شهادة مؤلمة عن التراجع الذي عرفه المغرب بعد التسعيناا
من صفحة الكاتب سعيد حجي

الزمان أنفو _ يبدو أن المغرب قد ودّع عصره الذهبي في الفكر والأدب مع نهاية التسعينات، حين خفَت صوت الكلمة أمام ضجيج المظاهر، وتراجع النص أمام سطوة الصورة، وانزوى المفكر الحقيقي في الزاوية القصية من مشهد يزداد صخبا كل يوم.
جيل الستينات و السبعينات والثمانينات كان جيلا لا يُقارن. كان زمنا تُحمل فيه الكتب تحت الإبط لا كزينة، بل كوقود يومي. أسماء مثل عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، طه عبد الرحمن، محمد شكري، محمد زفزاف، إدريس الشرايبي وغيرهم لم تكن فقط رموزا أدبية أو فكرية، بل كانت تعبيرا حيّا عن زمن كان فيه السؤال مقلقا، والجواب محمولا على أكتاف المعرفة…
يكتب “إدوارد سعيد”: “الثقافة، حين تكون في خدمة السلطة، تفقد قدرتها على النقد”… ولعل ما حدث في المغرب بعد التسعينات هو نوع من التواطؤ الصامت، بين من أرادوا إفراغ الفعل الثقافي من محتواه، وبين جيل جديد فُرضت عليه “ثقافة الإلهاء”، حيث لم تعد القراءة نشاطا يوميا، بل ترفا أو حنينا.
لم تعد لدينا مجلة مثل “المواقف” أو “فصول” أو “المغرب الثقافي”… لم نعد نرى حوارات فكرية عميقة تُناقش المفاهيم والهوية والتاريخ والمستقبل. لم نعد نقرأ مقالات تشبه المقالات، بل عناوين سريعة كُتبت على عجل.
لقد تحوّلت الثقافة في المغرب من مشروع وطني قائم على إعادة بناء الإنسان، إلى مجرد أنشطة مناسباتية تُموّل ضمن خطط “التنمية الثقافية” ذات الأثر المعدوم. تراجع الاهتمام بالكتاب، واندثر الحوار بين الأجيال، وغابت المدارس النقدية، ولم تعد الجامعات تُخرّج مثقفين، بل موظفين …
العروي كان يكتب ليربط الماضي بالحاضر، والجابري كان يُفكك البنية المعرفية للعقل العربي، وطه عبد الرحمن كان يعيد تأسيس الفكر الإسلامي من بوابة الأخلاق، والشرايبي كان يُعيد كتابة الذاكرة الاستعمارية بمشرط ساخر، وزفزاف كان يُجسّد الإنسان المهمّش على الورق، ومحمد شكري حوّل العراء إلى أدب…
اليوم، من يكتب؟ ولمن نكتب؟ ولماذا نكتب؟
لقد تحوّلت أسئلة الكتابة إلى صدى باهت في فراغ رقمي.
يقول بيير بورديو: “الثقافة لا تعيش إلا حين تتجدد داخل البنيات الاجتماعية”. وما حدث أن المجتمع المغربي نفسه تغيّر، انكمشت طبقته الوسطى، وصعد الاستهلاك كقيمة، وغاب الحس النقدي، وأصبحت الثقافة تابعة لما هو ترفيهي أو موجّه…
نحن أمام أزمة حقيقية لا تُحل بالندوات ولا بالمعارض الموسمية، بل بثورة ثقافية حقيقية. .
ثورة تُعيد للمفكر مكانته، وللكاتب صوته، وللقارئ فضوله.
نحتاج اليوم إلى مشروع وطني للقراءة، لا شعاراتي، بل فعلي، لأن القراءة لم تعد خيارا، بل ضرورة سيادية…
فالأمم لا تُبنى فقط بالجيوش والاقتصاد، بل تُبنى أيضا بالكتب والأفكار..
“القراءة لا تصنع رجالا طيبين فقط، بل تصنع مواطنين أذكياء”. هكذا يقول ݣارسيا ماركيز
وفي بلد يتجه نحو تحديات مصيرية، من العولمة الرقمية، إلى أزمات الهوية، إلى الانكماش القيمي، لا بد أن تكون الثقافة درعا واقيا لا زينة للنوافذ…
إننا بحاجة إلى أن نُعيد للكتاب مكانته، وأن نُعيد إنتاج نخبة جديدة، لا تكتفي بالحديث عن التغيير، بل تكتبه…
فالفكر، كما قالت سيمون فايل: “هو المقاومة الأخيرة للكرامة”.
وفي مغرب ما بعد التسعينات، لا بد من مقاومة ضد التفاهة…