وداعًا موسى… الطالب الأديب ونجم المحابر

الزمان إنفو _ نشر الأستاذ محمد المصطفى محمد المصطفى الطلبة تدوينة تأبينية مؤثرة في تلميذه موسى ولد سيدي المصطفى ولد الأمانة التنواجيوي الإدريسي الحسني، الذي وصفه بأنه “مفخرة الطلاب وزينة الأحباب”، متقنٌ لحفظ الشاطبية في القراءات السبع، شديد الحياء، باسم الثغر، نقي السريرة، محب للأدب والشعر والاستشكال العلمي.
استعرض الأستاذ ذكرياته مع الفقيد خلال عامين من التدريس في أصول الفقه والحديث ومقصورة ابن دريد، مشيدًا بذكائه اللافت وحرصه على العلم، وبيّن ما كان بينهما من علاقات أدبية وشعرية خارج إطار الدرس.
اختتم الرثاء بالدعاء له بالرحمة والقبول، مؤكدًا أنه وإن قصر عمره في ميزان الدنيا، فقد طال في سجل الفضائل والعلم.
نص تدوينة محمد المصطفى محمد المصطفى الطلبة:
أستودِعُ اللهَ روحاً كنتَ سائقَها
لمُرتقىً عزَّ في الدنيا على الرَّاقي
حلَّيْتَها من عُقود المجدِ أنفَسَها
حتَّى اكْتَسيْتَ بتيجانٍ وأطواقِ
رحم اللهُ الفتى الأديب والطالب النجيب ، والشاب الوديع ، المتقنَ لحفظ الشاطبية في القراءات السبع المتواترة ، اليلمعُ العَروف والمعمع اليَهفوف موسى ولد سيدي المصطف ولد الامانة التنواجيويُّ الإدريسيُّ الحسني .
لقد كان موسى بحقٍّ مفخرةَ الطلاب ، وزينة الأحباب ، درَّة المحاضر ونجم المحابر .
ولنعم الفتى عمدتْ إليه مطيَّتي ، وأودعتُه لُباب قريحتي وكان محلَّ إرشادي ونصيحتي .
وكنتُ لا أبغي عن مجالسته بدلاً ، ولا عن أسئلته معدلا ، تُعجبني أثناء الدورس تعليقاتُه واستشكالاتُه ، ولربَّما أخَّرتُ الإجابة على بعض أسئلته لحصصٍ قادمة ، طلبًا لمزيدٍ من النظر والبحث لدقة ملاحظاته ، وقد صحبتُه عاميْن في أصول الفقه وعلم الحديث ومفردات مقصورة ابن دريد فكان نعم الفهمُ فهمُه ، ويعلم الله أني كنتُ أتهيَّبُ أحياناً استشكالاتِه ، وكم تركَ الأوَّلُ للآخِر .
وكان إلى جانب ذلك لا يكاد يرفع إليك بصرَه ، عظيم التقدير لشُيوخه ، شديد الحياء ، باسم الثغر نيِّر الوجه ، يختبئ وراء نفسٍ طيبة وقلب طاهر نقيِّ .
دلَّ على معروفه وجهُه
بُوركَ هذا هاديًا من دليل
كان موسى مهتماً بالشعر والأدب ، وله عنايةٌ بتحصيل الفوائد وحفظ الشواهد ، وضبط الأبيات ، وقد كنتُ أُمازحُه بأنه ” شاعر أهل الشرق” .
وذات صباح قلتُ له ” نعرفو أهل الشرق اسولو عن الفقه وشواهد القرآن يغير ما نعرفوهم اسولو عن اللغة ” ، فتبسَّم ضاحكاً من هذا القول ، وقال في نبرة استحياءٍ ” ذي النظرية لابد انغيروها ” .
وإذا الفتى جمعَ المروءة والنَّدى
وحوى مع الأدب الحياءَ فقد كمُلْ
كانتْ بيني وبينه صلاتٌ وعلاقات خارج إطار الدرس والمشيخة ، ما بين مناظراتٍ شعرية طريفة ، وانتقاء فوائد أدبية رفيعة .
ومن حُسْن طباعه وكرَم أخلاقه أنَّني زرتُ مدينة لعيون السنة الماضية ودخلتُها ليلاً ، وكان من موافقات الأقدار أن موسى غادرها مساء نفس اليوم إلى مدينة كيفة ، ولمَّا نشرتُ ذلك على صفحتي تواصل معي بأنه سيرجع إلى لعيون فأمرتُه أن لا يفعل ، وأنني جئتُ في رحلةٍ دعوية ولا أستطيع ترْك الجماعة ، فأصرَّ عليَّ أن أمرَّ عليه في كيفة في رجوعي إلى انواكشوط فاعتذرتُ له بالعلة الأولى .
كان آخرُ لقائي به قبل يومين في جنبات مركز تكوين العلماء ، في جلسةٍ قدَّر الله لها أن تكون الأخيرةَ بيْننا ، حيثُ وجَّهتُه لأعمالٍ علمية في العطلة ، وودَّعتُه على ذلك وبوُدِّي لو يُودِّعُني صفوُ الحياة وأنِّي لا أودِّعُه .
اليوم وقد أنفذ القدرُ سهمَه في تلميذي الحبيب فإني أقفُ عاجزاً عن ذكر أخلاقه وخصاله ، وبسْط محاسنه وخلاله ، وإذا لم يكن الفتى موسى عاش عمُرا طويلاً بمعيار أهل الدنيا ، فإنه قد عاش عمُرا مديداً بمعيار الفضائل ، مستحضراً فحوى بيتيْن أمليتُهما عليه خطَّهما بيمينه :
والمرءُ يُذكرُ بالجمائل بعدَه
فارفعْ لنفسك بالجميل بناءَ
واعلم بأنك سوف تُذكر مرَّةً
فيُقالُ أحسن أو يقال أساءَ
نسطِّرُ أحرُفاً من الحزن والأسى ، ونكتبُ مفرداتٍ مليئةً بالدمع والشَّجى ، ولا نرعَوي نجمعُ شتات الثَّناء ، ونستجدي كلمات الوداع والرِّثاء .
كأنَّ لزاماً أن يظلَّ خباؤنا
على الحُزن منصوباً كما يُنصبُ الظَّرفُ
وأن تخرِمَ الأيامُ للوصل واوَهُ
فتفتأَ لا وصلٌ لديْها ولا عطفُ
فمصابُه جلل وفقدُه نقصٌ ، وغيابُه موجِعٌ ، وعلى مثله فلتبك البواكي .
وعزاؤنا فيه أنه من جملة الشهداء الذين ورد ذكرُهم على لسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .
ولا نملكُ إلاَّ التضرُّع إلى الله عز وجل أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته ، ويجعل ما حصَّل من العلم وحفظ من أوجه القراءات شفيعاً له يوم القيامة .
كلُّ العزاء والمواساة لأسرة الشهيد الشرفاء وأخواله الكرام ، ولمركز تكوين العلماء إدارةً وأساتذة وطلاَّبا ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .
ولو رَدَّ البكاءُ فتًى تولَّتْ
ليالٍ منه كانتْ كاللآلي
مَلأْنا مِن مدامعنا قِلالًا
وقلَّ لفقده ملْءُ القِلالِ
ولكنَّا بحُكمِ اللهِ نرضى
فما فعَلَ الجليلُ فذو جَمالِ