ثورة الشعب والملك..التاريخ والارشيف

كتب عزيز لعويسي في ذكرى ثورة الشعب والملك السبعين:

الزمان أنفو -يحتفي الشعب المغربي قاطبة (الأحد 20 غشت 2023)، بالذكرى السبعين، لثورة الملك والشعب، التي مازالت تحافظ على رمزيتها في تاريخ الكفاح الوطني، وعلى ثقلها في الذاكرة النضالية المغربية، ومن الصعب الخوض في تفاصيل ما تحمله الذكرى المجيدة، من قيم ودروس في الوطنية الحقة، أو التوقف الاضطراري عند ما جسدته وتجسده من تلاحم وثيق بين الملك والشعب، دفاعا عن وحدة الأرض وسلامة التراب، دون وضعها في صلب السياق التاريخي الذي أنتجها.

سياق متعدد المستويات، يقودنا إلى مرحلة مفصلية في معركة النضال والتحرير الوطني، من عناوينها الكبرى، تغير موقف الحركة الوطنية من “مطلب الإصلاح” في ظل الاستعمار، إلى مطلب “الاستقلال”، منذ حدث تقديم وثيقة 11 يناير 1944، وما تلا ذلك من ملاحم نضالية بطولية، ومن تلاحم وثيق بين الحركة الوطنية والسلطان محمد بن يوسف، الذي لم يكتف فقط، بتأييد ومسايرة الحركة الوطنية في مطلب الاستقلال، بل وانخرط من جهته، في صلب معركة النضال، فقاوم الاستعمار تارة برفض التوقيع على الظهائر الماسة بسيادة ووحدة المغرب، وتارة ثانية بالمطالبة جهرا بوحدة المغرب واستقلاله في عدة محطات تاريخية (خطاب طنجة سنة 1947- خطاب العرش سنة 1952…)، وتارة ثالثة بالرهان على الوسائل الدبلوماسية وحشد الدعم الدولي حول القضية الوطنية (لقاء أنفا سنة 1943…).

النهج النضالي للسلطان محمد يوسف ومواقفه الصريحة الداعمة للحركة الوطنية والمؤيدة لمطلب استقلال المغرب، هي اعتبارات من ضمن أخرى، كانت كافية بالنسبة للسلطات الاستعمارية الفرنسية، لتقدم على تنفيذ مؤامرة نفيه خارج أرض الوطن بمعية الأسرة الملكية، في محاولة منها لضرب وحدة الأمة وثوابتها، والتأثير على تماسك صفوف الحركة الوطنية، ولم تكتف بالنفي، بل أقدمت على محاولة تنصيب سلطان بديل، لضبط أوثار الكفاح الوطني، فكان رد المغاربة قويا وسريعا، بإشعالهم لفتيل ثورة 20 غشت 1953، التي عجلت بعودة الكفاح المسلح وظهور العمل الفدائي وتأسيس جيش التحرير، وفي ظل اشتداد حرارة الكفاح الوطني وفشل السلطات الاستعمارية في كسر شوكة المقاومة والتحرير، لم تجد من بديل، سوى السماح بعودة السلطان الشرعي، والدخول في مفاوضات، أفضت إلى استقلال المغرب، والدخول المبكر في مسلسل استكمال الوحدة الترابية، بالموازاة مع الانخراط المبكر في جهاد وضع أسس ولبنات الدولة المغربية الحديثة.

وتحقيقا لما يتطلع إليه الشعب المغربي تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس، من نهضة تنموية شاملة، ومن أمن وسلام ورخاء وازدهار وإشعاع.

قرار الاستمرار بالاحتفال بالذكرى الغالية دون توجيه خطاب ملكي سام إلى الأمة، يضعنا وجها لوجه أمام ذاكرة تمتد لسبعة عقود ومازالت ممتدة في الزمن، تحضر تفاصيلها في الأرشيفات سواء كانت ورقية أو سمعية بصرية، التي تمت مراكمتها منذ أن اندلعت الشرارة الأولى لثورة 20 غشت 1953 حتى اليوم، سواء تعلق الأمر بالخطب الملكية السامية، وما تضمنته من رسائل وتوجيهات اقتصادية ومبادرات تنموية، أو بما ظل يواكب الذكرى، من احتفالات وأنشطة أكاديمية وثقافية وإبداعية وإشعاعية.

وإذا ما استثنينا “الخطب الملكية السامية” المحفوظة في أرشيفات عدد من المؤسسات، من قبيل “مديرية الوثائق الملكية” و”أرشيف المغرب” و”المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير”، و”الإذاعة والتلفزة”، فالأرشيفات التي خلدت للذكرى طيلة عقود، تحضر بمستويات ودرجات مختلفة في جهات ومؤسسات أخرى، منها على سبيل المثال لا الحصر، الحكومة والبرلمان والأحزاب السياسية والمكتبة الوطنية والجامعات والمؤسسات التعليمية والخزنات الخاصة، والجماعات الترابية والسفارات والقنصليات والمؤسسات الإعلامية والمجتمع المدني وغيره.

وعلى الرغم من أن “ذاكرة ثورة 20 غشت” لا يمكن فصلها عن الذاكرة النضالية الوطنية، فهذا لا يمنع من التحرك في اتجاه إعداد “رصيد أرشيفي نوعي خاص بذاكرة ثورة الملك والشعب”، يحفظ إلى جانب الخطب الملكية السامية، كل التعبيرات والممارسات الأرشيفية التي خلدت وتخلد للذكرى، حتى تاريخ البلاغ الصادر عن القصر الملكي، الذي بموجبه تقرر الاستمرار في الاحتفال بالذكرى، دون خطاب ملكي سام موجه إلى الأمة بالمناسبة ذاتها.

وجمع شتات هذه الذاكرة النضالية الخصبة، لا يمكن أن يتوقف عند حدود “الجمع” و”الحفظ”، بل لا بد أن يرتقي إلى مستوى “تثمين أرشيفات هذه الذاكرة”، من خلال إتاحتها للباحثين وعموم الجمهور في إطار “الحق في المعلومة”، والتعريف بها عبر آليات المنشورات والندوات والمعارض، حتى تبقى الذكرى حية وملهمة وجامعة للمغاربة قاطبة، حول المشترك التاريخي والهوياتي والثقافي والحضاري.

ذكرى 20 غشت 1953، هي ذاكرة مشتركة بين ملك وشعب، وإثارتها عبر هذا المقال، ليس فقط من باب مواكبة احتفالات الشعب المغربي بهذه الذكرى المجيدة، أو من زاوية أرشيفية صرفة، مرتبطة في مجملها، بحفظ وصون التراث الوطني في أبعاده الكفاحية والنضالية، بل هو أيضا “ضرورة حداثية” محركة لعجلة الـحـق في المعلومة، ودافعة نحو الانخراط المواطن والمسؤول في خدمة الوطن بجدية ومسؤولية والتزام وتضحية ونكران للذات، كما خدمه الآباء والأجداد، وملهمة ومحفزة بالنسبة للدولة، لمواصلة السير على درب الإصلاح والبناء والنماء، والتصدي الحازم لكافة أشكال وممارسات ” اللاجدية” التي لا تنسف فقط، ما تحمله الآباء والأجداد من متاعب وأعباء ومحن، ليظل الوطن حرا وموحدا شامخا، بل وتحرم الأمة المغربية، من حقها المشروع في كسب رهانات التنمية الشاملة، وبلوغ مرمى السيادة والاستقلالية.

ونحن نفتح بوابة أرشيفات ذكرى 20 غشت، إذا كان لا بد من توجيه نداء أو رسالة في هذا الموضوع، فلن نتردد في توجيهها على التوالي إلى “مديرية الوثائق الملكية” باعتبارها الجهة المدبرة للوثائق الملكية، وإلى “أرشيف المغرب” بصفتها المؤسسة الوصية على تدبير الأرشيف العمومي، ندعو من خلالها المؤسستين إلى التفكير المشترك في الصيــغ الممكنة، التي من شأنها الإسهام في جمـــع شتات أرشيف ثورة الملك والشعب، سواء المحفوظ لدى المؤسستين، أو لدى عدد من الأجهزة والمؤسسات والأشخاص، من أجـل بناء “لحمة ذاكرة” ذكرى غالية على قلوب المغاربة، يحضر فيها، ما يحتاجه مغرب اليوم، من قيم وطنية ودينية واجتماعية، وما يرتبط بها من مسؤولية والتزام وتضحية وجدية ونزاهة واستقامة ونكران للذات واستحضار للمصالح العليا للوطن وقضاياه المصيرية.

وهذه القيم المتعددة الزوايا، هي زادنا الوحيد والأوحد في رحلة “الجهاد الأكبر” من أجل وطن موحد وآمن ومستقر ومزدهر وبهي، وذات الرسالة والنداء نفسه، نوجهه إلى جميع الأجهزة والمؤسسات والأشخاص، ممن يحفظون أو يحتضنون أرشيفات دالة على تاريخ ثورة الملك والشعب وعاكسة لذاكرتها، ومن مسؤوليات هؤلاء أمام التراث الوطني بكل امتداداته ومستوياته، حفظ هذه الأرشيفات وحسن العناية بها، وعدم التردد في مد جسور التواصل والتعاون والتشارك، مع المؤسسة الوصية على الأرشيف العمومي، سواء تعلق الأمر بطلب الخبرة الأرشيفية، أو بائتمانها على ما يوجد تحت تصرفهم من وثائق أرشيفية، إسهاما منهم في حفظ وتثمين التراث الأرشيفي الوطني، باعتباره ملكا مشتركا لجميع المغاربة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى