الزميل الربيع ولد إدومو في حوار هام مع الأستاذ الشيخ أبو العباس ابراهام

altالزمان انفو ـ أجرى الزميل الربيع ولد إدومو مدير موقع “أفاق” مقابلة شاملة مع الكاتب الموريتاني المقيم في الولايات المتحدة الشيخ التجاني ولد ابراهام حول الوضع السياسي والتطورات الاخيرة المرتبطة بمشاركة منتدى الاحزاب الديمقراطية، والوضع الامني والحقوقي.

الزمان أنفو تنش لكم في ما يلي النص الكامل للمقابلة:

يعتبر الاستاذ الجامعي والباحث ابو العباس أحد اكثر المحللين السياسيين قدرة على قراءة المشهد السياسي واحد الباحثين الجادين في محاولة فك طلاسم السياسة الموريتانية وانعكاس الافكار والتوجهات السياسية على المشهد الوطني.

ويحلل عباس عبر صفحته على الفيسبوك وعبر مقالاته الاحداث الموريتانية بشكل مميز متخذا من تخصصه في التاريخ عنصر قوة وأداة لقراءة وتقييم ونقد الافكار والخطط السياسية.

وفي هذا القاء يناقش موقع آفاق الكاتب الموريتاني المقيم في الولايات المتحدة حول الوضع السياسي والتطورات الاخيرة المرتبطة بمشاركة منتدى الاحزاب الديمقراطية، كما يحلل الوضع الامني والحقوقي.

 

أستاذ ابوالعباس، الوضع اليوم في موريتانيا يطرح من الأسئلة أكثر مما يقدم من الأجوبة، وتثار هنا بشكل مباشر مسألة احتمال بقاء الرئيس محمد ولد عبد العزيز في السلطة بشكل مباشر أو غير مباشر رغم تصريحات هذا الأخير التي يؤكد فيها نيته مغادرة السلطة في نهاية مأموريتيه الثانية، كيف ترون ذلك سياسياً وقانونياً، وماهي في الأساس احتمالات أن يبقى الرئيس في السلطة من وجهة نظركم؟

لعلّ الجواب الأوضَح والأحصف هو أنّ كلّ شيء ممكن. إلاّ أنّ جملة من المراقِبين، وحتّى من السياسيين، يميلون إلى أنّ الجنرال عزيز لن يبقى في السلطة (ليس هذا رأي المخضرم محمد محمود ولد أماه، الذي يعتقِد أنّ زعيم النِّظام قد لا يُغادِر وأنّه قد يحكم بدُمية من الجماعات الإثنيّة المغبونة في السياسة أو أنْ يُغيّر قواعد اللعبة الدستورية ويُحوّل الثقل التنفيذي لصالح مركزِه الجديد). أعتقِدُ أنّ هؤلاء المراقبين والمعارضين يريدون، لشتّى الدواعى، صرف احتمالِ بقاء الجنرال عزيز وعدم طرحِه في الساحة السياسيّة والتعامل مع مغادرتِه أنّها أمرٌ واقِع. ليس هذا بالضرورة تفكيراً رغائبياً (وإنْ كان الجنرال قد صرّح أنّه سيبقى في السياسة بعد مغادرته الحُكم). صحيحٌ أنّ الجنرال لم يحترِم التزاماته بحماية النظام الدستوري في 2009 ولا التزاماته تجاه حلفائه السياسيين الكُثر. إلاّ أنّ عدّة معطيات تختلِف هذه المرّة. أولاً قدّم رئيس النظام في 2016 و2017 تطميناً وتعهّداً لصحافة غربيّة، فرنسيّة وإيطاليّة، وليس للرأي العام الدّاخلي (إلاّ لاحقاً جدّاً) أنّه سيحترِم الدّستور. (وطبعاً ليس هذا كافياً؛ ففي ذات الوقت، أي تحديداً الفترة ما بين سبتمبر 2015 حتّى أكتوبر 2016، وهي المسافة ما بين منطلق حِوارٍ سياسي واختتامِه بقصر المؤتمرات بنواكشوط، كان يريد مقايضة تمديد السنّ القانونية للترشّح بفتح أغلاق المأموريات، ما يُتيح له الترّشح لمأموريّة ثالثة. وفي هذه الأثناء دعم بشكل نشِط، من خلال وزراء العدل والمالية ومدير الوكالة الموريتانيّة للأنباء، مشروع المأمورية الثالثة. ولكن هذه الصفقة فشلت في إقناع المعنيين، وبالأخص حِزبي “التحالف الشعبي التقدّمي” و”تكتّل القوى الدِّيمقراطيّة”. وهو ما أسفر عن انهيار حوار أكتوبر 2016). ولعلّ الاقتناع بفشل مشروع المأمورية الثالثة قد نشأ في هذه الفترة.

ثانياً، ثمّة عدّة مؤشِّرات توحي بأنّ النظام القائم يشهد عملية بحث عن خليفة أو دُميّة تأتي في الواجِهة في 2019. هنالك عملية تحسّس (“تِمراس”) لأصلح رجالات النِّظام، كتلك التي يقوم بها رُعاة الضأن لاستخراج أهيئها للذبح أو العَرض. ويبدو أنّ ثمّة تدافعاً، إنْ لم يكن تجيّشاً وتعبئة، في أوساط المجموعات المنضوية في النظام، كُلٌّ منها خلف زعيمه ومُرشّحِه.

ثالثاً: يبدو في ذات الوقت أنّ السلطة دخلت في عملية إعادة فتح المجال العام بعد أنْ أغلِق في السنوات الماضية (من خلال تدمير الصحافة وإنهاء التعدّدية السياسيّة في مؤسّسات الدّولة، وتمثيل المعارضة في الإعلام العمومي، إضافة إلى نزع تسييس البرلمان بانتخابات 2013-2014 المحدودة التي أحلّت برلمانياً صورياً مكان البرلماني المُحترِف المنتخَب في 2006). تتمثّل هذه العملية في تفعيل الحِزب الحاكم وبذل الطاقة السياسيّة في سبيل ذلك، وفي محاولة التوصّل مع المعارضة إلى اتفاق لإعادة إطلاق العملية الدِّيمقراطية المتعثِّرة منذ انتخابات 2009، آخر انتخابات مفتوحة وشامِلة. هذه التحوّلات توحي بأنّ السلطة مُقبِلة على انتقال سلطوي تتمركز فيه الآليات الدِّيمقراطيّة الشكليّة التقليديّة التي طالما غُيِّبت أو تُفِّهَت. كما أنّها توحي بإرادة الجنرال عزيز لعب دورٍ سياسي من خارج السلطة الرسميّة. وما زال الوقت مبكِّراً لنعرِق كلّ التفاصيل. ولكنّ الحُكم بحزبٍ شعبي كبير، بدل البيروقراطيّة التقليدية أو بالسيطرة عليها، وبزعيمٍ من خارج السلطة هو مشروع ممكن نظرياً (لنفكِّر الآن في الصِّين أو في كوبا، حيث للأحزاب صفة الدّولة وحيثُ تمثِّل جِسماً مستقِّلاً للحكم)؛ إلاّ أنّه صّعب التحقّق في موريتانيا لعدّة أسباب تاريخية وهيكليّة. وفي المقابل يبدو أنّ العسكر يريدون بالفعل تحويل قوتِهم السياسيّة إلى قوة حزبيّة منفصِلة ومفارِقة تحمي مصالِحهم، كما في مصر؛ وفي تلك الحالة فإنّ هذا سيكون تطوّراً مثيراً في السياسة الموريتانية.

 

كيف ترى خطوة مشاركة منتدى المعارضة في الانتخابات المقبلة وكيف هو رأيك فيما وُصِف بالحوار السري بين المعارضة والموالاة؟

-منذ نجاح اللجنة العسكريّة في انقلاب 2008 في إطلاق “الأيام التشاوريّة” (نفمبر 2008)، التي نجح فيها الجنرالات في جرِّ الأحزاب المعنيّة إلى المشاركة في عملية تفويض مرشّحهم، والنظام يلجأ إلى “الحوارات” للتشرعن. وهذه قصة قديمة تعود إلى الأيام التشاوريّة في 2006. وكما يقول تولستوي، وإنْ كان ذلك في مقام المدح، فإنّ “للقنفِد حيلةٌ واحِدة”. عموماً، استخدَم نظام الجنرال عزيز الحوارات السياسيّة لعدّة غايات وظيفيّة: 1-التهدئة السياسيّة بدعوة القوى السياسيّة إلى طاولة المفاوضات لإنهاء التوتّر السياسي، وقد حدث هذا بالأخصِّ في أواخر 2011 ومطلع 2012 عندما ضربت البلاد أزمة جفاف وبطالة تزامنت مع صعود للنضالات المجتمعيّة في سياق الانتفاضات العربية. ثمّ حدث مرّةً أخرى في أكتوبر-نفمبر 2012 أثناء “رصاصة اطويلة”. 2-شراء شرعيّة سياسيّة، خصوصاً عندما يفقد النِّظام شرعيّة دولية تحميه من القلاقل الدّاخليّة، وبالأخصّ الإنقلابيّة المألوفة في السياسة الموريتانيةّ. فقد أنهى النظام أيّة حوارات أثناء ترأس زعيمه للاتحاد الإفريقيّ 2014 أو القمّة العربيّة 2016. وسرعان ما عاد للمفاوضات بعد انتهاء هذه المأموريات. فدعى لحوار في 2013 ثمّ تخلّى عنه في 2014؛ وما إن انتهت مأموريته لرئاسة الاتحاد الإفريقي (سلفاً لموغابي) حتّى دعا لحوار آخر بلا قيود أو شروط في 2015. ثمّ تخلّى عنه في 2016، بدون سبب واضِح بعد انتخابه رئيساً للقمّة العربيّة. وهكذا. 3-محاولة مقايضة تمديد المأموريات بزيادة سنّ الترشّح كما في حوار 2016-2017. 4-تشريع التتويج الذي أعطى النظام لنفسِه بتغيير رموز الوطن وربطها بزعيم النظام، مع أنّ بعض تلك الرموز هي الرّموز الوحيدة التي كان مُجمعاً عليها في سياسة البلاد. 5-إفشال الحوارت لتحميل المعارضة مسؤولية إقصائها. هذه استراتيجية موجّهة للرأي الدولي وللمانِحين (أصبحت موريتانيا في قائمة الدول الأكثر مديونية في عهد الجنرال عزيز) والمُراقِبين الدّوليين؛ وهدفها القيام بعملية انتخابيّة محدودة لا تُزعِج النظام ولا تفرض عليه تقديم تنازلات للديمقراطيّة وللقوى المجتمعية كما تُنجِّيه من الانتصارات الپيروسيّة (نسبة إلى پيروس الإيپيري): الانتصارات الجسيمة والمُكلِّفة. يجب التذكّر في هذا الإطار أنّ النظام ليس متحمّساً عموماً لانتخابات حقيقيّة وقد أجّل الاستحقاقات الانتخابيّة أكثر من مرّة بحيث إن برلمان وبلديات 2006، المنتخبة لخمس سنوات لم يُجرَ إعادة انتخابها قبل 2014 بعد؛ كما أنّه لم يقم إلى حدِّ الآن بترتيبات للانتخابات القادمة باستثناء إعادة إطلاق الحزب الطائعي الكبير في حملة الانتساب في مارس وابريل 2018. يبدو أنّ هذا النوع من التلكؤ في الاستحقاقات وإقصاء المعارضة منها هو ما يطبع حوار إبريل الحالي.

على جبهة المعارضة هنالك طيفيّة سياسيّة متشعِّبة. بشكلٍ عام هنالك اتجاه يرى أنّه يجب الاستفادة من أيِّ انفتاح يُتيح تداخُلاً ما بين الحِزب المُعارِض والقوى المجتمعيّة من أجل التوسّع والتمدّد. هذه هي استراتيجية التواصليين وقد وُصِفت، ربّما دونما حيف، بأنّها براغماتيّة. إنها استراتيجية تمليس العضلات وتنميّة الذات حتّى يأتي أمرُ الله. من الجلي أنّ التواصليين لا يبحثون عن خبرات ديمقراطيّة بدليل أنّ منتخَبيهم صامِتين وأغلبُهم الساحِق هو بلا أثر وبلا صوت في البرلمان والبلديات (بحكم صوريّة هذه المؤسّسات، من بين أشياء أخرى). في المقابل هم يبحثون عن تجارب انتخابيّة وسياقات للعلاقات العامّة تُبقي تحالفاتهم وتوسِّعُها. إنّ هدفهم الوصول. وهم في هذا يُتهمّون بأنّهم وصوليون.  وهنالك استراتيجيّة الحدّ الأدْنى، التي تريد إبقاء المؤسّسة الحزبيّة في المشهد السياسي (أي المشاركة الواحِدة التي تُبقي هذه الأحزاب مرخّصة) وخصوصاً على مشارِف تغيّر واجهة النظام السياسي، ما قد يعني إعادة فتح المجال العام مستقبَلاً وإعادة المعارضة التقليديّة لدورِها الطبيعي في النظام السياسي. يبدو أنّ هذه هي استراتيجيّة “اتحاد قوى التقدّم”. ولكن ليس هنالك ما يضمن نجاح هذه التجربة. وربّما لا ينجح هؤلاء في استدراك القطيعة الجيليّة التي أتاحتها سياساتهم عبر السِّنين؛ وقد يجدون أنفسَهم خاسرين لرصيدهم المعنوين الذي كسبوه من الخيار الراديكالي، وفي نفس الوقت غير مستفيدين من عملية انتخابيّة لا تبدو مضمونة. وهنالك الاستراتيجيّة الراديكاليّة، التي ترى أنّ الجنرال عزيز ليس شريكاً سياسياً لكثرة نكثه بوعوده وعدم احترامِه لأبجديات اللعبة (مثلاً أفشِيت اللقاءات السريّة معه- بما فيه لقاء رئيس تواصل معه، الذي يبدو أنّه كان صفقة ثنائية لضمان هدوء إزاء النِّظام ومؤتمر عام مؤمّن للحزب المعارض- وتراجع عن كلماتِه أكثر من مرّة؛ وأكثَر من الحوارات والمفاوضات التي لا فائدة لها دون تقديم أيّة تنازلات أو تقدّمات). ويرى هؤلاء أنّ الحَلّْ هو المقاطعة، خصوصاً أنّه لا توجد ضمانات بأنّ الانتخابات ستكون نزيهة (مثلاً ضُرِبَ مانحو المعارضة وناخبوها الكِبار؛ ولا توجد حتّى ضمانات فنيّة أو رقابيّة أنّ الانتخابات ستكون سليمة وأمينة). هذا هو موقِف حِزب التكتّل. يرى الكثيرون أنّ هذا الموقِف شريف، ولكنّه انتحاري ديمقراطياً؛ وقد ينجم عن ذبول وأفول تقاليد “التكتّل” العريقة وعدم نجاتِها إلى الأجيال اللاحقة. إنّ “التكتّل” يبدو هنا كالقرصان الأحمر في رواية جَيْمس كوپر بنفس العنوان، وهو أيضاً مؤلِّف “آخر الموهيكانس”. إنّ القرصان الأحمر، كآخر الموهيكانس، يموت مناضِلاً، واقِفاً في وضعيّة الرّبان، ممسكاً مِقود السفينة وغارقاً في الأعماق. ولكن كما يقول المثل الجزائري: “الثور ما يْعيّوه قْرونو”: الثور لا تُتعِبُه قرونه: فأغراضُه وعُدّته، وعاداته هي جزءٌ منه.

عموماً ما زال الوقت مُبكِّراً لنعرِف ما سيحدُث في هذه الانتخابات. ما نعرِفه من انتخابات 2013 و2014 واستفتاء 2017 على جزئيتِها هو أنّ النظام لم يعد شعبِياً في المدن (وهذا هو المعيار، فمنذ العهد الطائعي والمدن الكبيرة تابِعة للمعارضة). أمّا في “الأعماق” (وقد بدأ هذا المصطلح الفرنسي عن la France profonde الذي أسقطه الاستعمار على البوادي في منطِقتنا منذ أواخر القرن 19، ثم استنقذه ولد ابريد الليل في 2009 يغدو تعرِفة اصطلاحيّة في السياسة المحليّة، أحياناً بمنتهى السوقيّة) فإنّنا نعرِف أنّ الرّيْع والكومبرودار في تضعضع في الأرياف والجهات (أي في “الأعماق”) بسبب زيادة الانقسامات العشائرية وبسبب زيادات الجفاف والتمدّن، ما سيُصعِّب على السلطة، حتّى بعدّة أحزاب دولة، احتكار القبيلة الواحدة في خندقِها. نعرِف أنّ تحوّل أبناء الطبقات الزراعية والتنمويّة، المرتبِطة بالرّيْع والمرتهِنة لتقسيم الأعلاف والأسمِدة، إلى عُمال وموظّفين متذمِّرين وغير مرتبطين بالدولة ليس في مصلحة الدولة الرّيعِيّة. إنّ كلّ هذه التطوّرات الاجتماعيّة ستُصعِّب على النظام انتصاراته السهلة في مناطِق السهول الشرقيّة. أعتقِد أنّه في ظلّ انتخابات متوسِّطة الشفافية، كانتخابات 2006 مثلاً، فإنّ المعارضة ستعود قويّة في البرلمان والبلديات.    

 

مبدئيا يفترض أن الأسماء الثقيلة ستغيب عن انتخابات ما بعد 2019 وهذه الشخصيات على رأسها مسعود ولد بلخير – محمد ولد عبد العزيز- احمد ولد داداه وهؤلاء هم من يصنعون المشهد الحالي بقعل تراكمات سياسية وغياب أي تأسيس جدي لتجديد الطبقة السياسة كيف تتصورون هذ انتخابات؟ هل يصنع هذا المثلث وضعا سياسيا ويسلمونه لغيرهم؟ وهل يمكن -برأيك- في اطار هذا المنطق ان تتوصل المعارضة الى مرشح توافقي؟

-طبعاً ليس لكلّ هذا الثلاثي نفس الصِّفة: مسعود ولد بولخير وأحمد ولد داداه هما “كرُكبتَيْ البعير الأدرم”، كما يقول التشبيه الجاهلي. وصحيح أنّهما قد تنافَسا في الفترة 1991-1994 على زعامة المعارضة (اتحاد القوى الدِّيمقرا”طيّة) حتّى بحث بولخير عن ميدانه في “العمل من أجل التغيير” 1994-2001. ويُقال بأنّ مسعوداً قد سدّد انتقامَه الأخير في الشوط الثاني في انتخابات 2007 الرِّئاسيّة عندما دعم شخصاً من خارج تقليد المعارضة ضدّ أحمد ولد داداه. ولكنّهما، على تنافُرِهما، نتيجة تاريخ تراكُمي في التجربة السياسيّة الحديثة للبلد منذ ما بعد الاستقلال. الأوّل مناضل تاريخي من أجل الحقوق الأهليّة والاعتراف بالمكوّنات المغبونة والمُضطهدة. والثاني من الجيل المؤسٍّس، الذي ساهَم في إرساء المؤسّسات الوطنيّة بشكلِها الكلاسيكي؛ ثم اغبرّت قدماهما في النضالات من أجل الدِّمقراطيّة من مطلع التسعينيات حتّى الآن.  إذاً نحن نتحدّث عن لبنات كاريزمية ثابِتة في التاريخ السياسي للبلد. أما الجنرال عزيز فهو حادِث على السياسة، مثلُه مثل سياسي العسكر. وإرثُه إرث القوّة أكثر مما هو إرث التقليد السياسي الطبيعي. وبالتأكيد فله إرثٌ من نوعٍ ما، بحكم أنّه كان يحكم البلاد منفرِداً منذ عقد. ولكنّ غيابه سيكون أكثر ألفة وطبيعيّة من غيابِهما.

ليس هنالك شخصٌ لا يُستغنى عنه. وكما يُقال في مجالس العزاء عندنا فـ”لا مُصيبة بعد رسول الله”. أنا كُنتُ من اتجاه أراد أن تعمل هذه الشخصيات التاريخيّة، أقصد أحمد ومسعود، على توريث نضالاتِها ومأسَستِها في اتجاهات وتقاليد حِزبيّة تاريخيّة. أعتقِد أنّ تدمير المسار الانتخابي، بما فيه انتخابات 2013-2014، قد أعاق هذه العملية في كلا الاتجاهيْن، وإنْ بطُرُق مختلِفة. في صيف 2016 تكلّمت مع ولد داداه في الموضوع. ويبدو أنّ لديه وعياً بهذه الضرورات. وهو يُحيل إلى إرادات السلطة إعاقة حزبه (ليس فقط من خلال تغريم ممولِّي الحزب واضطهاد ناخبيه الكِبار، بل حتّى على المستوى الإداري والسياسي). إلاّ أنّ جزءاً من هذا الإخفاق في ترجمة الكاريزميّة إلى مؤسّسات (والبقاء رهن ما سمّاه ماكس فَيبَر بـ”ابتذال الكاريزما”routinization of charisma) يعود- بتقديري- إليهما معاً. ولكن الوقت لم يخلَص بعد في ذلك. وإذا آمّنا بالطيفيّة السياسية الحداثيّة فأعتقِد أنّ السياسة الموريتانية تحتاج أحزاباً اشتراكيّة ديمقراطية تكون في الوسط وتسعى إلى توسيع المشاركة السياسيّة وتوسيع الطبقة الوسطى). برأيي أنّ هذه هي المُهمّة التي يجب أن توكل للقياديَين: توريث النضال ومأسسة الإرث.

فيما يخصّ فِكرة المرشّح التوافُقي: لدى مشاعِر مختلِطة، كما يقُال بالإنجليزي. من ناحيّة أعتقِد أنّ هذه الفِكرة هي فكرة سِحريّة، وأنّها لا تخلو من عشائريّة، وأنّها أحياناً فاشيّة. فهي تُعطي للسياسة شكلاً فريقاتياً وثنائياً بين “مُرشّحِنا ومُرشّحِهم”؛ وهكذا فإنّها تُساهِم في قتل السياسة وتحويلِها إلى صراع مجموعات بدل صراع البرامِج. من ناحية أُخرى أعتقِد أنّ ما يُسمّى بالمعارضة يبدو أحياناً حِزباً واحداً، بالنظر إلى وشائجه واتفاق كثيرٍ من تقاليده السياسية (خصوصاً مع ميله إلى إسكات على الفروق البرنامجية فيه) وتاريخِه النضالي (باستثناء “انخرامات” قليلة). وبهذا المعنى فإنّ فكرة المرشّح التوافُقي لا تبدو سيئة؛ بل تبدو تفعيلاً للمعارضة من حيث هي كذلك.

 

يقول الشارع الموريتاني إن أغلبية الرئيس ليست راضية تماما، هل أنت ممن يلمسون عدم رضى في صفوف الاغلبية وما تأثير مثل هذا الغضب على تجذر النظام ومتانة تحصينة خصوصا وهو يسير الى منعطف 2019؟

-لقد دأبتُ دوماً على أخذ هذه القِصص مع مقدار من المِلح، كما يقول الإنجليز: أي بالشكِّ فيها. والسبب هو أنّ هذه الأغلبية تبدو لي سُلطانية وليست ائتلافيّة. ما يُسمّى هنا بالأغلبية هو في غالبِه أحزاب بيعة لا أحزاب تعاقد (باستثناء أحزاب “الكرامة” و”الاتحاد من أجل الوحدة”، وسابِقاً “التجمّع من أجل الدِّيمقراطيّة والوحدة”، التي لها شراكة مُقعّدة وظيفيّة واضِحة، وأحياناً تاريخيّة)؛ وهي في الخندق الموالي لأنّها تتوقّع أدواراً ريْعيّة لقيادييها ومناضليها الأماميين. ولذا فإنّ معظم هذه “الأحزاب” هي واقِع الأمر جماعات ضغط وجماعات وساطة وتسكّع في الأروقة؛ وكما تقول سياسة العشائر البيضانيّة فإنّها تُستخدَم لكيْ “تُغلّظ بها الحسبة”. وصحيحٌ أنّ الكثيرين منها يتذمّرون من عدم الاعتراف بهم ومن استخفاف النظام بهم ونكث وعودِه لهم. ولكنّهم لا يمتلِكون الأداة للنضال الحِزبي المستديم. لقد دأب الماركسيون على السخرية من انتهازيّة البرجوازيّة الصغيرة ومن ضِباع الكومبرودار: فهم يدورون مع الرّيْع وفي التقاليد، علاوة على أنّ نقمتَهم، إنْ وُجِدت، هي نقمة محافِظة. صحيح أنّ الأغلبية شهِدت ثورة على الرئيس في 2008؛ ولكن هذا كان بفعل مؤثِّر خارجي هو العسكر. وطبعاً لا يمنع هذا أنّ بعض هذه الأحزاب تُلقي بالفوطة وتنسحِب أحياناً من الأغلبيّة. إلاّ أنّ ذلك هو شأن الأحزاب المؤتلِفة، لا الجماعات السلطانيّة ولوبيات البيعة (وقد فعلته أحزاب “حاتِم” و”تمام” تماماً كما نفض التواصليون أيديهم من النظام بعد تحالف وجيز في أواخر 2009 حتّى 2011). في 2019 ستُجيّش هذه الجماعات في العمليات الميدانيّة للماكنة الحاكمة، هذا إنْ جرت انتخابات تنافُسيّة، وإلاّ فإنّها ستظلّ تدور حول الكوكب الحاكم.

 

من منطق سياسي براغماتي يصعب على المعارضة عدم قبول سياسيين ذوي سمعة سيئة خصوصا إذا لم تكن هنالك أحكام قضائية واضحة قد تحولهم لأصحاب سوابق، لكن المعارضة الموريتانية التي تكافح من اجل محاربة الفساد تضم فعلا شخصيات توصف برموز الفساد ومعروفة في هذا الاطار على الصعيد الوطني، كيف برأيك ينجح “الغسيل السياسي” في جعل مفسدين سابقين من رموز برنامج إصلاحي، وكيف ترى ظاهرة احتواء الأحزاب السياسة المعارضة للمفسدين في انظمة كانت تعارضها؟

يُقال بأنّ هذا هو سبب ميل جزء من جمهور المعارضة المناهِض للفساد إلى كفّة النِّظام في أغسطس 2009، بحيث فاز النِّظام بالانتخابات وفاز لأوّل مرّة، وربما المرّة الوحيدة، في المُدن الكبيرة المعروفة بالمشاعِر المُعارِضة. أنا لا أصدِّق هذا، وإنْ كنتُ أرى أنّ له بُعداً ثانوياً. إلاّ أنّ ثمّة ظاهِرة غريبة في المشهد السياسي الموريتاني: وهي أنّ الرأي العام يقبل من النِّظام أن يحتوي “المُفسِدين”، الذين يعتقَد أيضاً أنّهم أصحاب كفاءة وخِبرة؛ ولكنّه لا يقبل أنْ تترجَم هذه الخبرة والكفاءة إلى المعارضة. يبدو أنّ الرأي العامْ- الذي يجبُ أنْ نعترِف الآن بأنّه مُعقّد ولا يستجيب للنمطيات التقليدية التي تمايز بين خاصّة عميقة وعامة سطحيّة- يُقدِّم تقييميْن: واحد براغماتي للنِّظام وآخر أخلاقي للمعارضة. أعتقِد أنّ الرأي العامّْ لم يقبل من المعارضة واقعتيها السياسيّة، ولكن ليس إلى حدِّ مبايعة النظام. ويبدو أنّ حِزب “تواصل” الإسلاموي، الذي قام بقفزة كبيرة من الشعبوية إلى البراغماتيّة قد ذاق أيضاً من هذا النّوع من النقد. إلاّ أنّنا- نظراً لعدم تحقّق منافسات ديمقراطيّة مستديمة ونزيهة- لا نعرِف حجم هذه الانتقادات، وبالأخصّ حجمها الانتخابي والأيديولوجي.

بشكلٍ عام أرى أنّ ظاهِرة “الواقعيّة السياسيّة” قد غيّرت من شكل المعارضة وبنيتِها. وللمفارقة فإنّ هذه الظاهِرة حدثت في 2005 و2006، وبدون ضجة كبيرة. فحينها بدأت المعارضة، وبالأخصِّ “تكتّل القوى الدِّيمقراطيّة”، استقبال القوى الطائعية وأفسحت لها الصفوف الأماميّة في الترشيحات والقيادة. لقد قدّمت المعارضة عموماً نفسَها أنّها قادرة على قيادة البرجوازيّة والطبقة العليا والتفاهم مع المجتمع الدّولي على أساسيات المرحلة والإجماع الدّولي. أعتقِد أنّ هذا أدّى إلى تخفيف الرّاديكاليّة عن المعارضة، وبالأخصِّ عن أحزابها الاشتراكيّة (التكتّل والتحالف والتقدّم)، التي أصبحت تصوغ لغتَها الاشتراكيّة القديمة في قالب كاينزي وفي لغة المجتمع المدني الليبراليّة. وبهذا المعنى فإنّني أتفِق مع المبدأ في سؤالكم. نعم تمّ دفع المعارضة إلى اتجاه براغماتي إصلاحوي؛ وهو ما أفقدَها حيويتَها. برأيي أنّه لو كان المجال العام مفتوحاً لنهضت تقاليد راديكالية في هذه الأحزاب تُدافِع عن إرثها وتقاليدها الأقدم.  

 

هنالك توق شبابي مهم الى التغيير وهو توق يعززه الوضع الاقليمي والدولي خصوصا مع التغيرات السياسية في فرنسا وقبلها موجة الربيع العربي والتغييرات السياسية في افريقيا، لكن هذا التوق محاط بجغرافيا سياسية ملغمة، كيف ترى وضع الحركات الشبابية وماهي اهم اخطائها منذ 25 فبراير 2011 وحتى الآن؟ وهل يمكن تصحيح مسارات الحركات الشبابية في ضوء الموسم السياس القادم؟

-إنّني أتحسّس مُسدّسي كلّما ذُكِر مصطلح “الشباب” في السياسة الموريتانيّة. هذه المصطلحات الهوياتيّة والوحدوية تقتل السياسية بجمعِها الظالِم والمظلوم والتقدّمي والرّجعي في نفس البوتقة والمطالبة بحقوق هذه البوتَقة من حيثُ هي كذلك. وهكذا فإنّ هذا يُحوِّل السياسة من صِراع مصالح إلى صراع هويّات وصراع برامِج إلى صراع أجيال. أعتقِد أنّ “الحركات الشبابيّة” محكومة بنفس منطِق الحركات الأسنّْ، وهو أنّه تتقاطعها الولاءات العشائرية والطبقيّة وأنّها مخترقة بطموحات الارتقاء كما هموم الكِفاح؛ فيها الرجعي والتقدّمي، فيه المحافظ والراديكالي. ولذا فإنّ نسبة التسرّب والتأييد والتسلطن فيها لا تختلِفُ كثيراً عن نسب الانتهازيّة والانبطاحية في غيرِها. يتعيّن علينا تقديم منظار مُختلِف لقراءة هذه الحركات وفهما.

بشكلٍ عام: نهضَ كثيرٌ من هذه الحركات (لنفكِّر الآن في حركات “رفض” و”محال تغيير الدستور” وحركة الشباب الموريتاني ” MJM”، وحتّى المجلس الأعلى للشباب) في أجواء إغلاق المجال العام، بعد التّدمير الذي أجراه عليها الجنرال عزيز. وبالتالي بقيّت وحيدة المناورة وفقيرة في الخيال السياسي. ولم تستطِع معظم هذه الحركات التحوّل إلى أجسام سياسيّة ذات رسالة جيليّة. في المقابل فإنّ حركات كـ”25 فبراير” و”لا تلمس جنسيَتي”، مرّةً أخرى ” المجلس الأعلى للشباب ” مثلاً تبدو أكثر احترافية وإن كانت ضحيّة تسخيف المجال العام وإغلاقه.

 

دبلوماسيا كيف تقيم وضع موريتانيا وعلاقاتها بدول الجوار ومراكز التأثير العالمية، نتحدث هنا عن موريتانيا الرسمية واهم الانعكاسات للوضع الدبلوماسي القائم؟

-تشهد البلاد تحوّلات مَعلميّة في هذا الشأن. تاريخياً استطاع نظام ولد الطايع تخليص موريتانيا من المحاوريّة التي طبعت سياسة الثمانينيات، والتي أنتجت جملة من اللجان العسكريّة المتصارعة بناءً على اصطِفافات خارجية متوزِّعة على الولاء للمصالح الليبيّة-الجزائرية أو المغربيّة-الفرنسيّة. وكما هوّ معلوم فقد تصارعت هذه اللجان وألقت ولاءاتها أيضاً بظلّها على الحركات السياسيّة. ورغم أنّ “الأحداث” مع السنغال في مطلع التسعينيات وحرب الخليج كانت فرصةً للسياسة المحاوريّة لموريتانيا، إلاّ أنّ مبدأ الحياد طبع الدِّيبلوماسيّة الموريتانية منذ أواخر الثمانينيات، ما وفّر كثيراً من القلاقل. وفي واقِع الأمر لم يكن الأمر غير انتهازيّة طائعيّة تمّ فيها الانتقال من المعسكر العربي إلى المعسكر الفرنسي ومن الفرنسي إلى الأميركي (لنفكِّر الآن في القطيعة مع العراق في منتصف التسعينيات وقضيّة اعلي ولد الداه والعلاقات مع إسرائيل والتقارب مع أميركا منذ 1998 الخ). وكان العامل الثاني في هذا هو سياسة “المشكل: صِفر” إقليمياً (صحيح أنّ موريتانيا عادت للقلاقل مع السنغال في قضية الأحواض النهرية في 2001 ودعمت المقاومة ألازوادية في مالي منذ منتصف التسعينيات) إلاّ أن الوضع الإقليمي ظلّ مستقِراً في عمومِه.

هذه السياسة المُحايدة قد تعرّضت لتهديد كبير منذ صعود الجنرال عزيز: ورجعنا إلى السياسات الهيدالية المتقلقلة. فقد نهض توتّر مع الجزائر في 2009-2012 ومالي 2009-2012 (مع دعم أغ باهنغاه ودعم مشروع ساركوزي لخلق دائرة النار، التي تمتصّ التهريب، في شمال مالي) ومع السنغال في 2013 و2018 ومع المغرب في 2016-2018. وعلاوة على هذا فقد دخل النِّظام في المحورية العربيّة، مراهِناً على الخندق السّعودي، وبائعاً إياه قطع العلاقات مع قطر. (طبعأ جزءٌ من هذه المقاطعة ثنائي يتعلّق بدعم قطر من خلال ماكنتِها الدعائية للإسلامويين الموريتانيين المعارضين، والذين يُسيّر بعض نشطائهم مراكز إخباريّة في المؤسّسات الدِّعاية لقطر). حاصل القول إنّ الحياد الديبلوماسي التاريخي لموريتانيا قد ضُرِب في مقتلِه، ما أورَثَ ديبلوماسية متاجِرة أو مغاضبة.

من ناحيّة أخرى لا تبدو الديبلوماسيّة البديلة التي أتى بها نظام الجنرال عزيز أحسن حالاً. ففي فترة وجيزة حاولت الدِّيبلوماسيّة الموريتانيّة لعب دورٍ مُبادِر من خلال دعم وساطات لحلّ الأزمة في ليبيا في 2011 وفي سوريا 2012 وساحل العاج 2012 وغامبيا 2016. ولكنّ هذه المبادرات فشلت فشلاً ذريعاً. جزءٌ من هذا يعود إلى ضيق أفق الدِّيبلوماسيّة، التي عُيّن عليها أحياناً ناقصو الكفاءة (كيلا نقول أكثر). وفي أحيانٍ معيّنة تعلّق الأمر بغياب وزن أو براعة دولية لموريتانيا ممّا أضعف ديبلوماسيتَها وجعلها تلعب أدواراً بدت أحياناً كبيرة جداً وطموحة إلى حدّ الدونكيخوتيّة.

 

حقوقيا تكاد الأمور تفلت من يد العقلاء، فيما يتعلق بالفيديوهات التي يتم تسريبها من حين لآخر، والتي تؤكد على انتهاكات حقوقية فظيعة سواء تلك التي تمارسها السلطة أو يمارسها الأفراد، كيف تقيمون دور وسائل التفاعل في كشف الانتهاكات، وما انعكاس ذلك على الساحة الموريتانية بكل خصوصيتها الثقافية والاجتماعية؟

-هذه الممارسات المافيوية الحادِثة على سياسة موريتانيا هي ممارسات تأسيسيّة لدى النظام. فقد أراد من خلال أعضاء مجلس الشيوخ لي ذراع الرئيس المخلوع من خلال جرِّ زوجتِه للمحاكمة في 2008. واستخدم نفس التكتيك ضدّ الرّاحل با امباري، رئيس مجلس الشيوخ والرئيس المؤقّت في 2009. وقام نفس النظّام بجمع الغوغاء لرجم بيت الرئيس الرّاحل، اعلي ولد محمّد فال، بعد رفضِه تأييد انقلاب 2008. وفي السنوات اللاحقة استخدَم النِّظام التسريبات ضدّ المعارضة لتشويه سمعة أفرادِها والتمهيد لمحاكتِها. لقد قيم بهذا ضدّ المعارضين أمثال المصطفى ولد الإمام الشافعي وولد غدّة.

إنّنا نمتلك عدّة معطيات أنّ رئاسة الجمهورية قد استثمَرت في شراء أجهزة التجسّس، كما توضِح قضية الإيطالي كريستيان بروفيزيوناتو (2015-2017)؛ كما أنّ بها خلية تبدو استخباراتيّة. وعلاوة على هذا فإنّ ما كان يُسمّى بالمخابرات السياسيّة في عهد ولد الطايع، ويقصدُ به الوكلاء السياسيون للنظام، الذين كان النظام يدسّهم في الأحزاب لاختراقها ويدفعهم لإطلاق بالونات الاختبار السياسي لصالح النظام، قد أصبحوا اليوم مجموعات نشطة في الفضاء الافتراضي وبالأخصّْ في مجموعات التواصل الافتراضي. وقد تمّ تكوينهم ليلعبوا دور المثقّفين العموميين أو الناشِطين الميدانين وعُهِد إليهم بمهام التسريب وتلطيخ السمعة. باختصار لقد حوِّلت مهمّاتُهم من مهمات الطبخ السياسي إلى مهمّات التعبئة وخلق الرأي العام. ولذات السبب فقد تمّ استخدام أجهزة القضاء والشرطة والدّرك لتوسيخ السمعة، كما حدث في قضية ولد غدّة وفي قضيّة ولد محمد ولد الدّباغ، اللذيْن سرّبت المؤسّسات السيادية وثائقهما.

 

أمنيا تلقى النظام الموريتاني إشادات مهمة من عدة دول ومراكز قرار خصوصا فيما يتعلق باستيراتييجية محاربة الارهاب، وهذا ربما أحد الجوانب المضيئة في السياسة الامنية، هل ترى الموضوع بنفس الطريقة ام لك وجهة نظر مختلفة؟

-نعم، هنا مربط الفَرَس. فقد نجح النظّام الدّولي في إيكال مهامٍ وظيفيّة لدُوّل المُحيط أو الجنوب العالمي. وفي هذا الإطار أوكِل لموريتانيا العمل جنباً إلى جنب التشاد وكينيا وأثيوبيا وأريتريا في حراسة أسوار أوروبا من خط دفاع ثانٍ؛ ومنع تسرّب الهجرة والمخدّرات وتجارة المخدّرات ومقاومة العُنف السياسي المُصاحب لتدمير اقتصاديات هذه البلدان، الذي، للمفارقة، تقومُ به دول المركز من خلال تحكّمها الاقتصادي وتوجيهيها لسياسات الدُّول الفقيرة والتحكّم في نخبتِها وفي توزيع الثروة فيها. وإلى حدِّ الآن يمضي المُخطّط بشكل جيّد. صحيح أنّ نظام الجنرال عزيز لم يدخل في التعبئة في عملية “سرفال” 2013. ولكنّه سرعان ما دخل عملية “برخان” 2014 ومترتّباتِها؛ بما فيها لعب أدوار لمبادرات السلام في شمال مالي؛ وبما فيه المشاركة في قوّات حفظ السلام في إفريقيا.  إنّ إيكال هذه المهام الأمنية لدول الحِزام الإفريقي يعني تقويّة المركبّات العسكريّة بها وتحويلها هذه الدوّل إلى دوُل غساسنة ومناذرة. وهو يُصعِّبُ عملية الانتقال الدِّيمقراطي خصوصاً مع تسيّس العساكر؛ وعلاوة على ذلك فهو يزيد الانفاق العسكري بهذه الدول الفقيرة على حساب الإنفاق الاجتماعي والإنفاق على التعليم وغيره.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى