مذكرات الفنان محمد الحسن ولد بخوصه (الجزء الخامس): التنقيب والانتقال.. من أكواب اللبن إلى صدمة اغتيال السادات

الزمان أنفو _ يستعيد الفنان الكبير محمد الحسن ولد بخوصه في هذا الجزء من مذكراته ذكريات الطفولة في حارة أهل محمد شداد، حيث كان جهاز تلفزيون أبيض وأسود يجمع أطفال الحي كل مساء حول سحر الشاشة القادمة من التلفزيون السنغالي قبل ظهور البث الموريتاني. كانت تلك اللحظات الأولى لاكتشاف العالم، بين مسلسلات الأطفال ونشرات الأخبار وبرامج الرياضة، في زمن كان البث المتقطع نفسه جزءًا من المتعة.
ثم ينتقل بنا الراوي إلى مغامرات الطفولة في جمع أكواب الزبادي البلاستيكية (ياوور) من مكبات النفايات، وبيعها مقابل أوقية واحدة، مصدرًا بسيطًا للفرح والسينما ودفء أحلام الصبا. يصف بخفة روح تلك الأيام حين أصبح “منقبًا محترفًا” يعرف مكبات الأثرياء جيدًا، يجمع منها ما يكفي لمتعة السينما ووجبات “السلام” الشهية.
لكن الطفولة لا تدوم، إذ ينتقل مع أسرته إلى حي جديد قرب الميناء و(الكبة)، حيث تتبدل ملامح الحياة وتشتد رقابة الأهل، خصوصًا بعد عودة شقيقه الأكبر. هناك سمع لأول مرة كلمة «اغتيال» عبر إذاعة “بي بي سي”، حين نُقل خبر مقتل الرئيس أنور السادات سنة 1981، لتبدأ مرحلة جديدة من الوعي والدهشة، وتظل تلك اللحظة عالقة في ذاكرته كعلامة فاصلة بين براءة الطفولة وبداية الوعي بالعالم.
أسلوب المذكرات يجمع بين دفء الحنين ودقة التفاصيل، ويمنح القارئ لوحة حية من نواكشوط الثمانينات، حيث الفقر والفرح والحلم كانت تسكن في بيت واحد.

نص الجزء الخامس : من حكاية حسني بوخوصة: التنقيب والإنتقال
كان منزل أهل محمد شداد رحمه الله (أهل دداه) كما كنا نطلق عليهم يتوسط الحارة من الناحية الغربية وكان في نظري من أهم المنازل فبعد صلاة المغرب كل يوم يجنمع صغار الحي أمام جهاز التلفزيون الصغير بالأبيض والأسود وهو الوحيد المتاح ولا أنسى حتى اللحظة تحلقنا حول تلك الشاشة الصغيرة العجيبة الساحرة، وقد كنت وصديقي حيموده من أكثر أطفال الحارة حضورا وانضباطا فكنا نحجز مواقعنا قبل الآخرين حتى نتأكد بأننا لن نفوت اي لحظة..
حينها طبعا لم يكن التلفزيون الموريتاني موجودا وكان التلفزيون السينغالي هو الوحيد المتوفر على شاشتنا الصغيرة الممتعة..
كنا نتابع البث من بدايته إلى نهايته ولا يبرح أحدنا موقعه إلا لخطب عظيم كحضور أمه أو أبيه لإرغامه على العودة للبيت..
نتابع كل شيئ .. مسلسلات الأطفال ونشرات الأخبار والبرامج الوثائقية وبرامج الحوارات والبرامج الرياضية.. كل شيئ .. كل شيئ كان فرجة .. كان متعة .. كان إدهاشا بالنسبة لنا .. حتى حين يتشوش البث وتتحول الشاشة إلى طنين يصم الآذان وشنشنة وذبذبة مؤذية للنظر تبقى عيوننا الصغيرة الناعسة تحدق وتبحلق بلا كلل آملين عودة البث واستمرار السهرة.
في صباح احد الأيام الضبابية الباردة انطلقت رفقة حيموده وآخرين للتنقيب عن اكواب اللبن (ابطط ياوور)
نعم أكواب الزبادي المصنوعة من لبلاستيك وكانت شهيرة في تلك الأيام ولا انسى رسمة البنت الصغيرة الجميلة المبتسمة التي تفرد جناحيها في الهواء على اغلفة تلك الأكواب وكم كانت تسرنا رؤية ابتسامتها بين أكوام النفايات لان ذلك يعني لنا الحصول على مبلغ اوقية حيث كنا نبيع كل كوب مقابل أوقية واحدة.
كان بعض التجار يعيد تعبئة تلك الأكواب باللبن لبيبيعها من جديد في المحلات والاسواق.
آاااه لقد انتهت مشاكلي المالية اخيرا وأصبحت تلك الأكواب الفارغة مصدرا دائما لجمع النقود وتوفير ثمن تذاكر السينما كل مساء.
كان المنقب الكسول يجمع ما بين العشرين إلى الثلاثين من الأكواب وفي الغالب سيحتاج إلى طلب تكملة ثمن التذكرة عند شبابيك بيع التذاكر عبر ما يعرف حينها لدى الأطفال ب (كومبلتيلي) ورغم شيوع وسهولة تلك الطريقة ورغم روح التكافل بين رواد السينما إلا انها طريقة غير مريحة ولا تضمن لصاحبها عدم تفويت بداية الفلم الأول من افلام (ماتيني)
أما أنا وحرصا مني على اكتمال المتعة ونوفر المزاج المناسب للمشاهدة فقد كنت اثابر في التنقيب كي أضمن الحصول على مبلغ مريح لدفع ثمن التذكرة والتمتع بما لذ وطاب من الوجبات الشهية الساخنة والحلويات اللذيذة التي كانت تعرض أمام سينما السلام.
أصبحت منقبا مخضرما وخبيرا في وقت وجيز فقد بت
اعرف مواقع المجاهر المهمة .. عفوا .. أقصد المكبات المهمة .. وكنت ابتعد عن الميناء باتجاه العاصمة فهناك توجد مكبات الأثرياء وغالبا ماتكون غنية باجود أنواع الأكواب لدرجة إنني امسيت أجني في بعض المرات ما يزيد على المائة والخمسين أوقية. .
مبلغ لا يستهان به حين تعلم بأن ثمن التذكرة كان 40 اوقية وثمن الخبزة 11 اوقية وثمن علبة الحليب (روز) 25 اوقية.
مرت شهور ممتعة في تلك الحارة الجميلة من عام1981 قبل أن انتقل مع الأهل إلى الحدود الغربية لحي الميناء حيث أجرنا بيتا في إحدى الحارات التي لا يفصلها عن الحي العشوائي الكبير المعروف ب (الكبة) ومحطة الباصات (الوقفة) سوى شارع واحد.
في تلك الحارة لم يطب لي المقام ولا اللعب وظل قلبي معلقا بحارة (كراج)
كانت رقابة الأهل قد تضاعفت ولم تعد (السيبة) سهلة كمت في السابق فقد عاد أخي الأكبر الدده تغمده الله بنعيمه من الداخل وكنت أخشى على نفسي من غضبه فقد كان يهتم كثيرا بدراستي ويحرص على استمرارها كل الحرص فأصبحت ملتزما منضبطا بيتوتيا إلى اقصى حد (العافية امونكه) .
في أحد الأيام في ذلك البيت تعالت أصوات النقاشات من صالون المنزل زوالا حيث تحلق إخوتي وبعض اصدقائهم وبعض الأقارب حول إذاعة البيبيسي التي كان أحد مقدميها يردد بين الفينة والفينة خبر اغتيال الرئيس المصري الراحل أنور السادات قبل ساعات من صباح ذلك اليوم الطويل الذي علق في ذاكرتي بشكل راسخ حيث كانت تلك أول مرة في حياتي اسمع فيها كلمة إغتيال..
وأول مرة اسمع فيها بالإسلاميين وأول مرة..
يتواصل..


