مختارات من المذكرة الصغيرة (1)
البداية من شنقيط، حيث الحرف دقيق، والجمل مشحونة بالمعنى، رغم صغر الخط وضيق الصفحة
الزمان أنفو _ حي بوعگال على حافة البطحاء، في قلب الصحراء… حين يتساوى الليل والنهار، وتغدو الأصوات أوضح من الصمت، كنتُ هناك… في شنقيط.
عدتُ إلى مذكرتي الصغيرة، أطالع حروفًا كتبتها منذ أكثر من ربع قرن. كنت أظن أن الزمن سيمحوها، فإذا بها أكثر حياة من كثيرٍ ممن مرّوا في حياتي ثم اختفوا. الخط دقيق، كأنّه منمنمة على صفحة مخطوط، والجمل متماسكة، رغم أن يدي آنذاك لم تكن تعرف تعب الشيخوخة، ولا كانت عيناي تعرفان حاجة النظارات.
دوّنت فيها عن الأصدقاء المتحلقين حول لعبة الورق، يسهرون تحت ضوء القمر، ويتناوبون على تحضير العشاء في ليالي رمضان، بما توفر من معجنات: معكرون، فيرميسيل، محمصة، ومذق.
عن الحجارة تنهال على العراجين لتساقط التمر، تحت ظل نخلة يتيمة قرب بئرٍ شهدت يومًا ما مغامرةً لطفلٍ كان صديقي.
عن شيخ يقرأ القرآن في صحن الجامع، صوته ينساب كالماء في قاع بئرٍ عتيقة.
كتبت عن فجرٍ يلسع وجهي ببرده، وعن امرأة تنخّل الكسكس الأسود في فناء بيتٍ من الطين، وعن شيخٍ يضع الكحل في عينه، يروي:
“كسكس سترة ماه مرشوگ
لا في البيظان ولا في السودان
أشوي وفيه الدخان…”
كتبت عن السيول التي تكابد الكثبان لتجرفها، وعن طالبٍ عائد في العطلة يحمل معه مسجلًا يصدح بصوت سيدة الغناء العربي:
“هل رأى الحب سكارى مثلنا…”
كتبت عن أختي الغالية التي أنقذتني من الغرق، بعد أن قفزت مكان صديق الطفولة حين سقط في الأضاة ، وكنت لقصر قامتي سأكون أول غريقٍ في شلتنا لولا العناية الإلهية ووجود “فاطمة” قرب المكان.
عن أطفالٍ يركضون خلف بعير تائه، وعن تفاصيل لا يُمكن إعادة اختراعها بالذاكرة.
في شنقيط، شعرت أن اللغة لا تُكتب بل تُحفر، وأن الزمن لا يُقاس بالساعات بل بالسكينة. هناك فقط، أدركت أنني لا أدوّن ما أراه… بل ما لا أريد أن أنساه.