كتاب يجمعهم حب الصحفي الراحل باهي -2-

 بقلم طلال سلمان 

  مصر اليوم - في ذكرى رحيل الباهي محمد المدافع عن قضايانا حتى الرمق الأخيرالزمان – هي الذكرى السنوية لغياب المناضل الكبير والصديق الصدوق والكاتب المميز الباهي محمد الذي أضاف إلى الصحافة العربية عموماً والمغربية خصوصاً إضافات جدية نتيجة ثقافته العميقة والشاملة.  ولسوف تحيي حلقة أصدقاء الباهي محمد اليوم، الثالث من حزيران 2016، الذكرى العشرين لرحيل هذا المبدع واسع الثقافة، شامل المعرفة، الذي طالما أسهم نضالاً وكتابة، في العديد من المطبوعات العربية، بينها «السفير» الذي قدم لها صفحات مضيئة فكرياً وثقافياً وفي مختلف مجالات المعرفة والسياسة.

هنا جانب من كلمة رئيس تحرير «السفير» طلال سلمان في تحية الصديق ـ الزميل الذي لا يُنسى: الباهي محمد. أيها الإخوة برغم البعد، شركاء المصير بقربى الهوية والتاريخ.  شغلني واجب استضافة «الباهي» في بيروت عن مشاركتكم الاحتفاء به في الرباط، كما شغل غيرنا بذكراه في الجزائر ودمشق وبغداد، بينما يجول طيفه على مقاهي باريس، ويتجول بين المكتبات وأنفاق المترو فيها، حاملاً تلك الأكياس التي قد تجد فيها آخر ما كتب الفلاسفة وآخر ما أبدع الشعراء، لكي يطمئن إلى أن أحداً منهم لم يتفوّق على شاعره المتنبي.  إن ظله يحلق الآن في فضاءات هذا الوطن الكبير، يحاول أن ينفي أسطورة موته، ويحاول أن يعوضنا العشرين سنة التي سقطت من أعمارنا منذ أن غادرنا الباهي محمد، في السياسة كما في الإبداع الأدبي والخزين الثقافي، شعراً ونثراً، غناء وموسيقى، تراثاً وتجديداً وإبداعاً خلاقاً ساهم به في صياغة الغد، لكي يردعنا فيمنعنا من إضاعته.  أيّها الصديق الذي تكاد تختزل أجمل ما في الحياة: الفوضى.  نكاد أن نكون الآن بلا دليل: فمَن يعرِّف المشارقة على مغربك الممتدّ بالعــروبة إلى أوروبا عبر أندلسكم فيها، وإلى أفريقيا متجاوزاً نهر الســـنغال الذي طالما غسلت بمائه يديك قبل أن تداعب الأفــيال، فتقدّم لك واحداً منها لإكمال رحلتك التي لا تنتــهي. ثم مَن يعرّف المغاربة على مشرقنا الغارق في دماء أبنائه، وقد أزال الاستعمار الجديد، مستعيناً بالأنظمة الفاشلة، الحدود التي كان زرعها الاستعمار القديم، مستولداً الفوضى الدموية لاغية دول «سايكس ـ بيكو» ممكّناً لدولة «وعد بلفور» في أرضنا، بل على امتداد أرضنا انطلاقاً من فلسطين التي خسرنا هويتنا مرتين عندما خسرناها: الأولى بعجزنا عن صد الاجتياح الأممي بأسطورة اضطهاد اليهود في الغرب، والثانية بفشلنا في حفظ وحدتنا وتبعثرنا بين المعسكرين نطلب النجدة ممن تسبّب في النكبة، ثم برجاء أن يجيء الاستعمار الجديد ليحررنا من خيبتنا. أيها الصديق الذي ربما دفعته الرغبة بالمعرفة إلى استكشاف العالم الآخر: لقد عرفت أسرتك الكريمة حين جاءت بيروت، بعد رحيلك، فتحققتْ من أنك كنت فيها اسم علم تحفظه النخبة من أهل الفكر القومي والمثقفين عموماً، تماماً كما في دمشق التي عرفتها فأحببتها من خلف ظهر نظامها، في حين حرم النظام في بغداد التي عشق ليلها المندّى بمسرى دجلة من أن يعرفها فاعتصم بتاريخها، وكان بصحبة المتنبي بين العاصمتين، حتى إذا انتهى إلى حلب خلاه وحيداً منصرفاً إلى عشقه في ظلال سيف الدولة.  أيها المفرد في دنيانا التي ألغت أنظمتها الشعوب فيها ليحتكرها صاحب السلطان معززاً بالعسس والنمامين، كارهي الفكر والمفكرين، والذين لا يعرفون من فنون الكتابة إلا تدبيج التقارير. ولقد حققوا ودققوا ونقبوا وأرهبوا كثيرين حتى ضاعت وقائع اغتيال البطل الشهيد المهدي بن بركه بين الجناة المتّهمين والمتّهمين الجناة، وكان في بيروت مَن يعرف كثيراً لكنه يخاف الأشباح، فطوى صدره على ما يعرف وانطوى على نفسه، يمضغ خوفه مع الحقيقة التي صارت جريمة أعظم من الاغتيال.  أيها الشهيد المنكورة عليه شهادته: اغفر لي تدخلي في أمر عودتك إلى المغرب، وكنت مضطرباً مشدوداً إلى حقيقتين أحلاهما مُرّة: لقد أخرجتني من مكتب «السفير» في باريس إلى خيمة القلق التي كنت تمضي أيامك مسهداً فيها… وسألتني بلهجة ينضح فيها الوجع: ـ إنهم يريدونني أن أعود إلى المغرب. وأنا في حيرة تبلبل أفكاري: أشتاق العودة كطفل يسمع، على البعد، نداء أمه فينخلع قلبه وجداً.  ثم التفت إلى وضعي وأسرتي هنا في باريس، حيث أوفر لها الحد الأدنى من الأمان في قلب القلق، فأخاف عليها من قراري. إننا معلّقون بين غربتين، لكن أسرتي، وأطفالي على وجه الخصوص، قد ألفوا المكان بالمدرسة، وبعض رفاقهم فيها، كما أن زوجتي تعرف أين تطلبني ولها معارف وصداقات تحيط بها فتشعر بقدر من الأمان. أما في المغرب فسيكون عليّ أن أبدأ حياتي من جديد. وإذا كان هذا سهلاً على من عاش حياة من الصعلكة مثلي، فلا أظن أنه سيكون بالسهولة ذاتها على زوجتي والأطفال.  حدّقت في عينيه فلمحت الدموع تتجمّع في مآقيهما وشغلني منظره الجديد، الباهر والمختلف عما عرفته من الباهي وقدراته الخارقة في الصمود للصعب. قال من قلب صمته:  ـ الخيار صعب. إنه كأن تقرر فتختار موتك: رمياً بالرصاص أو سجناً في زنزانة تحت الأرض حتى يأخذك الصمت إلى العدم! قلت محاولاً توسيع إطار النقاش وإشغاله بما يخرجه من دوامة الحزن: ـ فماذا يقول «الفقيه» محمد البصري؟ ردّ من دون أن ينظر إلي: ـ إنه قلق مثلي، ولكنه حسم أمره وقرّر أن يعود.. ويريدني أن أكون معه في القرار وفي المغرب.  دهمني شيء من الارتياح: أفترض أن هذا الصديق الصدوق لن يتخذ مثل هذا القرار المصيري إلا بعد تفكير طويل، وتدقيق في المعطيات السياسية وضمانات الأمن والأمان. لن تترك الفقيه يعود وحيداً.  قال بحسرة: أتعرف معنى القرار؟ إننا نعود لنموت في المغرب.  بقي السهوم يغطي وجه الباهي، وإنْ أخذ يهزّ رأسه بالموافقة قبل أن يقول: أتعرف ما خطورة أن تلغي حياة بكل تفاصيلها، في المكان والزمان والعادات والطقوس، الأصدقاء والصديقات، الطرق التي تعرفها، فوق الأرض وتحت الأرض، وأن تبدأ حياة جديدة، مع أهل يعرفونك أكثر مما تعرفهم، ويحبونك كثيراً ويتوقعون منك فوق ما تطيق.  قلت مشجعاً: هذا شرف عظيم.  ردّ بسرعة: ولكنه عبء ثقيل. من قال إني استطيع أن أقدم هناك ما أقدّمه هنا، حيث الفضاء مفتوح، وحيث لا مواعيد تحدّ من حركتي، ولا لقاءات إلا مع من اختار وأحب، إنما نعود لنموت في المغرب.  قلت: ولكننا نموت في منافينا ألف مرة كل يوم. ونموت بلا مشيّعين. إلى متى سنظل نسافر بين الموتَيْن ولا نعثر على حياتنا؟ ران الصمت قليلاً، قبل أن يضيف فيقول: لعلك لا تعرف أنهم في البلاد المتحضرة لا يريدون منك الصمت. قل ما تشاء، عنهم وعن الأنظمة الأخرى، ولكن بشرط وحيد: ألا تعكّر عليهم صفو حياتهم. لا يهمهم مَن أنت وماذا تفعل. المهم ألا يطالهم الأذى من وجودك. وحكوماتنا تصورنا لهم أننا مجاميع من المتآمرين الخطرين، وربما أضافت إلى سجلاتنا تهماً جنائية. قلت: لنجلس معاً إلى الفقيه البصري فندقق معه التفاصيل.  ارتاح قليلاً فاستذكر صديقه المتنبي وانطلق بقصيدة له يعاتب فيها سيف الدولة، لأنه حكم عليه بما سمعه عنه وليس بما يمكن أن يسمعه منه.  صمت فجأة، ثم انفجر ضاحكاً وهو يقول: إلى متى سنظل نسافر بين الموتين ولا نعثر على حياتنا؟ ربما تكون حياتنا بعد الموت، بل بعد الموتين.  تطل عبر عيني الصقر ابتسامة يمازج فيها المرح المكر، وتندفع الأسنان الغليظة إلى خارج الوجه لتشهد على الالتباس، في حين تظلل السويداء القلب والأوردة: – أولاد الزانية! إنهم لا يقبلوننا إلا حطاماً! يلتفت متفحصاً الوجوه من حوله فإذا اطمأن أطلق الزخة الثانية من الرصاص:  ـ نفهم أن يطاردنا عسسهم. نفهم أن يخافونا فيأمروا بالسجن أو بالمنع من السفر أو بنفينا، ولكن لماذا يصرون على إجبارنا على احتقار أنفسنا؟ لماذا يريدون من كل منا إن يطحن الآخرين ويذهب إليهم ليمنحوه شهادة حسن السلوك؟! يقتحم «المتنبي» الجلسة فيتصدّرنا، ونحلّق مع شعره المتدفق غضباً وإحباطاً يأخذه إلى «الحكمة». لَكَم يتشابهان: كلاهما عاش فوق السلّم المتحرك بين القمة المحظورة للأقوى والقاع المهجور للخائبة جهودهم.  لقد عاش الباهي ردحاً من الزمن في جزائر هواري بومدين وبالتحديد حين كان يهيئ لولادة جبهة «البوليساريو» وجمهورية الصحراء ومن خلالها فتح ملف الخلافات والثأر مع العرش المغربي. وراح رجال الأمن العسكري الجزائري في ذلك الوقت يبحثون عن رجل من الصحراء يشارك بومدين نقمته على العرش المغربي، ليتولى زعامة جمهورية الصحراء وجبهة «البوليساريو». ويبدو أن ثمة من نصح بجس نبض الباهي. فدُعي إلى لقاء خاص ومطوّل مع هواري بومدين، وبعد اللقاء جاء إلى رفاقه في فندق متواضع في شارع الشريف ذبيح، فأعلن لهم أنه راحل.  ورحل الباهي في اليوم التالي إلى باريس وكتب رسالته الشهيرة الى بومدين: «اذهب أنت وربك فقاتلا»… ولم يدخل الجزائر إلا بعد وفاة بومدين. فالباهي كان معارضاً لانفصال موريتانيا عن المغرب فكيف يقبل باستقلال الساقية الحمراء ووادي الذهب، وهو الذي حمل السلاح هناك ضد الاستعمار من أجل أن يكون مغربياً؟  هذا المقاتل في الجزائر مع ثوارها والمسجون فيها من بعد، مع ثوارها، وعلى يد ثوارها، هذا المطارد في بغداد، وفي دمشق، والمسجون فيهما عندما صار الحزب الواحد حزبين بل أحزاباً، والمطرود إلى ليبيا ومنها، والى تونس ومنها، وأخيراً طارد نفسه من فرنسا.  العائد إلى المغرب، أخيراً، متخلياً عن تاريخه لكي تعرف ابنتاه أن لهما وطناً، وأن لهما حقاً فيه، هو هو الذي فقد فيه، فور وصوله، إحدى الابنتين ونصف العمر ومعظم الرجاء.  الباهي محمد يضحك الآن ساخراً من هذه الكلمات، الباهي محمد الذي أعطى ما يملك للجميع من دون حساب، مات غريباً، لا يعرفه الناس في بلاده.  ومعروف أن الجزائريين قد استقبلوا، ذات مرة، الباهي محمد، وهو على الدبابة نفسها التي قادت هواري بومدين نفسه من تلمسان إلى العاصمة، أما أبناء المملكة فإنهم كانوا يعرفون أخباراً متقطعة عنه، فتارة يُمنع من دخول المغرب فتختفي أخباره ثم يُسمح له بالعودة فتملأ مقالاته صحيفة «الاتحاد الاشتراكي» أو يتكئ على عقوده الخمسة وصحته البدينة على وهن ويساهم في التعبئة للانتخابات او في التعبئة ضد الانتخابات.  لنستذكر هنا صديقاً كبيراً للباهي ولي، ولكثير من المناضلين العرب، ولأكثر الذين ثقفهم عبد الرحمن منيف ببعض بلادهم وشؤون حياتهم، قبل أن يغيب هو الآخر، لنغرق في فراغ الغياب.. لنستذكره يقول:  «لقد أكدت للباهي مرات لا حصر لها ضرورة أن يكتب شهادته، فقد عاصر أحداثاً مهمة، وكان مطلعاً على وقائع لا يعرفها إلا القليلون. كما كنت راغباً في أن يحاول امتحان قدرته على كتابة الرواية، وفي الأمرين، وبرغم الموافقة على أن يفعل، إلا أن انتظاره للزمن «الباهي» كان يدفعه إلى التأجيل باستمرار. وفي النهاية حمل الكثير من الأسرار والأشواق ومضى. قد كتب كثيراً لكنه كان يملك أكثر ليكتبه، ليقوله، كي يبقي للأجيال القادمة، لكنه أبقاه في صدره.. ثم مضى».  إن حياة الباهي بمقدار ما تتعلق به شخصياً، فقد كانت مرآة جيل بأسره. وبقدر ما يشكل غيابه خسارة، فإنه يعكس المرارة التي اجتاحت هذا الجيل، والخيبة التي طحنته. وإن كانت عناصر وقوى وأسباب كثيرة تضافرت في الوصول إلى هذه النتائج، فإن الجيل نفسه، ربما، يتحمّل النصيب الأكبر من المسؤولية، لأن أحلامه كانت أكبر من طاقاته، ورغباته أوسع من إرادته، وبالتالي فإن الشعور لدى هذا الجيل بالمرارة أعنف وأشدّ من أجيال أخرى، وخيبته تبدو تراجيدية لأنها مرآة لجيل ولحقبة تاريخية كانت تَعد بالكثير، ومرثاة للحياة كلها.  أيها الصديق الذي تكاد تختزل أجمل ما في الحياة: الفوضى لطالما قصدت باريس شوقاً إليك فيها وتعرفاً إليها فيك. كنت أرى فيك الوطن العربي جميعاً من اليمن الجاري اغتياله إلى موريتانيا التائهة عن أهلها… بل إنني كنت أتعرّف على هذا الوطن عبرك: من عراق ما قبل صدام إلى سوريا ما قبل الأسد، ومن مصر ما قبل السادات إلى الجزائر ما قبل بومدين، ومن مغرب محمد الخامس إلى الإخوة شركاء المصير في أفريقيا بعنوان السنغال ونهرها. بل لعلك كنت بذاكرتك المبهرة تجادلني حول أوضـــاع لبنان ومواقع الطوائف في نظامه السياسي، وتطلب إلي التسليم بالنظام العشوائي والظالم فيه لأنه أفضل أو أقل سوءاً من سائر الأنظمة العربية: جُل ببصرك مِن حولك ثم اشكر القدر على نعمته!

 

العنوان الأصلي : في ذكرى رحيل الباهي محمد المدافع عن قضايانا حتى الرمق الأخير 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى