الحلقة 3: وليمة العرس والربا

الزمان أنفو _
(خالد ونورة… حين تُختبر المحبة بميزان العقل)
تعرف خالد على نورة في الجامعة؛ زمالةٌ تحولت إلى احترام، واحترامٌ نما إلى خطبةٍ مباركة. كانا يحلمان ببيتٍ صغيرٍ يبدآن فيه رحلتهما، ومكتبةٍ تضم كتبًا أحباها، ومائدةٍ بسيطة تتسع لضحكاتهما. لكنّ الحلم سرعان ما تزاحم عليه «الواجب الاجتماعي»: قاعةٌ فخمة، مصوّرون، ضيوفٌ من آخر البلاد، أزياءٌ تُخيّط خصيصًا لليلةٍ واحدة، وموائد تُكدّس عليها الأطعمة كأنما تُعلن تحدّي الجوع في العالم!
كان خالد موظفًا في شركةٍ متوسطة الدخل، ونورة تعمل في التعليم. جلسا مع الأسرتين يضبطان الميزانية، فإذا بالأرقام تتضاعف في كل اجتماع. قال خالد بخجل: «نريد فرحًا على قدرنا»، فابتسم أحد الأعمام: «الزواج مرّة في العمر يا بني». وقالت خالة نورة: «لا نريد أن يُقال إن عرس ابنتنا كان عاديًا». لم يجرؤ أحدٌ على مجابهة التيار.
حين ضاقت السبل، جاء «المنقذ» في صورة رجلٍ مهذّبٍ يزور الشركة أحيانًا. همس لخالد: «قرضٌ سريع، بلا ضمانات مُرهقة… سدّد بعد العرس على مهل». لم يقل كلمة «ربا»؛ قال «مصاريف إدارية». ولأن خالدًا كان يُصارع الوقت، ولأنه يخجل من الاعتراف بالعجز، وقّع. شعر بمرارةٍ خفيفة وهو يوقّع، لكنها ضاعت وسط دغدغة الخيال: نورة تدخل القاعة كالقمر، الأقارب يصفّقون، الأصدقاء يصيحون.
أقيم العرس الذي تمنّت الأسرتان، لا العرس الذي حلم به العروسان. ارتفعت الموسيقى، لمعَت الثريات، امتلأت منصات التصوير بالابتسامات. وفي ثنايا تلك البهجة، كان دينٌ ثقيلٌ يُنبت مخالبه في ظهر خالد. بعد أسبوعٍ واحد، جاءه أوّل اتصال: «القسط المستحق». جاء الثاني أشدّ لهجة، والثالث يحمل تهديدًا مبطنًا. أدرك خالد أنه لم يقترض مالًا فحسب، بل قرض قلبه لمن لا يعرف الرحمة.
تبدلت ملامح البيت الجديد؛ قصّت نورة جزءًا من مصاريفها، باع خالد ساعته الهدية، تأخر إيجار الشقة شهرًا. بدأت النظرات الثقيلة تزور عيني الزوجين. وفي ليلةٍ مطيرة، انفجر خالد باكيًا: «لم أرد إلا فرحًا يليق بك… فإذا بي أهديك خوفًا لا يليق بامرأةٍ كريمة». وضعت نورة يدها على يده وقالت: «الفرح الحقيقي يا خالد… أن نختار الصواب ولو خالف الناس».
في تلك الفترة، ملأت حديثَ المدينة مبادرةٌ أهلية بعنوان «الزواج المعتدل»؛ مجموعاتٌ تُنظم لقاءاتٍ توعوية، أئمةٌ يشرحون مقاصد الشرع في اليسر، و«مركزٌ للقرض الحسن» أسّس صندوقًا صغيرًا لمساعدة المقبلين على الزواج بلا فائدةٍ ولا إذلال. قرر خالد أن يواجه بدل الهروب؛ حمل ملفّ عقده، ذهب إلى المركز، روى قصته. بعد تمحيصٍ، منحوه قرضًا حسنًا لسداد أصل الدين، وساعدوه في التفاوض على إسقاط الفوائد الربوية عبر مسارٍ قانوني مدعومٍ من شبكة محامين متطوعين. لم يكن الطريق سهلًا، لكنه كان نظيفًا.
تحوّل البيت من ساحة قلقٍ إلى مدرسةِ تعلّم. كانت نورة تُعدّ وجباتٍ بسيطة وتكتب على الثلاجة آية: «وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ». وكان خالد يختصر الهدايا الباذخة بباقة وردٍ ورسالةٍ طويلة. صارا يزوران اللقاءات الأسبوعية للمبادرة، ومع الوقت، صار خالد يُدير حلقة نقاشٍ بعنوان: «الوجاهة الحقيقية: سيرةٌ حسنة لا صورةٌ براقة». وروت نورة للفتيات كيف تتحوّل ليلةٌ واحدةٌ إلى عبء سنوات، وكيف يصير التيسير جمالًا لا بُخلاً.
لم تتوقف الضغوط الاجتماعية؛ بعض الأقارب رأوا في هذا التحول «تقصيرًا في حق العائلة». لكن التجربة صنعت درعًا زجاجيًّا يردّ السهام ولا يحجب الرؤية. أصبحا يزوران أزواجًا جددًا يدورون في الدوامة ذاتها، يحكون لهم قصتهما لا ليتفاخروا، بل لينقذوا قلبين من مرارةٍ ذاقاها.
بعد عام، وقفا في قاعةٍ صغيرة للمبادرة الأهلية، يوزعان شهادات تقديرٍ لأزواجٍ أقاموا أعراسهم بيسرٍ وكرامة. قالت نورة في كلمتها: «لو عاد بي الزمن، لاخترت أن أرتدي فستانًا أبسط، وأن أبتسم أطول». وقال خالد: «تعلمتُ أن الرجولة ليست في مغالبة الناس بالزينة، بل في مغالبة النفس حين تزيّن لنا الباطل».
في «بلادي»، حيث كانت الولائم ميدانًا للتفاخر، بدأت صورٌ أخرى تنتشر: قاعات صغيرة، موائد متواضعة، وموسيقى خفيفة تغلبها ضحكة صادقة. صار «الزواج المعتدل» موضةً تُغالب الموضات، ليس لأن أحدًا فرضها، بل لأن قلوبًا تجرأت على القول: يكفينا من البهرج ما يستر الفرح، ومن الدين ما لا يكسر الظهر.
وهكذا، خرج خالد ونورة من التجربة أخفَّ دينًا وأثبت قلبًا، ليتحوّلا بهدوءٍ إلى سفيرين للبساطة؛ يعلمّان أن الحبّ لا يحتاج قاعةً عالية السقف، بل قلبين عاليين عن الصغائر.
العافية امونكه

اضغط لقراءة الحلقات1 و2

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى