وضعية شريحة لمعلمين وعلاقتها بتنمية المجتمع الموريتاني

وضعية شريحة لمعلمين وعلاقتها بتنمية المجتمع الموريتانيإن الوضعية التي عانت منها شريحة لمعلمين لفترة طويلة من الزمن، والتي تسعى هذه الشريحة اليوم جاهدة إلى القضاء عليها و الوقوف في وجه إعادة إنتاجهما ، هي في جوهرها ظاهرة سوسيو ثقافية، ذات ابعاد مختلفة و تجليات  متعددة.

  و لاستبطان مختلف جوانب هذه الظاهرة ينبغي التمعن فيها على ضوء النسق المحلي الذي اكتنفها   مع ربط هذا النسق بالسياق التاريخي العام للمجتمعات البشرية على وجه العموم.   حيث أن من شأن ذلك أن يجعلنا ندرك أن كل المجتمعات  سواء في آسيا أوفي أوروبا او في إفريقيا، قد عرفت في مرحلة من مراحل سيرورتها التاريخية نمطا اقتصاديا إقطاعيا تميز بوجود تراتبية  اجتماعية هرمية صارمة.   بحيث يوجد على راس الهرم الذي أ فرزه ذلك النمط الاقتصادي طبقة نبلاء مهيمنة و في اسفله طبقات المزارعين و اصحاب الحرف اليدوية و الأرقاء.   وقد اتسمت المجتمعات الإفريقية بهذه البنية و بالعلاقات الاجتماعية  المترتبة عنها.   ومجتمعنا الموريتاني بمختلف مكوناته، ما هو إلا أحد هذه المجتمعات الأفريقية، ولهذا كان هو الاخر ذا بنية  هرمية  و ذا تراتبية  اجتماعية عمودية.   وهكذا إذا نحن أمعنا النظر في مختلف مكونات المجتمع الموريتاني، لاحظنا أن هندستها و تمفصل طبقاتها متشابهة إلى حد كبير، حيث يتربع على راس الهرم الاجتماعي  عند مكونة الهال بولارن، ما يعرف بطبقة الأحرار أو RIMBE و التي تضم فئتي المحاربين SEBE و المشتغلين بالشأن الديني أوTOROBE   . وتحت  هاتين الفئتين شرائح الصيادين SOUBALBE وأصحاب المهن اليدوية أو MABOUBE   ثم تأتي بعد ذلك فئة الحدادين  أوLAOUBE وفي اسفل الهرم توجد فئة الأرقاء MATIOUBE.   ويأتي على رأس السلم الاجتماعي  لدى الصوننكي طبقة الـ HORO المكونة من  رجال الدين أو  الـ MONO وفئة المحاربين أو TOUKANO وتأتي أسفل ذلك فئة الحدادين والدباغين أو NYAKHAMALAMOU وتأتي في أسفل السلم فئة الأرقاء أو الـ  KOMO.   أما عند الولوف فإنه يوجد على راس الهرم الاجتماعي ما يعرف بطبقة النبلاء أو الـGEER  وتأتي بعد ذلك طبقة الحرفيين أو NYENO ثم طبقة الأرقاء أو  DYAM.   ويقوم مجتمع البيظان هو الآخر على تراتبية هرمية يوجد على رأسها ما يعرف بالعرب يليهم الزوايا ثم يأتي بعد ذلك ما يسمى آزناكا واللحمة  و إكاون  و المعلمين و الحراطين . و في اسفل الهرم توجد فئة الأرقاء.   وقد تم تحديد و توزيع المهام و الوظائف الاقتصادية و الاجتماعية بين مختلف فئات المجتمع  وفق ميزان قوى معين، أملاه  منطق الغلبة  و السيطرة ، إما بقوة السلاح أو من خلال النفوذ الديني  و التأئير الروحي.   و بالنتيجة استبدت فئة العرب بالدور العسكري ، فيما احتكرت فئة الزوايا السلطة الدينية. و أنيطت  المهام الأخرى بالفئات الاجتماعية المتبقية  وفق المصالح الاقتصادية  و الاجتماعية للطبقات المتنفذة.   فكانت فئتا آزناكا و اللحمة تضطلعان برعي المواشي من بين مهام أخرى ، و كانت فئة الحراطين تعنى في الغالب بالأعمال اليدوية و حرث الأرض و حفر الآباروغير ذلك.   وأختصت مجموعات إيكاون بالغناء و إطراء و إطراب الطبقات  المتنفذة. و تولى ما قد عرف بشريحة “لمعلمين” صناعة المعدات و الأواني من النحاس و الحديد و الخشب  و الجلود فضلا عن صوغ مختلف انواع الحلي من النحاس و الفضة و الذهب و غير ذلك من المعادن النفيسة و الأحجار الكريمة.   و كانت الطبقات المسيطرة  تبذل قصارى جهدها  و تستعمل كل نفوذها  ووسائلها العسكرية و الروحية من أجل إعادة إنتاج النظام السائد و تابيده من خلال بلورة منظومة قيم إيديولوجية تمجد النظام الاجتماعي السائد و تقدمه على أنه مطابق لنواميس الطبيعة الأزلية.   وتتضمن المنظومة القيمية التي كانت سائدة  في مجتمع البيظان الماقبل حداثي احتقار العمل اليدوي وازدراء كل من يمارسه و يعتاش عليه.   و لعل الشريحة الاجتماعية التي عانت أكثرمن غيرها من المهانة و الدونية  بسبب امتهانها للعمل اليدوي هي ما عرف بشريحة “لمعلمين”.   وهذه لعمري وضعية مفارقة بكل المقاييس. ذلك أن افراد هذه الشريحة ، ذكورا و إناثا ، هم من استطاعوا بحذقهم  و مهاراتهم و ذكائهم و عبقريتهم  صنع كل ما يحتاجه مجتمعهم من أواني وأوعية و آلات  و معدات و تجهيزات ، لولاها لكانت حياة المجتمع  حياة بدائية محضة.   ناهيك  عما أوجدته ابتكاراتهم و ابداعاتهم من حلي  ووسائل زينة شكلت مقومات الجمال وتجليات الفنون  و مظاهر الحضارة المميزة للمجتمع البيظاني.   و لم يتوقفوا عند هذا الحد، بل كانوا يقومون بصنع الأسلحة البيضاء و إصلاح الأسلحة النارية المتوفرة وقتئذ و إنتاج قطع غيارها و الذخيرة الضرورية لها بحذق و اقتدار. فمكنوا بذلك مجتمعهم من امتلاك الأسلحة الضرورية للدفاع عن سلامته و أمنه ضد الغزاة الأجانب.   و مكنوه كذلك من تجهيز خيله و جماله بالسروج و الرواحل و التيسوفرن”  و “ظبايا” و ” الكونتيات” .. وغير ذلك إضافة إلى الأفرشة و الأغطية الجلدية و سواها من صنوف المعدات و الاليات الضرورية للحياة اليومية.   و بالإضافة إلى ما تميز به اعضاء هذه الشريحة  عبر الأزمان  من براعة  يدوية  ممتازة وحس فني  مرهف وذوق رفيع أكيد، فإنه ايضا كان من بينهم شعراء  و فقهاء و علماء لايقلون أهمية وتمكنا عن غيرهم.   وهذا ما قد حاول البعض ، لحاجة في نفس يعقوب ، نكرانه و التعتيم عليه من خلال العبارات الجوفاء و الأحكام المسبقة الواهية و المقولات الخرقاء التي لا تستند إلى مسوغات عقلية او أدلة علمية . و انما تنم عن جهل مطبق و قصور تام و عدم نزاهة فكرية  واضحة.   و في المجتمع الموريتاني الحديث حيث ذابت  الفوارق الاجتماعية إلى حد كبير و تراجع الجهل بدرجة معتبرة ، و نما الشعور بالمساواة  بين الناس ، و انتشرت ثقافة المواطنة ، وفتح العديد من الفرص الجديدة  للارتقاء أمام المتحدرين من مختلف الطبقات الاجتماعية التي كانت تعاني من الدونية و التهميش، في هكذا مجتمع ، أثبت اعضاء  شريحة لمعلمين ليس فقط نديتهم لغيرهم من ابناء الشرائح الأخرى ، بل اظهروا بما لا يدع مجالا للشك  تفوقهم و نبوغهم في مختلف العلوم و المعارف.   فأعطوا للبلاد كما وافرا من الإطارات المتميزة في مختلف الاختصاصات ، كالعلوم و الرياضيات  و الهندسة و القانون و الاقتصاد و الآداب و غيرها.   ورغم كل هذا فإنه مازال هناك لدى البعض، من الذين قعدت بهم مستوياتهم العلمية و ضيق آفاقهم  الفكرية  ، عن مواكبة الحداثة و مجارات العقلانية ، اقول مازال مترسبا في أذهان هؤلاء الناس أن افراد هذه الشريحة غير مهيئين أو غير صالحين أصلا لاحتلال الصدارة و تبوء الريادة  في مجتمعنا.   و هذا طبعا اعتقاد خاطئ  و فهم قاصر لا يستسيغه العقل  و لا يقبله المنطق.   و ما تجدر الإشارة إليه في هذا المضمار، هو أن لفظة ” لمعلم” التي كان يتحرج منها البعض في مجتمعنا هي في مجتمعات أخرى عنوان للتمكن الحرفي و رسوخ القدم المهني و الكفاءة العالية و المهارة الفائقة.   ففي كل البلدان العربية دون استثناء ، فإن لفظة ” المعلم” تعني  الشخص المتمكن  المؤطر و الملهم و القدوة و المرجعية في مجال مهني او حرفي او فني معين.   فعندما يقال في بلدان المشرق العربي :” يا معلمي” فإن ذلك يعني : ” يا أستاذي ، يا سيدي ، يا قدوتي ، يا ملهمي و أشياء من هذا القبيل . فهي كلمة إطراء و تمجيد و تقدير و اعتبار.   وفي المجتمعات الغربية تحيل لفظة  maitre الفرنسية و master الأنجليزية إلى الشخص المقتدر الفذ  و المبدع العبقري ، في مجال من مجالات الفنون أو الصناعات اليدوية أو التشكيلية او المعمارية وغير ذلك من جوانب التراث البشري الذي  يجسد مختلف تجليات المدنية و الحضارة.   كما أن كلمتي ”  doigté ” و “ savoir-faire” الفرنسيتين ، تشيران إلى الحذق و الإتقان و دقة الإنجاز.   و يشار بلفظة “industrious   الأنجليزية  الى الإنسان المتوفر على مواهب و موارد عقلية  و مهارات يدوية وقدرات إبداعية مرموقة.   و بالمقابل تعني كلمة” الخراقة ” بالعربية : انتفاء و غياب أدنى قدرة على انجاز أو صنع أي شيء كائنا ما كان ، أي أنها تعني القصور و التبلد و الغباء.   وإن دل كل هذا على شيء فإنما يدل على أن هذه الشريحة التي تعرف  بالمعلمين تتكون من أناس حباهم الله بمهارات فائقة و قدرات كبيرة على الإبداع و الإنجاز و الابتكار يصاحبها في الغالب  حس جمالي مرهف و ذوق سليم ، هذبته و شحذته ممارسة طويلة و تجربة عميقة ، و بالتالي فلهم أن يفخروا بهذه الصفات وتلك الخصائص المميزة.   و لا بد في هذا السياق من الإشارة إلى أن لهذه الشريحة ، و لها وحدها يرجع الفضل  في بلورة و تطوير  و صيانة جانب كبير من تراثنا الخاص  و فنوننا المتفردة ، التي تجسد غيريتنا و هويتنا الثقافية و الحضارية الخاصة بنا.   وعليه فإنه بات من العدل و الإنصاف أن يعترف الجميع بالدور الكبير الذي لعبته هذه الشريحة في مجال التنمية الاقتصادية و الاجتماعية لمكونة البيظان في المجتمع الموريتاني ، و في مجال بلورة صناعته التقليدية ، و فنونه الجميلة ، و تراثه الخاص، الذي قد شكل أهم مقومات هويته و خصوصيته الحضارية.   ولقد أضحى من الملح، تضافر جهود جميع الفاعلين و المهتمين بالشأن العام ، من أجل العمل على إعطاء هذه الشريحة عناية أكبر، و تقديم دعم أوفر لها ، بغية تأهيلها على الوجه الأكمل ، و دمجها في الاقتصاد الوطني على النحو المطلوب.   و هذا بالذات هو ما بدأ نشطاء هذه الشريحة  الاجتماعية  الموريتانية ، يجذبون الانتباه إليه و يلتمسون إيلاءه التفهم و الدعم و الإسناد ، وذلك من خلال مطالبهم  و عرائضهم المختلفة.   و التي كان من أهمها و أشملها و أكثرها جدية ومنهجية و مسؤولية ” وثيقة المعلمين” التي تمت صياغتها خلال شهر يوليو المنصرم.   ولا شك أن الإسراع بالنهوض  بوضعية  فئة لمعلمين، و تمكينها من الإسهام الفعال  في عملية التنمية الوطنية ، قد أضحى لازما و ضروريا و ملحا. و من ثم فإن على كل الفاعلين السياسيين و النشطاء الجمعويين، وقادة الرأي و حملة الهم العام و صناع القرار، صرف عنايتهم الكاملة لهذه القضية الوطنية الهامة.   بيد أن السبيل الأنجع الذي ينبغي لنشطاء هذه الشريحة انتهاجه في طرح قضيتهم ، هو سبيل الاعتدال  و الواقعية و التحلي بروح المسؤولية و العمل بالطرق الرصينة على استدراج جميع النوايا الحسنة ، لتبني اهتماماتهم عن طريق التحسيس الهادئ المتزن  ، و مخاطبة الضمائرالحية و العقول المستنيرة بما يلزم من تبصر و حكمة  مع الحرص الكامل على تجنب العنف الفظي  و التجريح المؤذي و الإطناب في توجيه اللوم المفرط و الاتهامات الغير مبررة إلى شرائح أو فئات  اجتماعية برمتها، دون أي تمييز ولا استثناء.   لأن في ذلك ظلم لهذه الفئات و تجن عليها و زج بها في خانة واحدة ، وإحراق أخضرها بيابسها  . الشيء الذي قد يؤدي في نهاية المطاف إلى ردة فعل سلبية  و خلق توترو امتعاض و نفور لدى الفئات المستهدفة لا يخدم  قضية شريحة المعلمين المحتاجة إلى تعاطف واسع ، كما أن ذلك لا يساهم في توطيد التفاهم  و الوئام  و السلم الاجتماعي الضروري  للعمل المشترك البنا ء الذي يجب أن ينشده الجميع.   و الواقع أن قضية شريحة المعلمين ليست قضية شريحة بعينها بقدرما هي قضية الشعب الموريتاني بكامله. كما أن هموم نشاطاء هذه الشريحة ينبغي أن يتقاسمها معهم جميع حملة الشأن العام بصرف النظرعن  أطيافهم ومشاربهم و توجهاتهم. فالمصلحة العليا للبلاد تكمن في ذلك. وهو ما يجب على الجميع إدراكه و تدبره ووضعه في الحسبان.   نواكشوط  2014 محمد الأمين ولد الكتاب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى