طينة الأقوياء في بلد المليونيات/الولي ولد سيدي هيبه

لا مجال للاندهاش عند رؤية بعض أهل النفاق و الباطل ينتصرون و مثلهم من أهل العقل العاجز السافل يهِنون و هم ليسوا أوفر نبلا، فإن ذلك من إملاءات منطق الأشياء على مر العهود منذ ما قبل نشأة  الدولة المركزية على يد الاستعمار من ناحية، و من نسق مجريات الأمور في البلد الذي ما زال يتغذى فيه العَقلُ “السيباتي” ـ من أجل السيطرة و البقاء ـ على قانون الغاب و حربائية الأحراش و صوت الرمل في الصحاري المقفرة لا يُدرى مَأتاه من ناحية أخرى. كما أنه لا مكان للحيرة القصوى عند رؤية النبلاء “لفظا و عربدة” يلبسون الظلام إلى المقاصد الدنيئة عند أقدام الأقوياء في جميع المراحل و على عتبات خدور مُومس سياسة الفترة بغض النظر عن كيفية وصولهم من بؤر القوة أم من هفوات الضعف. هؤلاء النبلاء الذين يخلطون بين حقد “المجروح” و نفاق “المغلوب على أمره” ليظلوا في السباق داخل حلبة إركاع البلد. ثم لا عجب أن يسمع لقبُ القوي “الأمين” و هو يطلق بلا تردد و من دون حياء على الزنيم “السياسي” و قد طهرته براءة الوظيفة السامية و المال السهل، و يرى ” الزنديق ” يتحايل على الأصول المعتقدية في محارب الاجتهادات التأويلية يأتي بلا حياء البوائق من أوسع الأبواب و يتجرأ نهارا جهارا على فقه الأمور و يدوس على الأخلاق فيكشف عن تعاطيه الخمر في الملأ لفظا و سكرا  و غرقه إلى الودجين في الملذات و لا يهاب الحديث عن الرذيلة معتبرا إياها بطولات “بلايبوياتية” و الفساد علامات شجاعة و قوة و نبل و فتوة، كما يُشاهد “المتمردُ” على النأي عن مضامين “العنجهية” يراوغُ من وراء دروع المفاهيم “المساواتية” المستحدثة، و يُبصَرُ شامِخا ذاك الذي يُعلنُ عاليا و مُفتخرا عن اعتناقه عقيدة النفاق و الزندقة و التمرد على القيم و يتبني خيار تعاطي تقبيل الأحذية… فلا عجب في كل ذلك داخل بلد المليونيات. عاصمة الخواء الديناميكي تستيقظ جميع عواصم الدنيا من حولنا على إيقاعات المعارض الفنية و الصناعية و  العروض المسرحية و السينمائية الجديدة شكلا و مضمونا و على متون المحاضرات الفكرية و اللقاءات الثقافية الدولية، و تستيقظ نواكشوط على مزيد من القمامة الميتة ـ التي لا تصلح لإعادة التكرير ـ المترامية في أرجائها و على جرعات زائدة من الخواء الديناميكي و انقطاع التيار الكهربائي و مياه الشرب و النفاق السياسي و الخلافات البيزنطية و إعادة توزيع الأوراق القبلية المهترئة و المحاصصية الإثنية الشرائحية المبتدعة في قوالب المفاهيم الرجعية و “السيباتية” القديمة الجديدة، و توزيع الصفات المفجعة للوطن و الكابحة لحراك تنميته المعطل. و في عواصم بلدان الجوار من حولنا يقطع نفس هذا الحراك الشامل أشواطا حثيثة إلى الأمام و تتقدم الشعوب باضطراد ملحوظ، بينما تلبس عاصمتنا في كل صباح حلة أكثر قتامة من التخلف الذي تعكسه فوضوية المرور و غياب الطابع المدني في وجه صادم جعل أحد الزوار يسأل يوما بعد أن خرج من فندقه يريد التسوق: أين وسط المدينة، أين محطة الباصات و التاكسي و القطار و المترو؟ و بالطبع فإنه لا بد سأل في المساء: أين المسرح و الأوبيرا و دور العروض و المنتزهات و المكتبات و حديقة الحيوانات و المتاحف و المنتزه المائي (الأكواريوم)؟   ضرب الإعجاز في الاستثناء وسط محيط من التخلف القاتم يشرب الساسة و المحسوبون على المعرفة و الثقافة في البلد نَخبَ الكبر و الاستعلاء بدون خجل و يضجعون كالبلهاء فوق فراش من الظلامية لا يبالون أو يحسون بالمهانة التي تغرز أشواكها الحادة في خاصرة حاضر هذا البلد المكلوم و تفقأ بمخالبها الجارحة عيون مستقبله العمشاء. إن كل عمل يقام به محاكة للغير مختل، و كل مظهر فيه يُتقمص يفضح أرواح نُخبه المضطربة و نواياها السيئة و يعري  كسلها المزمن و طمعها المتحرر من كل نواهي الدين و مسطرة القيم و يشي بزندقتها الدفينة. لكم أن تراهنوا و تقارنوا دون تردد العاصمة بأية عاصمة، فهل يربح الرهان أو إدارتنا و سير العمل فيها بأخرى تضعون عليها الأصبع فهل يعترف بجرأة المقارنة… الطرق، الأسواق، المدارس، المستشفيات، الخدمات، مظاهر المدنية، المعاملات، الحراك الثقافي و الفكري، المسار السياسي و المدني، فهل تصدق الأنفس الحائرة و تعترف أن البلد ضرب من الإعجاز في الاستثناء داخل خضم العولمة و التنوير و التنافس بالعلم و الإبداع.  التخلف على أكف النفاق لا سبيل مطلقا إلى التوازن و النمو و الاستقرار في أي بلد يتم تعاطي السياسة فيه على النطاق الشامل بعُملة “النفاق” المغشوشة؛ فالنفاق صفة دميمة من صفات الشعوب المتخلفة التي ما زالت تحتفظ في التعامل بينها و بين الطبيعة بعهد البدائية و صلة التحجر الوثيقة في نسق مجرى حراكها العام و اتباع قانون القوة و الغدر فيها. و لقد هجرت الشعوب “المتمدنة” هذا المرض العضال و غيره كالحسد و الغل و  الحقد و الكبر إلى التنافس الشريف و البديع في مجالات المعرفة الواسعة التي تسمو بالنفس فلا تتوقف تشعباتها و لا ينضب معين مردوها المادي و النفسي على المتعاطين فروعها و على الوطن بنتائجها. و على عكس صفات المنافق و الانتهازي و الطفيلي و الواشي فإن صفة “الخباز” عند المجتمعات الفاضلة ليست ذما و لا استنقاصا لحامل عنوانها المعتبر، و طذلك النجار و السمكري و اللحام و البناء و الصباغ و الميكانيكي و الكهربائي (ليش فاليزا) و السائق (مادورو) و غيرهم من أصحاب الصنعة و الحرفة ذات المردودية على الوطن من بعد أنفسهم، فإن جميعهم يتربعون على لائحة المواطنين الشرفاء لالتصاقهم الشديد بمتطلبات حياتهم؛ فكل ينافس الكل ليتجاوزه في البذل و الإبداع و العطاء و لا يحسده. و ليست السياسة في نبل مقاصدها عند الشعوب ذات الوطنية “الناطقة” بالفعل التنموي و الرفاه النفسي بأقل حظوة من المتنافسين المخلصين بالبرامج الطموحة و الخطابات البناءة و المقاصد الرفيعة فسرى الفاعلون و هم يَدخلون عبرها و عند شعوبهم من باب التاريخ الكبير إلى منصة الخلد في المناهج و الأذهان و ليكتمل حولهم الإجماع بالتقدير و التكريم… فهل ندرك دقة الأمر و خطورة وضعيتنا النفسية السقيمة فنغير ما بأنفسنا ليغير الله ما بنا فنفوز. حروب ردة الصمت الظالم في كواليس و دهاليز و أروقة الإدارة و المؤسسات العمومية تدور بين الأفراد الممثلين لهذه الكيانات صراعات قبلية و جهوية يقصي خلالها بعضهم بعضا و يشي البعض بالآخر و يلفق التهم و يعري الأسرار و الخبايا في حرب صامتة ضروس من دون علم العامة الخجولة المأخوذة على حين غرة. صراعات من زمن ولى، نظريا و لكنه نابض بالحيوية في واقع الحياة، يتم على إثرها تقاسم الفساد و سوء التسيير و التستر على النتائج الكارية لهما و كأنها تفرق بين دم القبائل. و لا تسلم السياسة من ذلك إذ الأحزاب تتقاذف التهم و تتقاسم وسائل أسباب إطفاء الحريق. و لا تقل المبادرات التي لا تخجل من تسمية نفسها بالقبيلة سوء في قيام هذه الحروب الصامتة التي تقصي أفراد القبائل الأقل حرابة و حضورا و جرأة الأفراد فيها.. قبائل هي الأكثر عددا و الأقل وزنا في سلم الاعتبارات التعسفية؛ اختلال يزيد حدة مع تمكن القبائل “المهيمنة” ـ رغم خلافاتها المعلومة ـ بسبب ضعف القبائل ذات اليد القصيرة و قوة المتاريس و الحواجز المادية و النفسية المضروبة من حولها.. قد يكون الأمر غير ظاهر الملامح لكن نظرة متأنية و مجردة كفيلة بأن تكشف المستور عن حروب ردة الصمت الظالم. غياهب جب النسيان في الوقت الذي لا تصدر في البلاد بطولها و عرضها صحف و مجلات بالألوان و بمحتويات مقبولة، و لا كتب لمفكرين و علميين و باحثين و تربويين و إعلاميين و كتاب و أدباء و فنانين، تحتضن غينيا أكبر تظاهرة على الإطلاق لهذا العام في عاصمتها تحت شعار “كناكري العاصمة العالمية للكتاب 2017 (اليونسكو) “. فكيف لا نشعر بهذا الخواء الذي يلفنا و يكاد يخرجنا من دوائر المعرفة و يرمينا في غياهب الجهل و النسيان؟ و هل من أمل في التخلص من هذا الاستعلاء المعرفي الذي يطوقنا؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى