الحلقة 2: هوس الهواتف والتزوير
(فاطمة… هاتفٌ يُطفئ نور القلب)

الزمان أنفو _ كانت فاطمة طالبةً مجتهدة في سنتها الجامعية الثالثة. تنحدر من أسرةٍ كريمةٍ محدودة الدخل؛ أبٌ يعمل موظفًا بسيطًا، وأمٌّ تُدير بيتًا عامرًا بالرضا والقيم. غير أنّ الجامعة، بما فيها من تنوّعٍ وضوضاء، دخلت عليها ثقافةً أخرى: صورٌ تُلتقط على عجل، تحديثاتٌ تُنشر كل ساعة، ونقاشاتٌ لا تنتهي عن أحدث طرازٍ من الهواتف كأنّ التفوق يمرّ عبر شاشةٍ لامعة.
في البداية، قاومت فاطمة هذا التيار؛ كانت تكتفي بهاتفٍ قديمٍ يكفي للمكالمات والرسائل. لكنّ الهمسات من حولها بدأت تُربك قلبها:
«كيف لفتاةٍ متميزةٍ مثلها أن تحمل هاتفًا متقادمًا؟»
«الصورة لا تليق بمستقبلها…»
تدريجيًا تحوّل الهاتف من أداةٍ وظيفية إلى رمزٍ للوجاهة في عينيها. راحت تتصفّح الإعلانات، تُقارن بين الماركات، تحفظ المواصفات تحفظًا، حتى إذا رأته بين يدي إحدى زميلاتها، خفق قلبها كأنها تبصر قدرها. لكن السعر كان صاعقًا: بضعة أشهرٍ من راتب أبيها!
في تلك الأيام، كانت فاطمة تساعد زميلةً أكبر سنًا في مشروعٍ بحثيٍّ داخل مكتبٍ طلابيٍّ خاص. هناك، لمحَت حركةً مشبوهة: ملفاتٌ تُفتح بعد الدوام، أختامٌ تُجرَّب على مسودّات، وأسماءُ طلابٍ تُستبدل على نتائج قديمة. لم تفهم الأمر أولًا، ثم تسلّل إليها الشك؛ فالزميلة تتحدث في الهاتف بصوتٍ خفيض عن «تصحيحٍ عاجل» و«خدمةٍ مدفوعة». وحين واجهتها فاطمة مترددة، ضحكت المرأة وقالت:
«مجرد مساعدةٍ لمن يستحق… ثم إن السوق كبير، والمبلغ زهيد.»
كانت الكلمات «السوق» و«المبلغ» و«الزهيد» كافيةً لتُضعف مقاومة فاطمة. اقترحت الزميلة عليها «فرصةً» لتقليل التكلفة: سيُدفع لها نصيبٌ مقابل مساهمتها التقنية في ترتيب الملفات وإدخال بعض البيانات، ولن تتورط في «الجزء الخطر» من العملية. بدا العرض مغريًا، وبدت الحُجَج «أخلاقية»: «نساعد طلابًا على تجاوز ظلم النظام»، «نأخذ من الأغنياء الذين يملكون كل شيء»… وكانت عينا فاطمة لا تفكران إلا في الهاتف الموعود.
بدأت الخطوة الأولى: امتلأت لياليها بأوراقٍ مكرورة وجداولٍ معقّدة ومراجعةِ بياناتٍ لا نهائية. وللمرة الأولى، دخل إلى يدها مالٌ «سهل». اشترت الهاتف. كانت لحظة الضغط على زر التشغيل أشبه بزغردةٍ صامتة؛ ضوءٌ منبعث، شاشةٌ زاهية، وكأن العالم ينحني لها. لكن ذلك الضوء سرعان ما صار كاشفًا لما لا تُحب أن تراه في نفسها.
بعد أسابيع، أعلنت وزارة التعليم حملةً وطنيةً لإصلاح النظام الجامعي ومكافحة التزوير في الشهادات والنتائج. أُدخلت أنظمةٌ رقمية جديدة تتبّع الأثر الرقمي لأي تعديلٍ في قواعد البيانات. لم تمضِ أيامٌ حتى طُلب من فاطمة الحضور إلى لجنةٍ تحقيق. كانت ترتجف وهي تدخل القاعة، تتوسل أن يكون الأمر سوء فهم. لم تُتّهم جنائيًا لعدم مباشرتها التزوير بيدها، لكنها أُوقفت أكاديميًا فصلًا كاملًا، وخسرت سمعتها المؤقتة في قسمها، ورأت في عيني أبيها حزنًا أكبر من أي عقوبة.
عادت فاطمة إلى غرفتها تلك الليلة، وضعت الهاتف على الطاولة، ونظرت إليه طويلًا. كم بدا صغيرًا أمام ثقل ما خسرته. كانت الأم، بذكاء القلب، تخشى عليها من الانكسار، فقادت ابنتها إلى شيخٍ مربٍّ يُدير مجلسًا شبابيًا للنهضة الأخلاقية. استمعت فاطمة، لأول مرة، إلى معنى «القيمة الذاتية» حين لا تكون مُعلّقةً بلمعان الأشياء. قالت لرفيقاتها في الجلسة: «لقد اشتريتُ هاتفًا، وبعتُ شيئًا من نفسي».
في تلك الأثناء، أطلقت الدولة، بالشراكة مع مبادراتٍ مدنية، حاضنةً لريادة الأعمال الطلابية، تشترط التزام النزاهة وتُقدّم تمويلًا صغيرًا للأفكار العملية. ترددت فاطمة أول الأمر؛ أيّ وجهٍ ستُريه الناس؟ ثم قررت أن تبدأ من حيث أخطأت: التقنية. كتبت مشروعًا بسيطًا: «تعليم البرمجة للأطفال بأدواتٍ رخيصة ولغةٍ محببة»، متعهّدَةً أن تُدرّس الأطفال معنى الصدق في بناء الشفرة كما الصدق في بناء الحياة.
قُبل مشروعها. كان التمويل متواضعًا لكنه مبارك. تحوّلت غرفةٌ في مركزٍ اجتماعي إلى ورشةٍ ملونة: ألواحٌ وطباشير، أجهزةٌ مستعملة لكنها تعمل، وأطفالٌ يدخلون بفضولٍ ويخرجون بابتسامة. لم تعد فاطمة تسمع «طنين» الإعجابات على مواقع التواصل بقدر ما تسمع ضحكات الصغار حين ينجح برنامجٌ صغيرٌ كتبوه بأيديهم.
شيئًا فشيئًا، استعادت احترامها لنفسها. صارت تُؤطّر لقاءاتٍ توعوية في الجامعة بعنوان: «القيمة قبل الواجهة». وحين رأت زميلتها القديمة تُحاكم على شبكة التزوير، شعرت فاطمة بامتنانٍ لأن باب التوبة فُتح لها قبل أن يغلق عليها الباب الحديدي.
وفي أمسية تخرّج أول فوجٍ من الأطفال، أمسكت فاطمة بالهاتف ذاته، التقطت صورة جماعية، ثم كتبت تحتها:
«تعلمتُ أن أجمل شاشةٍ هي وجه طفلٍ يكتشف قدرته، وأصدق اتصالٍ هو اتصال القلب بالحقّ.»
هكذا انقلب الهاتف من صنمٍ صغيرٍ إلى أداةٍ نافعة. وعرفت فاطمة أن النور لا يخرج من زجاجٍ لامع، بل من ضميرٍ مُضاء.
العافية امونكه