تبيض الفساد و جمهورية عزيز وحوار العسكر؟!

لقد عاشت بلادي بلاد السيبة والمنكب البرزخي وصحراء الملثمين وبلاد تكرور وأرض شنقيط وموريتانيا، تاريخًا حافلًا بالحروب والصراعات والأزمات والدماء والكوارث، بدءًا من حروب القبائل والفئات وإلى حرب المقاومة والتحرير من المستعمر الفرنسي، وتداعى الأزمات العنصرية وحروبها الدامية 

1967م وحرب الصحراء وأحداث 1989م، ولا تزال البلاد وحتى اليوم تقاتل المظاهر المتطرفة وتبعات الأحداث العنصرية، والجماعات التي خلقت منها سياسة دولة العسكر أعداء لها على تخوم الحدود الشرقية، وجميع هذه الأحداث والاضطرابات السياسية هي التي ساهمت في تشكيل هذا النظام السياسي الأحادي المضطرب والمأزوم دائماً والمتأزم بنية وممارسة، والفاسد اقتصادا وإدارة والفاشل تنمية والكاسد تعليما وخدمة للوطن والمواطن ؟! فهي الأحداث والكوارث التي تحكمت في  تشكل رؤية النظام السياسي نحو القضايا المحلية والخارجية الإقليمية والدولية الأمر الذي جعل النظام السياسي في تاريخ البلد منذ سيطرة العسكر يحوم  حوله غموض كبير حول طبيعته وقدرته على العطاء والبناء، وفي حقيقة وطريقة اشتغاله بتحديد،خيارات البلد الإستراتجية ومساراته السياسية والتنموية، وحتى تنظيم علاقات فاعلة وإيجابية بين مكوناته الوطنية، وصياغة سياسات تنموية تستجيب لتطلعات كل أفراد مكوناته السياسية والأيدلوجية المجتمعية في الرقي والرفاهة ؟! والسؤال الجدي والسياسي والحيوي في هذه التحليلات السياسية لواقع البلد، ما حقيقة وحال الدولة في ظل هيمنة العسكر: وما طبيعة النظام السياسي الموريتاني إذن؟ والجواب أن النظام الرئاسي هو النظام السياسي الذي يقره الدستور الموريتاني، حيث يحتل رئيس الجمهورية هرم السلطة التنفيذية، ويمنحه الدستور صلاحيات ملكية ورئاسية واسعة لا حدود لها ولا شريك لها في شأن السياسة والإدارة، الأمر الذي جعلها تمثل كل السلطات وتجسد ثقل مركز النظام السياسي في الجمهورية، وقد نص الدستور المنجز عسكريا على التعددية السياسية والمؤسسة البرلمانية صوريا وشكلياً، لكن الفعل الحاسم يبقى فيما يخص العلاقة بين المؤسسة التنفيذية والمؤسسة التشريعية للرئيس وحده وللمؤسسة العسكرية من بعده وهي التي تبقى في النهاية المؤسسات البرلمانية والقضائية مجرد نياشين معسكرة على صدور النافذين من  الضباط  الكبار!!. فالناظر دستوريا إلى نظامنا السياسي فإنه يبدو له، وعلى الرغم من الصورة الرئاسية يظهر وكأنه ديمقراطيً، لكن الواقع والممارسة والتطبيق كل ذلك واقعيا يخالف نمط وطبيعة النظام الديمقراطي والحياة الديمقراطية، حيث أنه لا تزال مؤسسة الرئاسة في جانبها المدني لا تتمتع بتلك القوة التي يخولها لها الدستور أمام مؤسسة الجيش النافذة الفاعلة في الحياة والمتحكمة في مفاصل مؤسسات الدولة والمجتمع، والأحزاب المزعوم لها أنها أغلبية مغلوبة على أمرها، وحزبها النافذ في المحسوبية والقبلية والقائد الفاقد للحكم الحاقد على المعارضة يزعم أنه الحاكم صورياً لا عملياً وهو كذلك بهذه الصورة منذ الانقلاب المشئوم العسكري الأول، والمختلف الوحيد هو التسمية والمسمى  وبعض الشخوص من هياكل تهذيب الجماهير مرورا بالحزب الجمهوري إلى الاتحاد من أجل الجمهورية ؟! والنظام الحاكم العسكري حقيقة والمدني ظاهراً بممارسته وفساده هو ألمعيدي الذي يقال بكامل عدته وعتاده، فساداً في الطبيعة والتصور والممارسة يتجلى ذلك في:- الرشوة  – إقصاء الكفاءات المؤهلة – المحسوبية- التكسب من وراء الوظيفة العامة- المحاباة- استغلال الممتلكات العامة- الواسطة على حساب الغير- إساءة استخدام السلطة  الرسمية- استغلال النفوذ- عدم المحافظة على أوقات الدوام الرسمي- الاستيلاء على المال العام- الابتزاز- وضع الشخص المناسب في غير المكان المناسب- التهاون في تطبيق الأنظمة والتشريعات أو تطبيقها على البعض دون الآخر. والبائس الوحيد المصاب بفقدان المناعة وسوء التغذية وتحجر السوائل هو الممارسات الديمقراطية و حرية التعبير والعدالة الاجتماعية ومن ثم علاقة الدولة بالمواطن، وولاء الموطن لوطنه الجريح الذي لا يجد فيه في الغالب إلا التميز والتهميش، وكساد تعليمه وضياع صحته، وحرمان غالبية مواطنيه من المصنفين بالمعارضة من كل وظائف الدولة، وحتى محيطهم الاجتماعي والجغرافي من كل الخدمات البائسة التي ما زالت تقدمها بعض مؤسسات الدولة وتلك اللصيقة بها من منظمات إقليمية ودولية!! إن كل ذلك الفساد والفصام النكد الحاصل بين الدستور وثيقة الحكم والواقع السياسي والعملي لمؤسسات الدولة، هو الذي جعل بعض السياسيين والمراقبين من المواطنين  يرون أن النظام السياسي الموريتاني  يظهر ديمقراطيًا بنيويًا، حيث يتوفر فيه قدرٌ من الخصائص الديمقراطية، بيد أنه ليس كذلك وظيفيا وعملياً، وبالتالي فإن مسؤولية إصلاحه وترسيخ الديمقراطية فيه تطبيقاً وممارسة تعود بالأساس لإرادة الفاعلين السياسيين موالاة ومعارضة وممارساتهم العملية، ، وليس لبنية النظام السياسي من الناحية الدستورية الصرفة والنظريات التشريعية القانونية؟. المؤسسة العسكرية والديمقراطية والعلاقة  بالنظام السياسي الموريتاني: لا يقدم الدستور الموريتاني في مضمونه 2ض أي دور سياسي للجيش بشكل ظاهري على الأقل، لكن الواضع لبنوده ونصوصه يبدوا أنه راعى وبشكل جدي وعملي أن البلد واقع تحت حكم عسكري لا يفقه في السياسة ولا يقبل الشركة والقسمة، منذ انقلاب الهزيمة في حرب الصحراء وطمع القوميين والكادحين في السلطة 1989م. وإلى يوم انفجار فضائح الفساد في نظام السيد الرئيس محمد ولد عبد العزيز؟! الأمر الواضح والبين أن لقادة المؤسسة العسكرية الموقع الفاعل والدور البارز في تدبير شأن البلد من حيث الحضور والفاعلية في مؤسساته والتعين في كل وظائفه الإدارية  للأبناء والأحفاد والأقرباء والحاشية، ونهب المستمر للموارد والاحتواء على المساحات الشاسعة من شواطئه والقطع الأرضية المهمة في مدنه، وجميع المنافع والخدمات والتسهيلات التي تقدمها مؤسسات الدولة وتلك اللصيقة بها من منظمات إقليمية ودولية؟ نعم لقد اختفت شيئا ما القبضة العسكرية الظاهرة على عموم مؤسسات الدولة المدنية مقارنة بما كانت في العقدين الماضين، إلا أنه لا يزال لضباط  للجيش التأثير الأكبر والقوي على مصدر القرار، وبواسطة استخباراته ومعلوماته وإمكانياته وتنظيمه المحكم الصارم وقوته الرادعة والتي لا يستطيع فرد ولا مؤسسة في المجتمع والدولة مقاومتها؟! ويظهر جليا ذلك الحضور والفعل في الشأن السياسي، في انخراط  العدد الكبير من القيادات العسكرية لوحدات الجيش في حزب الدولة وأنشطة مؤسساتها السياسية، وهو ما يشوه النظرة الوطنية للمؤسسة العسكرية، ويضعها عند أغلب المواطنين في خانة الحزبية ومن ثم الولاء والمعارضة، ويبعد العسكر في جملته عن مهامه الاحترافية، بالإضافة إلى سطوة جهاز المخابرات على الحياة السياسية والمجتمعية المعارض منها والموالي؟.. أما المعارضة الوطنية الناصحة والناطحة والمحاورة والمترددة، فتتشكل من توجهات سياسية مختلفة من كل مكونات الشعب ومشارب أبنائه الأيديولوجية وشرائحه المجتمعية، فمنها ما هو صناعة مخابرات الدولة ومنها ما هو تعبير عن أيدلوجية تاريخية معروفة ومنها ما هو في حقيقته وممارسته تجسيد وتعبير عن رغبات شخصية لفرد أو أفراد في تجسيد طموحاتهم أو مشار يعيهم في بناء الدولة وخدمة الوطن، ولمخابرات الدولة حق الشفعة في أغلبها، والعبث بالأهم من أجنحتها، ودور الوصاية على المتردية والنطيحة وما أكلت الصراعات السياسية الشخصية والقبلية والأيديولوجية منها؟!   والمعارضة البائسة في عمومها و المتعبة الجائحة في عملها تتكون من القوى الإسلامية الممثلة في حزب الإصلاح والتنمية(تواصل) والقوى المدنية والتي من أبرزها حزب التكتل القوى الديمقراطية، واتحاد قوى التقدم، وطيف واسع من الشخصيات المستقلة، وكل هذه القوى السياسية تدعو إلى التغيير، والعمل على تبادل السلطة وترسيخ مفهوم الحرية والديمقراطية وباعتبار ذلك هو الضامن لبقاء الدولة وحماية الوحدة الوطنية وإحداث التنمية الشاملة المتوازنة، وهم يرون أنه دون ذلك لا بقاء للوحدة الوطنية ولا وجود للدولة ولا لتنمية بفروعها ومسمياتها!! والأكيد أن لكل من تلك القوى السياسية رؤيته المختلفة وتصوراته المتباينة للطرق الكفيلة بتحقيق تنمية وبناء مؤسسات الدولة والمجتمع، وفي السنوات الأخيرة برزت قوى شبابية مدنية احتجاجية ضد سياسات الحكومة، ودون أن ترقى في برامجها وعملها إلى المطالبة بتغيير بنية الدولة وتفكيك المؤسسات السياسية والمجتمعية التقليدية، وتحديد وظيفة جامعة مانعة للمؤسسة العسكرية المتنفذة والحاكمة؟! جمهورية الرئيس عزيز وشعار الفساد وإعادة تصنيع الفاسدين: ما من شك في أن ظاهرها الفساد والافساد الإداري والمالي منه بصورة خاصة ظاهرة عالمية شديدة الانتشار والوقع والتأثير، وذات جذور عميقة تأخذ في حضورها وتأثيرها أبعاداً واسعة تتداخل فيها عوامل مختلفة يصعب التمييز بينها، وتختلف درجة شموليتها من مجتمع إلى آخر، بل ومن مؤسسة وإدارة إلى أخرى. ولخطورتها وشدة تأثيرها حظيت في العقود الأخيرة باهتمام واسع من المنظمات الإقليمية والدولية، ومن الباحثين في مختلف الاختصاصات كالاقتصاد والقانون وعلم السياسة والاجتماع، والفساد عادة يحصل عندما يقوم موظف عام بقبول أو طلب ابتزاز رشوة لتسهيل عقد أو إجراء طرح لمناقصة عامة. كما يمكن للفساد إن يحدث عن طريق استغلال الوظيفة العامة من دون اللجوء إلى الرشوة وذلك بتعيين الأقارب ضمن منطق (المحسوبية والمنسوبية) أو سرقة أموال الدولة مباشرةً؟! أو إساءة استخدام السلطة الرسمية الممنوحة له سواء في مجال المال العام أو النفوذ أو التهاون في تطبيق النظام أو المحاباة وكل ما يضر بالمصلحة العامة وتعظيم وتغليب المصلحة الشخصية !! ولا أعتقد أن أي إنسان في هذا البلد المنكوب بالفساد، مؤيدا كان أو معارضا يمكنه عقلاً وفكرا ومنطقاً عمليا يمكن أن يشكك أو يتردد أو يناقش في انتشار تلك المظاهر من الفساد في كل مؤسسات النظام ومفاصله السياسية والاقتصادية، وهو أيضا ما يعترف به ويعبر عنه الشعار الزائف والمخادع الذي يرفعه رئيس الجمهورية(محاربة الفساد)، وتعبر عنه تقارير المفتشية العامة للدولة، وسياسية تبيض وترقية المسئولين المشمولين بالفساد في تعينات السيد الرئيس في المراسيم الجمهورية أو الإجراءات الخصوصية في مجلس الوزراء والذي كان قد جرد الكثير من أولئك المعينين من مهامهم بسبب الفساد والفشل؟! بعض ما يرى خبراء الإدارة أنه من أضل وسائل مكافحة الفساد الإداري والمالي: 1- التطبيق الفعلي والعملي الصارم لمبدأ الجزاء والعقاب وتبسيط وسائل العمل، وتحديد مهل أنجاز المعاملات باعتبار ذلك من أهم عوامل مكافحة الفساد لأنه يضمن أمرين أساسيين يعول عليهما المواطن الأهمية الكبرى هما:- أ-أنجاز معاملاته بأقل نفقة ممكنة. ب. أنجاز معاملاته بأسرع وبأقرب مكان ممكن وبالتالي بأسرع وقت ممكن. 2- أجراء تنقلات دورية بين الموظفين (كلما أمكن ذلك) يمكن أن يسهل ويعمل على تخفيض حالات الرشوة السائدة. 3- تشكيل لجان خاصة لوضع نظام متكامل لأداء الموظفين تقوم بإجراء تفتيش دوري بين المصالح والإدارات والوزارات وإعداد التقارير الخاصة بذلك. 4- وضع مصنف يتضمن تقسيم الوظائف العامة على وفق طبيعة مهامها إلى فئات ورتب تتطلب من شاغليها مؤهلات ومعارف من مستوى واحد (أي اعتماد معيار الكفاءة والخبرة)، بدل القبلية والمحسوبية والجهوية والولاء والمعارضة. 5- تحديد سلسلة رواتب لكل فئة من الفئات الواردة في المصنف بعد أجراء دراسة مقارنة للوظائف المتشابهة في القطاعين العام والخاص. 6-أنشاء نظام رقابي فعّال مستقل مهمته الإشراف ومتابعة الممارسات التي تتم من قبل الوزراء والموظفين العاملين في كل وزارة ومؤسسة. 7-تفعيل إدارة الخدمات بمعنى أن يطال جميع الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات أي أن تعطى إدارات الخدمات ذات العلاقة بالجمهور الأولوية الأولى. والتفعيل هنا يقتضي أن يتناول أربع قضايا أساسية هي:- أ-هيكلية هذه الإدارات وبنيتها وتحديد مهامها وصلاحياتها بحيث يُعاد تكوينها على أسس علمية ومسلمات معروفة أبرزها خلو هذه التنظيمات والهيكليات من الازدواجيات وتنازع الصلاحيات إيجاباً كان أم سلباً وبالتالي ضياع المسؤولية وهدر النفقات وسوء تحديد المهام وتقادم شروط التعيين. ب- العنصر البشري في هذه الإدارات بحيث يُختار الأجدر والأنسب على قاعدة تكافؤ الفرص والمؤهلات والتنافس والعمل على إيجاد حلول لمعالجة ظاهرة البطالة. ج-أساليب العمل، بحيث يعاد النظر في هذه الأساليب لجهة تبسيطها وجعلها أكثر مرونة وتحديد أصول أنجاز المعاملات. د- توفير بعض الوسائل المطلوبة للعمل من أدوات وتجهيزات وآلات ومعدات من جنس تلك التي تعتبر من لزوميات أساليب العمل. 8- العمل على إيجاد السبل اللازمة للخروج من نفق الفساد و تصفية الحسابات مع المعارضة دون الوقوع في حلقة مفرغة ممثلة في البدء بتدعيم أركان النظام، وإصلاح العطب الشديد بل والدمار الذي أصاب منظومة القيم، وأنماط التفكير وما يرافق ذلك كله من أمراض الفساد المدمرة كالانتهازية والسلبية وبر وكندا الحوار ولغة التحاور المشوهة مع الذات الحضارية ومع الآخر المعارض والشريك في الوطن.

9- العمل بمبدأ الشفافية في جميع مرافق ومؤسسات الدولة.

10- إحياء ميزان القيم وإشاعة المدركات الأخلاقية والدينية والثقافية- الحضارية بين عموم المواطنين وجل ذلك قياسا شرطيا للترقية والتعين؟.

وخلاصة القول: أن مكافحة الفساد الإداري والمالي والسياسي لا يمكن أن تنجح وتحقق الأهداف المرجوة منها بالحلول جزئية، وإنما لا بد أن تكون

شاملة وتتناول جميع مرتكزات الإدارة من بنيتها وهيكليتها إلى العنصر البشري العامل فيها إلى أساليب العمل السائدة فيها.

 

د.محمد المختار دية الشنقيطي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى