في فاس نزهة الأنفاس

 

altفي إحدى ليال القنيطرة الحالكة , كنت مضجعا يراود النوم عيناي دون أن تستسلم له جوارحي المتعبة من هموم الدراسة ولأمانة العامة و التفكير في أشياء منها ما هو قيد الانجاز وأخرى بعيدة المنال.

رن جرس التلفون ,كان الرقم غريبا لم أتعرف عليه لهذا اخترت عدم الرد عليه لأول وهلة فأنا متعب عن الحديث في ذلك الوقت المتأخر من ليل القنيطرة الغارس , أعاد المتصل الكرة و أخذت هذه المرة على مضض سألت باستعجال من معي ؟ قال لي بصوته الجهوري المحبوب ” معك أخوك الكبير سيف الدين أتمنى أن تكون بخير جهز نفسك فلدينا سفر إلى فاس بعد نهاية مهمة العمل التى أقضيها في البيضاء” .

سيف الدين وما أدراك ما سيف الدين ؟

رجل طيب خلوق مثقف عذب الحديث كريم الكف كانت تربطني به معرفة قديمة فأنا صديق للعائلة ولهذا هو دوما يعتبرني أخوه الصغير ويحرص على مجالستي رغم ما في مجالسي من ملل و ضيق باع وقلة علم .

سعدت كثيرا بهذه المكالمة فقدوم سيف الدين يعني أشياء كثيرة : انفراجا في الأزمة الاقتصادية , وسياحة مانعة جامعة ,ولقاء مع المثقف ولأديب والأخ و الشيخ والحبيب .

تهيئت للرحلة وحزمت أمتعتي القليلة لأكون من الطالعين في أول قطار إلى “رباط الفتح ” لأحط الرحال في حاضرة الموحدين حيث تتعانق الحضارة مع الأصالة و الأسوار العتيقة مع الشوارع الأنيقة هناك هواء نقي و أرض طيبة ورب غفور .

نزلت عند إحدى المعارف في شقتهم الواقعة على شارع “فال عمير ” ذلك الزعيم الموريتاني الذى اختار هجر الأرض والوطن إلى وطن آخر أعطاه حقه وأولاه من الأمر أمرا , على شارع “فال ” تحس وكأنك في انواكشوط لكثرة أصحاب السحنة الحسانية و مرتديات –الملاحف- لكن “فال ” يختلف عن شوارع انواكشوط بسعته و نظافته وكثرة المتاجر والمطاعم وكل ما يجعلك سعيدا حتى لو كنت أكئب خلق الله

تناولت وجبة الغداء عند معارفي بعد أن اتصلت عليهم قبل ساعات لحفظه بعيدا عن أيدى الفضوليين فالدار مقصد لكل الشباب الذين يقصدون العاصمىة نظرا لكرم أهلها و أصالتهم كان لي ما أردت لولا أن معتوها أتى في آخر لحظة و شاركني طعامي القليل فّأخذ منه حصة الأسد بعد أن شغلني أثناء المعركة بأحاديث عن “سياسة مرسي ” وانتخابات ” تواصل ” و نهاية العالم المزعومة عند المايا وكنت كلما أخذت في الحديث والتحليل كانت قواته البرية تتقدم حتى قضت على الخبز و على البقية الباقية من وجبة ” الطاجين ” المغربي الأصيل

توكلت على الله و ندبت حظي العاثر و توجهت إلى بعض الأصدقاء من أجل شرب كؤوس الشاي ومناقشة جديد الوطن في انتظار قدوم سيف الدين , التقيت أصدقاء قدماء ذكروني بأيام الصبا و مغامرات و ليال “حي المدارس الخاليات “

عند الساعة السادسة لم يتصل ” سيف الدين ” فأدرت لوحة مفاتيح جهازي النقال واتصلت عليه مرارا لكن كانت تلك ” الغبية” ترد علي أن “هاتف مخاطبكم خارج الخدمة ” فيما تأخذ منى شركة الاتصال نصيبا من الرصيد الذى يتفننون في أخذه بحق وبغير حق حتى لو كان مخاطبك في القمر فإن رصيدك سينقصه دراهم معدودة .

بدأت الهموم تلج صدرى خوفا من تغير برنامج سيف الدين فجدولي وحالتي الدراسية وكذلك المادية لا تتقبل تأخير “سيف الدين ” فهو يملك المفتاح الذهبي لحل المشاكل , كما أن صحبته ستريحني قليلا من روتين الدراسة القاتل .

لم أنتهي من التفكير حتى رن جرس الهاتف كان سيف الدين على الخط من ” البيضاء ” أخبرني أنه بعد ساعة سيكون معي “بمشيئة الله ” وعلى أن أكون في المحطة لأكون أول المستقبليين .

سابقت الزمن وتوجهت مباشرة إلى محطة ” أكدال ” من أجل استقبال الضيف الكبير

على الساعة التاسعة وصل “سيف الدين ” كان يحمل معه حقيبة صغيرة ويرتدى معطفا و بدلة أنيقة بنية اللون تزيده مهابة وجمالا , التقينا عند الباب حدث عناق بيننا يلخص أكواما من الأشواق في نفسي له ففيه أشتم أريج الوطن وريح المحبة و تربطني به علاقة منذ خمسة عشر عاما فهو جارنا و أنا خليل أخيه الصغيير لهذا كله فقد كنت مدللا عنده و حتى وأنا لا أزال في سن ماقبل المراهقة .

كان “سيف الدين ” كما تركته متواضعا بشوشا ,حريصا أن يطلع على خفايا كل مدينة يزورها ليعرف أخبارها وخصائص أهلها و ليتجول في أسواقها , فتلك ثقافة “الشناقطة ’ وهي صفة متجذرة في الرجل الذى بدأ رحلته في ” رباط الفتح” بجولة في أزقة المدينة القديمة متجولا في أسوارها وأسواقها و خاتما بزيارة إلى ضريح الولي الصالح وليد مكناس أبو المواهب “سيد العربي بن السائح ” .

أخذ التعب بأخذ من “سيف الدين ” ومني شخصيا وتوجهنا مباشرة إلى شقة في شارع ” بلوميدال ” يقطنها أخوات “لسيف الدين ” أكرمونا أيما إكرام و قد وجدناهم قد أعدو العدة من أجل استقبالنا في شقتهم الجميلة

كان أجمل شيء في تلك الليلة هو ذلك العشاء اللذيذ الذى صنعته تلك الفتاة المبدعة التي يطلقونا عليها ” الأميرة ” فعلا هي أميرة في أخلاقها و في طيبتها و حسن حديثها وكذلك في طبخها , حتى أن زميلا لي يدعى ” سالم ” تربطه معرفة بأسرة “سيف الدين ” قد اقترح عليها إن لم تجد عملا بشهادتها أن تفتح مطعما فهو كفيل بأن يوفر لها دخلا محترما يغنيها عن الوقوف صباح مساء أمام رئاسة العزيز مطالبة بالعمل .

كانت ميزة شقة “الأمل ” نسبة لصاحبتها أنها قريبة من المحطة وقد اختصرت علينا الكثير من الطريق .

على الساعة الخامسة فجرا أيقظني “سيف الدين ” من أجل الاستعداد للسفر , ركعنا ركعات في جوف ليل ” الرباط الجميل ” ثم توجهنا إلى المحطة من أجل ركوب القطار إلى نزهة الأنفاس فاس .

طوال طريقنا كان سيف الدين يتحفني بأحاديث تارة عن التاريخ وأخرى عن أيام العرب منشدا أشعارهم اللطيفة والرائقة ,ثم أخذ سيف الدين يغوص في الحديث عن التصوف و عن خلفيته الصوفية وطريقته التجانية , لقد كان سيف الدين رغم أنه يحمل شهادة عليا في الاقتصاد من جامعة الشارقة , ومتقنا للغة” شكسبير ” مع هذا كله كان سيف الدين متصوفا حتى النخاع ناسكا عابدا عارفا بمقامات الأولياء وحافظا لأشعار المحبين لهذا قإن فطريق فاس الطويل مر علينا في ساعة رغم أن المسافة أكثر من خمس ساعات .

وصلنا إلى درة المدن وزهرتها “فاس ” وبدأنا بجولة سياحية في المدينة الثرية , من محطتها الرائعة مرورا بشارع الملك الحسن الثاني وصولا عند أسواق وأزقة فاس الجديدة قبل أن نختم بفاس القديمة.

فاس القديمة مدينة من الزمن ” الجميل ” لا تزال شامخة كالجبال تقاوم كل مظاهر الحداثة التي أتت على معظم مدننا الجميلة العتيقة , زرنا هناك مسجد القرويين و جامع الأندلسيين , وقد مررنا قبل ذلك بالقصر العتيق .

قال لنا سائقنا ” المثقف ” أن قصر فاس هو أكبر قصر في المملكة وهو قصر بني في عهد المولى عبد الحفيظ وتوالى عليه الملوك حتى جاء الملك الراحل ” الحسن الثاني ” طيب الله ثراه- فكساه ورده أكثر جمالا وجاذبية , فكان ملتقاه مع العلماء وكبار رجال الدين ومن هؤلاء جد سيف الدين الذى التقاه في ذلك القصر البديع تذكرنا ذلك ونحن نمر من أمام تلك القامة الهندسية العتيقة فقرأنا الفاتحة ترحما على روحيهما- طيب الله ثراهما .

كان مسك الختام بزيارة زاوية الولي الصالح صاحب الطريقة الصوفية الأكثر انتشار ا في شمال إفريقيا الولي الصالح ” الشيخ أحمد بن محمد التجاني ” –طيب الله ثراه -هناك شاهدت العجب العجاب ألسن مختلفة وألوان متعددة و جنسيات من كل حدب وصوب اجتمعت على قراءة القرآن وترتيله وتسبيح المولى عز وجل في هدوء وسكينة ساحرتين تنقلانك من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح حيث الصفاء والنقاء , لاوجود لبدع كما يشيع خصوم الطريقة المذكورة بل هناك تصوف سني محض مبني على حديث المقامات الثلاث إسلام ثم إيمان وإحسان و على الترقي و التدلي في معرفة الله عز وجل .

لقد صدق عليهم الوصف :

أهل المحبة مـا نالوا الذي طلبوا حتى لــربــهم في الخلوة انفردوا

تراهم الدهر لا يمضون من بلــد الا ويبكي عليهم ذلك البلـــــــــــد

لا يعطفون على اهل ولا ولــــــد ولا ينامون اذا كــان الورى رقدوا

فالذكر مطعمهم والشكر مشربهم والوجد مركبهم من اجل ذا سعدوا

رجعت من فاس وأنا ممتن لأخي ” سيف الدين ” على هذه الرحلة الروحانية الجميلة التي ردت إلى نفسي العنيدة شيئا من صفائها ونقائها اللذان سرقتهما منها هموم الحياة وتصاريف الغربة القاسية .

فعلا فاس سلوة للنفس والروح والجسد.

أحمدو محمد الحافظ النحوي كاتب موريتاني وناشط حقوقي وسياسي مقيم في المغرب [email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى