فقر دم الثقافة و أنيميا السياسة/الولي سيدي هيبه

  روى ابن كثير في تاريخه أن معاوية بن أبي سفيان لما زار المدينة المنورة لأول مرة بعد أن استقر له الملك في الشام “توجه إلى دار عثمان بن عفان، فلما دنا إلى باب الدار صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها، فقال معاوية لمن معه: 

انصرفوا إلى منازلكم فإن لي حاجة في هذه الدار، فانصرفوا ودخل، فسكن عائشةَ بنت عثمان، وأمرها بالكف، وقال لها: يا بنت أخي، إن الناس أعطونا سلطاننا، فأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا، فإن أعطيناهم غير ما اشتروا منا شحوا علينا بحقنا، و غمطناهم بحقهم، ومع كل إنسان منهم شيعته، وهو يرى مكان شيعته، فإن نكثناهم نكثوا بنا ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا”. إذا كان بعض المفكرين السياسيين قد رأى اليوم أن هذه النص صور أبلغ تصوير مشكلات الصراعات الداخلية في الدول العربية في جذورها التاريخية، وأسبابها الاجتماعية والسياسية (راجع: “التاريخ الإسلامي بين السكون والحركة/الوحدة الإسلامية” و “الدولة و الصراع/الجزيرة”). والحقيقة أن الأمر بالغ  التصوير في عصرنا للحالة السياسية بصفة خاصة و الوضع الاجتماعي بشكل عام لهذه البلاد نظرا إلى قرب عهد أهلها بإسلام المرابطين أيام “التيدره” في شدته و إلى جاهلية “السيبة” الماضية/الحاضرة بكل عنفوانها و مضامينها.

واقع مختل شبه صامت لكنه مرير يمزق مجتمعها ـ من دون حرب أهلية أو تصفيات بدنية كما هو معهود في عديد دول العالم عندما تستفحل الأمور تنسد أبواب التوافق و الحوار و التقاسم ـ على ادعاء قيام هذا المجتمع الذي لم تتشكل له ملامح خاصة و ثابتة يوما على أبسط الأنماط المتعارف عليها عند علماء الاجتماع و الانتربولوجيا و التاريخ ـ تمزقٌ من خلال صراعات مريرة على السيادة تغذيها الأحقاد السياسية بدل التآخي والتعاضد حتى أصبح الأخذ بالثأر و تصفية الحساب هما السائدان لمعالجة كل صغيرة و كبيرة. و يبرز هذا الواقع الفريد من نوعه حقيقة مرة و إن كانت مستساغة بمنطقه و تجد كل تجلياته و تجسدها في موازنة ضعف لا تخفى حقيقة أنه بالقدر الذي تعاني نخب البلاد الثقافية من فقر دم الإبداع و العطاء و الإنتاج، فإن نخبها السياسية تشكوا هي الأخرى من أنيميا الحدس السياسي يفضحه عمى ألوان القياس و ألاستشراف؛ أمراض مُعطلة لكل أجهزة التنفس في بيئة ثقافية ملوثة بفيروسات الماضي و الترف الذهني الذي يجسده عموما تكرار و اجترار ميراث المعلقات و نوازل الفقه عند المتقدمين كتابة تاريخ لم تعرف له حلق بعد و لا ثوابت تشكل منطلقا وطنيا عليه الإجماع، و لكنها المعطلة أيضا في جزئها الثاني لبيئة سياسية عكرة بسبب التمكين لعسر الهضم على موائد الخلط بين الضروريات الملحة للإقلاع إلى نتائج الديمقراطية على واقع التنمية الشمولية، و بين أداء الغرف البرلمانية المرتهنة لغياب التوافق على أولويات بناء الوطن و للخوض السلبي الدائم في تأويلات المواد الدستورية لصالح أمور أقل شأنا من أخرى في ميزان الأولويات الحقيقية من التشريعات المفضية إلى تقوية دولة المؤسسات التي تسعى إلى القضاء على كل أنواع الفساد و أوله الفساد السياسي الذي هو رأس الحربة فيما يسود من نهب و سوء تسيير. و إنه من حيث كان يجب انتظارُ المثقفين أولا على محاور التعليم المثمر من خلال المناهج المتقنة الحبك علميا و تربويا المحددة الأهداف و السليمة الطرائق التوصيلية، و رفع مستوى الوعي بأهمية العلم المنتج بكل أنواع المعارف المرتبطة بالبناء العقلي و المادي للإنسان و الدولة، فإنهم تسربوا طرا إلى شباك و حبائل السياسة ليخوضوا غمارها النفعي و الترفي و الانتهازي و ألتوظيفي. و من حيث كان الأمل معقودا ثانيا على السياسيين في إعداد المواطنين المدنيين الصالحين حتى حملهم على إدراك واجباتهم فيؤدوها و حقوقهم فيطالبوا بها و ينالوها، فقد كان الفشل ذريعا و القصور مريعا فانهمكوا في السباحة على القشور لخفتها و لينها و إمكانية التخفي فيها و ابتعدوا عن الجوهر لما يتطلب من صدق و إخلاص و اللب بما يستدعي من جهد نقي و عفة و وطنية توجب التضحية لصالح الوطن و الشجاعة لصالح الحق. فهل بما نرى من تصحر فكري و تقاعس ثقافي و عجز عن مراجعة الكثير من الحسابات الثقافية، و الموروث الفكري و ما يتعلق منه في الدرجة الأولى بضرورة تنقية الأجواء التاريخية من كل التراكم الكمي والتضخم الذاتي النخبوي في ظروف و أجواء يحفها الخواء العلمي من ناحية، و ما نرى من صراع سياسي على دونيات السياسة و من فوق بروج وهمية من الاعتبارات “الماضوية” التي تبجل الذات الفردية و لا تعبأ بالمحيط الاجتماعي  الذي يبدو من خلال الممارسات كأنه مطية ذلول و بساط مفروش إلى مشتهى الحكم؟  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى