيرة.. ذلك المشهد الذي لا يعدو كونه جسما نسائيا متمددا بعد ألم المخاض.

ماما أفريكا.. تنتحب
فيلم (باماكو) – وكان بالإمكان أن يتسمى بأي عاصمة إفريقية، فالجسد واحد، ويتداعى بعضه لبعض – هو دعوى مدنية رفعتها إفريقيا ضد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، الذين دمرا ماما أفريكا، من خلال إجبار بلدانها على إجراء تعديلات هيكلية، ما أدى إلى خصخصة أو إلغاء الخدمات العامة وخدمات التعليم والخدمات الصحية والنقل العام؛ فيلم يحكى الأشياء بصراحة، ويصور الألم الإفريقي بصمت، وسخرية.
ولأن المخرج أحد ورثة أرض المليون شاعر فإن فيلم باماكو حالة من نفس السياق الشعري في عموم أفلامه، ولن يتمكن من الهرب من تلك التفاصيل والحميمية والسذاجة التي تشكل يوميات إفريقيا رغم البؤس، فيقدمها كلمة، ويقدمها صورة، بل ويقدمها حداء وغناء بلغة غير مفهومة لكنها تؤلم جدا، وذلك حين يقف المطرب الهرم الذي تحكي تجاعيد وجهه قصة مهد البشرية، ولا يجد ردا على سؤال القاضي غير إطلاق العنان لحنجرته والشدو بموال يشبه آلام المخاض.
وتتواصل المحاكمة في ذلك المنزل العائلي الكبير، دون أن تتوقف أو تتأثر الحياة اليومية في هذا الفناء الكبير وفي بيوت جيرانه، فالنساء يواصلن صباغة الأقمشة، وسحب الماء من الصنبور، والصبي البريء يلعب كرته، والفتاة المغنية تواصل تغيير ملابسها في الفناء بين القضاة والمحامين والمحلفين وكأنهم مجرد مجسمات لملء الفراغ في المكان.
وتتواصل المحاكمة بمرافعاتها وطعونها وشهودها، وكأن ساكني الحوش مجرد أشباح لا تملأ المكان، حتى حين يعبر موكب الزفاف بين منصة القضاة وكراسي الجمهور؛ حياتان متوازيتان ومتصالحتان رغم تناقضهما بل وعدائيتهما، تتناوبان بشكل مؤثر، كوميدي ومأساوي.
يكشف سيساكو كل أوراقه وأوراق غريمه من خلال المرافعات، ومن خلال تدخلات غير مبرمجة لسكان الحوش، حين يسترق أحدهم السمع للمداخلات ويحس هبوطا في معنويات المترافعين، فيشفي غليله بتدخل غير مبرمج، ولا يخضع لقوانين وابروتوكولات المحكمة. وحين يأتي المساء ويخرج الغرباء يتحول الفناء إلى جلسة عائلية، ويلتئم شمل سكان الحوش لمشاهدة مسلسلهم (الموت في تمبكتو)، وهي لحظة النظر في المرايا من خلال مرايا..
فيلم مضمن في فيلم للحديث عما تعذر ذكره في الفناء نهارا، أو لمشاهدة المعنى البصري للكلام اللفظي الذي جاء ذكره في جلسات المحاكمة ذلك اليوم: مرتزقة من البيض والسود يتجولون في (تمبكتو) لتنفيذ مذبحة.
واحد من مُدرسيْن يقتل، لأن “واحدا يكفي” حسب صندوق النقد الدولي.
ثم أم شابة، ثم رجلين بطلقة واحدة..
ثم جنريك..
وينقشع نهار الغد لتتواصل المحاكمة..

منطوق الحكم
إذا كانت المحاكمة لم تنطق بحكم لصالح إفريقيا، أو قرار ضد البنك الدولي، واكتفت بالمرافعات، فإن محكمة أخرى، في مكان ما من صحراء إفريقيا حكمت ونفذت الموت في حق قافلة من شباب القارة، كانوا في طريقهم إلى بلاد العم سام.
مرة أخرى يعود بنا سيساكو إلى الصحراء وقوانينها التي تقسو تارة حتى على أبناءها، في مشهد مقسم إلى ثلاث لقطات:
– جثة فتاة في ريعان شبابها، تتأبط قنينة كانت قبل أيام مليئة بالماء والأمل والحلم بالجنة التي هناك، ووجه تحول مكياجه إلى غطاء رملي وأصبح يشبه فرعونا محنطا في متحف القاهرة، ولم يبق إلى جانبها من مؤنس سوى خنافس ألفت الرمل والعطش والشمس الحارقة.
– قافلة شبابية تظهر وتختفي ثم تظهر وتختفي بين ألسنة الرمال، كتذبذب موجات السراب، وبتقطيع اللقطة وانكسار اتجاهاتها تشعرك بالتيه والرحيل دون بصيرة إلى وجهة غير معلومة.
– سرب من الخنافس السوداء تجوب الرمل في كل الاتجاهات، كمن يفتش عن هارب متسلل إلى جنة الرمال، لقطة توحي بالمشهد النمطي لحراس شواطئ البحر الأبيض المتوسط على الضفة الايطالية أو الاسبانية.
لا مفر لك .. ماما افريكا..
من لم نقض عليه بالتعديلات الهيكلية، سننتظره عند الضفة الأخرى للبحر.. هذا إذا سلِم من صحرائك القاحلة ولفح حرها.
هكذا أراد فيلم باماكو أن يقدم لنا الدرس.

لؤلؤة الصحراء الصامتة
فيلم تمبكتو، يحكي قصة استيقاظ مفاجئ لسكان المدينة الحالمة على متطرفين دينيين وافدين يفرضون نظاما جديدا، وقانونا جديدا على سكان (تمبكتو) التاريخية المليونية.
دعوة أخرى من سيساكو إلى معاينة ومشاهدة ما جرى في ذلك المكان من صحراء إفريقيا التي كانت، حتى عشية الحصار، محجا للراغبين في الاستماع إلى الصمت، والنوم مفترشين الأرض وملتحفين السماء.
الدعوة تبدأ من تلك اللقطة التي يزيح فيها الوافدون خرقة القماش عن وجه الرهينة.
(افتحوا أعينكم أيها المشاهدون، وشاهدوا بأنفسكم، فلست هنا للنيابة عنكم).. هكذا يخيل إليك أن سيساكو نطق تلك الجملة.
تغلغل فرض “النظام الجديد” في كل مناحي حياة الناس، وتفاصيل يومياتهم وخصوصياتهم، وتحولت المدينة إلى سجن في الهواء الطلق، ورمز للمدينة المحاصرة؛ أصبحت النساء ظلالا وأشباحا يحاولن المقاومة حفاظا على ما بقي من كرامتهن.. لا مزيد من الموسيقى والضحك والسجائر وحتى كرة القدم…
ورغم ذلك حافظت تمبكتو على جمالها الساحر المهيب وحيائها الصامت وغنجها، حتى وهي تفقد عذريتها تحت الحصار والبارود والكبت والمسح.
مرة أخرى يختار سيساكو عالم الصحراء، بزمانها المعلق، وجيوب أمكنتها المحصنة، حيث يعيش المنمي (كيدان) حياة بسيطة وسلمية في الكثبان الرملية، محاطًا بزوجته (ساتيما) وابنته (تويا) وراعيه الصغير (إيسان). لكن مساحة الحرية هذه، الواقعة خارج الزمن، ستصلها عيون القانون الجديد، وتختلس نفوس الطامعين في النظر إليها، وتضمر النيل من جسدها المحتمي تحت الشعر الأسود المنساب من رأس زوجته.
ويطال الكسوف المظلم تلك العائلة الوديعة عندما يسعى الأب إلى تسوية نزاع خاص مع صياد قتل إحدى بقراته، ولم تنفع كاهنة الفودو الهايتية وتعاويذها في تجنب العاصفة التي حولت بقية الأحداث إلى سلسلة من المآتم والتشريد.

سيدة (في انتظار السعادة) لم تمت بعد..
حين يعود القائد (عبد الكريم) من محاولة أخرى يائسة لاختطاف قلب وود زوجة كيدان، يطلب من سائقه التوقف فجأة في وسط الصحراء الممتدة الموحشة، ينظر بحنق ممزوج بالأسف والغيرة والوله إلى جهة التلال والكثبان الرملية المتراصة، ثم يسدد طلقات نارية متتالية إلى “تلين منفصلين ومتوازيين يفصلهما عن تل ثالث، كومة عشب صغيرة”.. فيمحو الرصاص العشب.. ويتنفس القائد الصعداء منتشيا ومتحسرا، ليس بإمكانه غير ذلك، فقد فشل في اختطاف حب ساتيما لزوجها كيدان.
ولأنه يلخص كل حبه وألمه في مناطق من الجسد فلم يكن لديه إلا مسح كل علامة تحيل إلى وجعه، بل ويذهب أبعد من ذلك، فربما لم يكن يريد للطفل (خطره) في فيلم في انتظار السعادة أن ينجح في إعادة حياته.
وهذه الإشارات تتعدد كثيرا في أفلام سيساكو، فقلما يوجد فيلم من أفلامه إلا وفيه إيحاء أو مواصلة لفكرة أو صورة مرت في فيلم قبله. فالمذياع الذي يمثل أحد أبطال فيلم (حياة على الأرض) سيدفنه (ماكان) في الرمل بداية فيلم (في انتظار السعادة)، وبضاعة الممثل الصيني في فيلم (في انتظار السعادة) سيعرضها بائع إفريقي على المحكمة في فيلم (باماكو)، وهي ميزة تعطي لسينما سيساكو وحدة في الأزمنة والأمكنة.
بالإضافة إلى خاصية (غمزات سينمائية) يعرفها المتفرجون المخضرمون، يُضمّنها سيساكو لمخرجين أصدقاء، أو يقدمونها له، كتلك التي قدم له المخرج التشادي (هارونا) من خلال استخدام نفس الملحفة التي تلبس (سكينه) في (في انتظار السعادة)، حين ألبسها هارونا للفتاة في فيلمه (أبونا).

زحمة المرور في الصحراء
تتلاحق الأحداث الدموية والمأساوية بشكل سريع وبإيقاع البرق والرعد.. طلقة من مسدد، أحكام بالجلد، والقتل، ثأر وحنق.. وينفلت مشهد كالعاصفة، هروب ومطاردات.. وتيه.. وتتحول تلك المجابات الكبرى إلى مشهد يوحي باختناق المرور، وعدمية المكان.
ومرة أخرى يستلمنا المخرج ليلعب بتركيزنا كما يحلو له، ويجذبنا إلى داخل اللقطات لنستشعر كثافة الأحداث وألم المواقف، فلم يعد لاتجاه اللقطة تسلسل منطقي، تماما كغياب المنطق فيما يحدث هنا.

مشاهدة أفلام عبد الرحمن سيساكو، كعبور الصحراء، تحتاج الصمت والمراقبة، والانتظار والاستعداد والتفاعل.
وقراءة أفلامه، تشبه فك رموز قصيدة موغلة في البساطة حد السريالية، كل تفعيلة منها تمثل فاصلة صغيرة من محطات الرحلة الكبرى التي كثيرا ما نغفل عنها لشدة توقعنا وانتباهنا لنقطة الوصول، كما يقول باولو كويلو.
فالمخرج المتصوف يمنح السر لمريديه وغير مريديه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى