عباس ابراهام يدون عن علاقته بابليس

إنّ علاقتي مع إبليس هي علاقة معقدّة جِدّاً، أعقد حتّى من علاقتي بالحساء. ومن العبث أن تُحاول هذه القصاصة أن تسبرها. ويتعيّن الآن عليَ أن أبوحَ، وخصوصاً بعد أن لم يعد يهمنِّي “همس الجفون” ولا همس الذقون، أن هذه العلاقة لا تخلو من اختلاب.

فحتى قبل أن نبلغ كان الإمضاء على إبليس قد كان ينتظِرُنا، مختوماً عليه من أمل دنقل ومن ميلتون. ولكنّه لم يكن يحتاج كلّ هذا التعميد. فإبليس الذي حيّرنا وبهرنا صِغاراً كان أستاذ الألاعيب والأعاجيب. ضرباتُه كانت ضربات معلِّم. كان فنّاناً وكان أديباً؛ وكان مغواراً. كان دون كيشوت ناجِحاً. وبالتالي كان عكس دون كيشوت. وكان يُخطِّط لكلّ شيء. وكان أستاذ الإقناع. همسه، لسانُه الثعباني، الفرويدي، شوشرتُه؛ ترطيباتُه؛ تلذيلاتُه؛ تذليلاتُه. لسانُه العذب. كلّ شيء. وما انفردَ بأحدٍ إلاّ وكَسَبه. حتّى أولئك الأكثر ورعاً وتبختُراً وتدثّراً، المدرّعين بالجبّة وماء زمزم وبالخيمياء وطرد الضوال. حتّى جلابيبُهم المحصّنة بأذكار الصباح والمساء لم تحرزهم منه فكيف بأغرار من أيتام الحداثة. نحن كنّا ذاهبين إلى الجحيم. وكنّا لقمة سائِغة لإبليس كما كان كذلك بالنسبة له الشاب خالد.

إلاّ أنّ العم إبليس لم يكن شقياً جِداً معنا. وكان يحرص على إعطائنا وقتاً للمتعة. وكنّا ننامُ ببسمة جانبية وسبب للاستيقاظ. كان يطلِقُ فقاعات اللذة كطفل شغوف. ولكنّها كانت سهام كيوبيد. وقد أعطانا ليس المُتع فقط، وإنما شروطها. ذلك المسح الديكارتي، الذي بموجبِه تتأسّس المُتع. كان هنالك رجيم آخر، ولكنّه كان مؤمناً: كان اسمه الضمير. أبيضٌ، وديع وصغير؛ ويؤدِّي المهمة بحذافيرها. مَلَكْ. وكان لا بد من التعامل مع الرجيم الأوّل لحلّ معضِله وإخمادِه. وهكذا استاصله بعملية جِراحية. ولم يكن الأمر أنّه قطٌّ يلعب بالفأر قبل أكلِه. بل كان كالبنك: هو يأكلُنا مع الحرص على إطالة أعمارِنا. بعلزبول كان غالباً يحترِم التزاماته.

إلاّ أن ما حيّرنا أنّه كان يُخطِّط من السماء، حيثُ كان له مكتب دائم، ما أفسح الباب لبعض الهرطقات أن السماء كانت تسمح بأنشطتِه أو أنّه كان حتّى عميلاً للسماء. المهم أن أنّ مكانته في مخيالِنا كانت سماويّة. ونحن رفضنا كيفُ عُلمِن الشيطان في الخرافات الحداثيّة واُنزِل إلى الأرض وأعطِي له مقرّ حُكم في مثلّث برمودا وفي وول ستريت.

وفي بعض جولاتي الميتافيزيقيّة سألتُ العلاّم لقاءً مع إبليس. وقد أتى الرجيم كعادتِه، في سيارتِه الكاديلاك، متأنِّقاً تفوحُ منه رائحة العطور الإيطاليّة. وكان هنالك شيئ ما إيطالي في إبليس: قامته وانحداره من الغرب وجِماعه بالبحر بالأبيض المتوسِّط، رونقُه وحتّى حلته السوداء المحفوفة بالخطِّ الأبيض. بدا ككاردينال من صقلية الوسيطة. إبليس ايضاً كان ينتمي للستينيات: عصر الألوان، قمة المدّّْ الثوري والثورة الجنسية والحركة الأهلية، مارلين مونرو ومارلون براندو وجيمس دين والان ديلون وشانيل كوكتو. كان يبدو كما لو أنّه قد وضع كلّ الحرب العالمية في ظهره وبدا يُفكِّر في عصر أكثر انفتاحاً.

إلاّ أنّ بعلزبول اختار مكان اللقاء في جبل حِراء. وكان قد صار قاطِنا في هذا الجبل منذ غزاه حينئذ بنواطِح السحاب والمُولات وصبغه بالقطران الصقيل وزركشه بالعاج والرخام وبهرجه بمحلاّت ستاربكس وماكدونالدز وKFC وجاك إن ذ البوكس. وتماماً كمكّة، لم يعد حِراء روحانياً؛ بل صارَ تجارياً. ولعلّ إشعاعه للقيم قد استفذَ تلك القيّم منه هو نفسه. كالنجم إذا هوى.

الرجيم اشترط لقاءً مقتضباً. وليس الأمر أنّه كان مستعجِلاً فهو مخترِع البيروقراطية. ولكنّه، وهو الغوبلزي الأوّل، أرد التبختر. نفث من غليون ماهاغوني، نصفه الآخر عاجي. الرجيم كان مهووساً بالعاج. هادئ. ابتسامة خفيفة تُذكِّر بابتسامات الفُقهاء. وخيلاء لا تخفي، ولكنّها غير متبجِّحة. خيلاء متواضِعة. الفيلسوف الأوّل علّل التمرد السماوي الأوّل بأنّه: من أجل أن يكون هنالك عالم. لغتُه شوبنهاورية: هوسه: ذلك الذي من أجلِه شيء. وهنا يتبيّن سبب انشغاله. بعلزبول ليس غير كاتب رواية، وهي عينُها الرواية التي تؤخرِنُه. إنّه يكتب نفس الرواية التي تخلقُه وتدمِره. إنّه يمرُّ عبر الثقب الأسود حيث تلتقي، تضارُباً وتوحُّداً، كل الأزمان. كل المتع. كلّ الآلام. كلّ الآهات. لكن في غمضة عين. إنه يشتري الوجود بالألم. شيطان!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى