حكايات مجنونة جدا..

الزمان انفو انفو ـ روايتها دوختني، وأنا نادرا ما أدوخ أمام رواية من الروايات، وسبب الدوخة أن هذا النص يشبهني إلى درجة التطابق، فهو مجنون ومتوتر واقتحامي ومتوحش وإنساني وشهواني…وخارج عن القانون مثلي، ولو أن أحدا طلب مني أن أوقع اسمي تحت هذه الرواية المغتسلة بأمطار الشعر، لما ترددت لحظة واحدة…”

هكذا حدث الراحل نزار قباني عن رواية “ذاكرة الجسد”، للكاتبة الجزائرية الرائعة أحلام مستغانمي، وحين أسر بهذا الكلام لصديق عمره، الكاتب والمفكر اللبناني سهيل إدريس، قال له الأخير :”لا ترفع صوتك عاليا يا صديقي، لأن “أحلام” إذا سمعت كلامك الجميل عنها سوف تجن”، فرد عليه نزار : “دعها تجن، يا سهيل، لأن الأعمال الإبداعية الكبرى، لا يكتبها إلا المجانين”، الذي أراد نزار قوله باختصار شديد لصديق عمره سهيل، هو أن المجانين هم وحدهم، من صنع تاريخ هذا العالم، وهم وحدهم من ملأه متعة وزرع الدهشة والذهول على شرفاته : ..في يوم السبت 28 نوفمبر عام 1908، حين حمي الوطيس في سهل لكويشيش، التفت قائد المعركة الأمير أحمد ولد الديد، إلى صديق عمره أحمد سالم ولد أحويريه، وكان فارسا مغوارا لا يشق له غبار، وقال له إنه يشعر بعطش شديد، تطلع ولد أحويريه من حوله، فأبصر من بعيد فرسا قتل صاحبها، عليها قربة ماء، كان الكر والفر على أشدهما والقلوب قد بلغت الحناجر، زحف ولد أحويريه بشجاعة ورباطة جأش، بين الغبار والرصاص حتى أمسك بحافر تلك الفرس وسحبها إليه، وجذب القربة التي كانت عليها وحل رباطها وأدناها للأمير وقال له :”اشرب”، ألتف ولد الديد إلى صديق عمره ونظر مطولا في وجهه المبتسم، ثم رد عليه رباط القربة بلطف وهو يقول :”والله لقد ابتلت كل عروقي وما عدت أشعر بالعطش”، الذين كتبوا تاريخنا، فعلوا ذلك دائما بتقشف شديد وببخل نادر، فحرمونا من كل حكاياته الطافحة بالدفء والجنون وحولوه إلى دهاليز موحشة وباردة، لكن هذا التاريخ العنيد بطبعه، عرف كيف ينتقم لنفسه من أولئك البؤساء ومنا، فجعلنا نحتفل في نفس ذلك اليوم (28 نوفمبر) من كل عام، ومن حيث لا ندري، بجنون الأمير ولد الديد وصديق عمره ولد أحويريه، ..يروى أن ملك القوط الأندلسيين “لذريق”، حين علم بأن طارق بن زياد وجيشه نزلوا جبل الفتح، “جبل طارق”، أطلق ضحكة مدوية وقال : “ماذا جاؤوا يفعلون هنا، هؤلاء المجانين؟”، وأنه حين نزل “وادي برباط”، كان في جيشه عشرات الدواب، لا تحمل سوى حبال أعدها لكتاف المسلمين، لكن رحى معركة “وادي برباط”، دارت بما لا يشتهيه ذلك المعتوه، وكانت تلك بداية ملحمة تاريخية رائعة، سطرها طارق بن زياد وموسى بن نصير وآخرون، ستنتهي ببناء دولة عظيمة، تمتد حدودها إلى مشارف جبال البرينيه في بلاد الغال، فرنسا الحالية، بعد هذا الحادثة بأكثر من سبعة قرون، وفي الثاني من يناير عام 1492، سيسلم آخر ملوك بني الأحمر، أبو عبد الله الصغير، مفاتيح مدينة غرناطة لفيرناندو وإيزابيل دون قتال، وسيرحل نحو مدينة فاس، وحين يبلغ الرابية المطلة على غرناطة، لن يستطيع أن يتمالك نفسه، سيبكي بحرقة شديدة وستصرخ أمه في وجهه : “تبكي كالنساء على ملك لم تستطع أن تحافظ عليه كالرجال”، “مأساة أبي عبد الله الصغير مريرة، لو تدركون مرارة المأساة”، أختار الخنوع والهوان بدل ممارسة قسطه من الجنون، فخاصمته جميع كتب التاريخ وأدارت له ظهورها، ..ما زال ذلك الحلم القديم يراودني ويلح علي في كل مساء، كتاب تحت عنوان : (شخصيات مجنونة في تاريخ الدولة الموريتانية)، استفتحه بحكاية مجنونين من العيار الثقيل، هما : سيدي المختار ولد يحي أنجاي وسيدي محمد ولد سميدع، الأول يميني حتى النخاع والثاني يساري حتى أطراف أصابعه، لكن ما يجمع الرجلين هو أنهما مارسا أرقى حالات الجنون، في وقت مبكر من تاريخ الدولة الوطنية : ولد يحي أنجاي، قدم استقالته من رئاسة الجمعية الوطنية، يوم الأربعاء 15 مارس سنة 1961، احتجاجا على الانتقال من نظام برلماني تشاركي، إلى نظام رئاسي يمنح صلاحيات واسعة للرئيس، أيقن الرجل وقتها أن تلك الحماقة، ستؤدي إلى وأد تجربتنا الديمقراطية الوليدة وتكريس سلطة الفرد، وقد تحققت نبوءته، أما ابن اليسار البار، سميدع، الذي توفي ولما يكمل بعد عقده الثالث، فقد استطاع خلال خمس سنوات فقط، هي كل عمر حياته النضالية، أن يصنع أشياء مذهلة ومدهشة للغاية، جعلته يتربع على عرش كل القصص الجميلة، التي دغدغت أحلام الموريتانيين وراودت وجدانهم، من منتصف ستينيات القرن الماضي وحتى بداية سبعينياته، المؤسف جدا، هو أن الأمر الآخر الذي يجمع بين هذين الرجلين المنسيين، أن كليهما توفيا داخل غرفة رطبة وسيئة الإضاءة في أحد المستشفيات السنغالية، بعيدا عن الوطن والأهل والرفاق، لكن ذلك لا ينقص شيئا من روعة حكايتهما، بل على العكس تماما، إنما يزيدها دفئا ولوعة، ..في عام 2019، ستكون موريتانيا بحاجة ماسة، لا يعادلها سوى عطش ولد الديد يوم لكويشيش، إلى رجل يستطيع ممارسة الجنون إلى حد المجون، مثل ولد أحويريه، يجعلها، هي أيضا، تصنع لنفسها حكاية باذخة، تفاخر بها الآخرين، وترويها لأطفالها قبل النوم وحين يكبرون : آدما بارو وهو يقود الغامبيين الحفاة، إلى قمم المجد ويخلصهم من خوفهم المزمن، كان يمارس الجنون بعينه، الأمريكيون وهم ينتخبون رئيسا غريب الأطوار، السياسة عنده، تبدأ وتنتهي عند عتبات وول ستريت، كانوا يجربون نوعا آخر من الجنون، الفرنسيون وهم يرسلون يسارهم ويمينهم ووسطهم إلى أرصفة باريس، وقد بللتها أمطار مايو الباردة، بينما يحجزون لماكرون قاعة فسيحة ودافئة داخل قصر الأليزيه، يؤدي فيها اليمين الدستورية رئيسا لفرنسا التاريخ والثقافة، إنما كانوا يجربون أعذب نوبات الجنون، الشعوب، التي لا تجرؤ على ممارسة قسط وافر من الجنون، تنهمر الشيخوخة مبكرا على وجهها، وتجد نفسها عالقة في مستنقعات النسيان ومنغمسة في تمرين وطني على الموت البطيء.

البشير عبدالرزاق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى