لقاء مع الشاعر نزار قباني

كان النهار مشمسا ودافئا على غير عادة أيام الربيع، هنا، ومن حسن الحظ أنه لم يكن هناك أثر للمناخ الرمادي الذي يميّز المدينة. في مقهى مجاور لمسرح وممثلين أخذوا يتدربون على مرأى من رواده، جلسنا، وكان ثالثنا في تلك الجلسة صديق أرمني يتميز بالكثير من الظرف يدعى همبار نركيزيان، وهمبار هذا كان مصور “النّهار” المشهور قبل أن يبتليه الله بمدينة الآلام لندن ويصبح من سكانها الكادحين. كان نزار مبتهجا بصورة استثنائية في ذلك اليوم، ولم يكن أيّ منا يتخيل أن هذه الجلسة ستكون الأخيرة، وأن ما سيقوله نزار في تلك الجلسة سيكون كلامه الأخير.

لن أصف هذا الكلام، سأتركه في عهدة القراء، لكن نزار قباني قال في هذا الكلام الكثير مما أراد له أن يكون شهادة أخيرة في قضايا الشعر والحرية والمنافي والأوطان.

نشر هذا الحوار أولا في مجلة “المشاهد السياسي” أواخر مايو/أيار 1997 وفي العدد اليتيم من مجلة “القصيدة” المنشور في صيف 1999. واستعادته هنا هي استعادة للكلام الأخير لشاعر العرب الأبرز في القرن العشرين.

◄ قبل عشر سنوات قلت لي إن الشعراء فاتحو طرق، وإنهم الأجدر بقيادة الثورات. ما الذي طرأ على تصورك لصورة الشاعر بفعل التطورات والأحداث والوقائع المختلفة التي حدثت في عالم الشاعر منذ أن أطلقت هذا الوصف؟

نزار قباني: قبل عشر سنوات كانت أحلامي الطفولية أكبر مني. وكنت أتصور أن الشعر سلطة لا تقهر، وأنه يستطيع أن ينفخ على الأشياء فيحولها إلى جبال من اللؤلؤ والياقوت.

بعد عشر سنوات من الإحباطات، والتراجعات والهزائم، تكسّر الحلم إلى مليون قطعة. ولم يعد الشاعر يجلس إلى يمين الخليفة، كما كان يحدث في العصرين الأموي والعباسي، وإنما صار يجلس تحت نعل الخليفة.

في الماضي الجميل، كان الشاعر وزيرا للثقافة، ووزيرا للتربية والتعليم، ووزيرا للدفاع، ووزيرا للإعلام ينطق بلسان القبيلة شعرا.

أما شاعر اليوم فهو عاطل عن العمل، ينتقل من مقهى إلى مقهى. ومن خمارة إلى خمارة. ومن منفى إلى منفى، ومن عصفورية إلى عصفورية.

إن عظمة الشعر مرتبطة بعظمة الدولة. إذا ارتفعت رايات الدولة ارتفعت رايات الشعر. لذلك لا أحلم بأن يكون لدينا شعر عظيم ما دامت حالتنا القومية هي زفت وقطران.

وإذا كان قوّاد المنظمات الثورية قد داروا على كعوبهم 180 درجة مئوية. فماذا بوسع الشاعر العربي أن يفعل وليس في يده سوى بندقية عثمانية قديمة. و28 طلقة رصاص هي كل حروفه الأبجدية، والحروف الأبجدية لا تكفي لقتل دجاجة.

ويؤسفني أن أقول إن نصف الشعراء العرب أصبحوا من “المرتزقة”… أو “الإنكشاريين”، الذين يقاتلون في صفوف السلطة ضد شعوبهم، ويقبضون رواتبهم من خزينة السلطان.

لذلك أعتذر عن أحلامي القديمة في “عسكرة” الشعر، لأن السلطات الحاكمة في الوطن العربي، قد نزعت أوسمة الشعراء، وقلعت النجوم عن أكتافهم، وقلعت ألسنتهم.

أحلى قصائدي

◄ هل يمكنك تقسيم كتابتك إلى محطات كبرى يمكن إضاءتها من خلال علامات محددة؟ “طفولة نهد”، “قالت لي السمراء”، “هوامش على دفتر النكسة” و”أبوجهل يشتري فليت ستريت” مثلا. هكذا، ومن قبل ومن بعد، ولو كنا سنحتكم إلى ذائقتك وعلاقتك الخاصة بشعرك، فهل إن “أحلى قصائدي” وهي مختاراتك أنت، هي مساحة نهائية للاختيار، أم أن فكرة الاختيار الشخصي تتطلب إعادة نظر تشمل جديدا، لئلا تصبح سقفا للقارئ؟

نزار قباني: المحطات الانتحارية في شعري هي حسب تصوري القصائد التالية:

1- خبز وحشيش وقمر

2- هوامش على دفتر النكسة

3- بكائية لجمال عبدالناصر

4- متى يعلنون وفاة العرب

5- المهرولون

6- أنا يا صديقة متعب بعروبتي، وأخيرا قصيدة “أنا مع الإرهاب”.

أما “أحلى قصائدي” فليس أكثر من دليل سياحي يعطيك أسماء الفنادق والمطاعم والمسارح والكافتيريات.

وسبب إصدار هذه المختارات هم الناس أنفسهم، فقد كانوا يسألونني في معارضي الشعرية “أستاذ.. بين خمسين مجموعة شعرية لك نحن حائرون. ماذا ننتقي؟ فانتق لنا، اعمل معروفا، كتابا يكون على ذوقك. علما بأن موازنتنا لا تسمح بشراء أكثر من مجموعة واحدة”. وهكذا كان. وجمعت القصائد الأكثر جماهيرية وشعبية في شعري وطبعتها في كتاب واحد اسمه “أحلى قصائدي”.

لماذا تتصورون أن الأجيال لا بد من أن تقتل بعضها بعضا حتى تعيش الأجيال (اليافعة)، أو (الطالعة)، أو المستقبلية؟

“أحلى قصائدي” كان اختيارا وقتيا وعمليا، ودليلا سياحيا كان صالحا قبل عشرين عاما.

أما اليوم فإن مدينتي الشعرية تغيرت كثيرا. وصار فيها أوتوسترادات كثيرة، وفنادق كثيرة، وحدائق كثيرة، ومطارات كثيرة. وطائرات جامبو، وكونكورد، وأقنية فضائية. لذلك لا بد من إصدار “الدليل المفيد إلى شعر نزار قباني الجديد”.

◄ القصيدة: في ثقافتنا العربية تتميز علاقة الشعراء مع النقاد بالتوتر، وباللامسؤولية، وسوء الفهم. ما الذي يجعل الصورة هكذا؟

نزار قباني: العلاقة بين الشعراء والنقاد ليست متوترة فقط. ولكنها “مبهدلة” وعدوانية كعلاقة الزلاقط بالزلاقط. والزنابير بالزنابير.

السبب في نظري ناشئ عن تقارب المهن بين الشاعر والناقد. وغيرة فطرية لدى النقاد تجعلهم يعتبرون القصيدة “ضرة” لهم.

العمل الشعري هو عمل حضاري بالدرجة الأولى، لذلك لا بد أن يُقرأ بحضارة من قبل الناقد. أنا من الشعراء الذين استبيح دمهم مئات المرات. لكنني في كل مرة كنت أمسح دمي وأضع قطعة “بلاستر” على جرحي. وأجلس على مكتبي لأكتب قصيدة جديدة.

ودعني أعترف لك أن النقاد لم ينفعوني بشيء. لم يستطيعوا أن يقدموا لي أيّ خدمة لغوية، أو عروضية، أو بلاغية، أو جمالية. لذلك أدرت لهم ظهري. وشققت طريقي بأظفاري. وقررت أن أتعلم من الجماهير كيف يُكتب الشعر.

الناقد والقصيدة

◄ حَمَلَتْ إلينا تفاسيرنا الخاصة للمناهج النقدية الحديثة آفة الناقد النرجسي الذي يقدم نقده على الشعر الذي يقرأ أو يدرس. بما جعل النقد يغرق في مصطلحاته وأوهامه ويعطل الممارسة التي تجعل من النقد كشفا، ومن الناقد صاحب كشوف. بصرف النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع منهج الناقد. ما هو تصورك لدور الناقد وعمله؟

نزار قباني: أنا معك أن نرجسية نقّادنا هي الحائط الذي يفصل بين الناقد وبين النص الذي ينقده. لقد قرأت عشرات المقالات لنقاد عرب من مصر ومن المغرب العربي حاولوا فيها إضاءة وجه الحداثة في الشعر، لكنني عجزت عن فهم اللغة الهيروغليفية التي بها يكتبون، والواقع أنهم كانوا يحاولون إضاءة وجوههم هم لا وجه القصيدة، والتعتيم الكامل على النص المنقود.

ليس هناك، إذن، كشوف في النقد ولا من يكشفون. بل هناك تشويش ظاهر على إنجازات القصيدة الحديثة. ورأيي أنه لا بد للناقد من أن يمتلك حدا أدنى من المحبة والتعاطف مع النص الذي يقرأه. فلا يمكن لناقد أن يقترب من القصيدة وهو مدجج بكل أسلحة الدمار الشامل، وبكل غرائز الحيوانات الأفريقية.

وبانتظار الناقد الحضاري الذي يقترب من النص بسلوك “الجنتلمان”، لا بسلوك قطاع الطرق، سوف تقوم جبال من الملح بين النقاد والشعراء.

◄ القصيدة: هناك فوضى كتابة شعرية تسود الوطن العربي. الإعلام بأولوياته غير الثقافية ترك للجميع الحبل على الغارب، والنقد مضى إلى التمترس في حصنه الأكاديمي، أو إلى تحالفاته مع الأكثر قدرة على “الهيمنة” والحضور “بحق أو بغير حق” من أشكال إبداعية، وأسماء أدبية وأصوات “واصلة”.

نزار قباني: الجرائد اليومية لا تكترث كثيرا بالشأن الثقافي وليست الصفحات الثقافية فيها سوى ديكور متنافر ومتناقض أشبه بكشكول المسحر. ومن هنا هذه الفوضى التي تمدّ فيها كل خنفساء رجلها إلى الصفحة الثقافية لتستعرض فتنتها.

مع قدوم القرن الواحد والعشرين، سيحمل الشعر حقائبه، ويسافر إلى جزيرة في عرض البحر. لا توجد فيها تكنولوجيا متقدمة. ولا أقمار صناعية. ولا تلفونات موبايل… ولا إنترنت

وربما لعبت الوجهات ومراكز القوى دورا كبيرا في نشر قصائد لا علاقة لها بالقصائد. وكلمات متقاطعة لا علاقة لها باللغة العربية أو باللغة السنسكريتية. إن “الأمن الثقافي” لا يقل أهمية عن “الأمن القومي”. وما دام الحبل فالتا، والحدود مفتوحة إلى كوبنهاغن وغير كوبنهاغن، فقد يأتي يوم تصبح اللغة العبرية اللغة الأولى في جامعاتنا ومدارسنا.

ثمن تافه

◄لو كنا سنحتكم إلى وعينا المعرفي وضمائرنا كمبدعين، هل يبدو الصمت هو الجواب الأمثل في ظل اللحظة العربية الحالكة التي نعيش، والتي ارتفعت فيها الأصوات القبيحة، وراجت صور الانحطاط الخلقي، أم أن قول الكلمة الصادقة هو الضرورة النبيلة، بصرف النظر عما يمكن أن تجره على صاحبها؟

نزار قباني: المبدعون يصرخون كل واحد بطريقته. الشاعر بشعره، والرسام بألوانه، والمثال بكتلة الحجر، والموسيقي بأوتاره. ولذلك يستحيل أن أتصور مبدعا مصابا بالخرس. حتى الطبيعة لا تتوقف عن الكلام. فالريح تتكلم، والرعد يتكلم، والموج يتكلم، والزلزال يتكلم، والأعاصير تصرخ بعصبية، وعالم الحيوان هو الآخر لا يتوقف عن الهديل، والصهيل، والنباح، والمواء والزمجرة. فكيف يمكننا أن نطلب من الكاتب العربي أن يبلع لسانه ويتحول إلى حائط. أو إلى جبل من الجليد.

الثمن الذي يدفعه الكاتب هو ثمن تافه جدا. والمبدعون خلقوا ليزرعوا القنابل تحت هذا القطار العثماني العجوز الذي ينقلنا من محطة الجاهلية الأولى إلى محطة الجاهلية الثانية.

أما الكُتّاب الذين يتكومون تحت الشراشف، بانتظار رحيل العاصفة الثلجية، فسوف يبقون معزولين عن قضايا مجتمعاتهم كالدببة القطبية!

لا شاعر يهددني

◄ هناك عقدة في الثقافة العربية، لدى الأجيال الجديدة هي عقدة قتل الأب، والذين يريدون أن يريحوا ضمائرهم من نتائجها يستنجدون بفرويد. ما هي نظرتك إلى هذه المسألة. وفي المقابل هل تظن أن استمرار هذه العقدة خلق عقدة قتل موازية أخرى هي عقدة قتل الابن، مثلا. تأسيسا على هذا التشخيص، هل تساوي بين العقدتين، أم أن روح التمرد الشعري لديك تسمح بتفهم دوافع الأولى، وتستدعي منك الوقوف أطول عند الثانية بما تهدد به الفن من سلوك مضاد لما هو يافع أو طالع أو مستقبلي لو شئت؟

نزار قباني: بكل صراحة أقول لك إن كل هذه التفسيرات بوليسية، ولو كان القائل بها فرويد. لماذا تتصورون أن الأجيال لا بد من أن تقتل بعضها بعضا حتى تعيش الأجيال “اليافعة”، أو “الطالعة”، أو المستقبلية؟
فوضى كتابة شعرية تسود العالم العربي

لا أحد يستطيع قتل المتنبي، أو أبي تمام، أو أبي نواس، أو أبي فراس الحمداني. وسيوف الحداثيين قصيرة جدا حتى تستطيع أن تطال رقبة المتنبي!

واسمح لي أن أتخذ من نفسي مثالا. فأنا شاعر لا يزال يقف على منبر الشعر منذ خمسين عاما، ولكنني لا أشعر أن هناك أي شاعر حداثي يهددني، ويستطيع تقويض سلطتي الشعرية.

إنني بعد نصف قرن من الكتابة الشعرية، أشعر أن جمهوريتي لا تزال رافعة أعلامها، وأن جمهوري يمتد على مدى ثلاثة أجيال، منذ الأربعينات حتى التسعينات، فلماذا لم يقتلني فتى في السابعة عشرة أو فتاة في الخامسة عشرة حتى اليوم.لأنهم تربّوا شعريا على يديّ. في حين أن شعراء الحداثة لم يربوا دجاجة، أو عصفورا، أو أرنبا!

وجه محمود درويش

◄ يُخيل إلي أنك واسطة العقد بين شعراء 50 سنة من الشعر العربي الحديث، لغتك الخاصة، الحارة، النافرة، بين اللغات الشعرية الأخرى، المتألقة في ريادتها للبساطة، أشاعت جماليات شعرية سائرة على الألسن، وفي ذائقة الأجيال، هي التي أهّلتك للمكانة التي انتزعتها من الماء إلى الماء. ما هي مصادرك ومن هم آباؤك الشعريون، وكذلك من هم الأحب إليك بين الشعراء العرب الحديثين؟

نزار قباني: كل شعراء العالم من عرب، وفرنسيين وإنكليز وأسبان هم آبائي، قرأتهم جميعا… ونسيتهم جميعا. فحتى تكتب شعرا جميلا وباهرا يجب أن تلغي ذاكرتك.

منذ عام 1944، عام صدور “قالت لي السمراء”، قررت أن تكون لي لغتي الخاصة، وبصماتي الخاصة، وأزيائي الخاصة كمصممي الأزياء العالميين فالنتينو، وبيار كاردان، وإيف سان لوران.

كنت أريد أن أكون شاعرا له “ماركته المسجلة”. فأنا لا أحب الألبسة الجاهزة. ولا القصائد الجاهزة. لذلك صنعت لكل امرأة ثوبا خاصا بها. ولكل رجل عباءة خاصة به.

منذ خمسين عاما قررت أن ألقي القبض على 200 مليون عربي بالشعر وحده، بالحب وحده، بالبساطة وحدها، بالديمقراطية وحدها.

وها أنذا بعد خمسين عاما أشعر أن قصائدي تسافر من الماء إلى الماء. وأن لي ركنا في كل بيت عربي من المحيط إلى الخليج. أشرب فيه قهوتي، وآخذ قيلولتي. من بين جميع الشعراء العرب الحديثين لا أرى إلا وجه محمود درويش.

برق الريادة

◄ ما هو تعريفك الخاص للريادة في الشعر والفن: أهي مثلا علامة زمنية ثابتة لأن الزمن وضعها، أم أنها حركة جمالية في النص، وبالتالي لا تقتصر على جيل من دون آخر؟

نزار قباني: الريادة هي خروج على المألوف اللغوي، والزمني، والاجتماعي. هي حالة كهربائية تكهرب مدينة من المدن، أو بلدا من البلدان، أو طبقة من الناس، في مرحلة زمنية محددة، ثم تنتهي الصعقة الكهربائية ويرجع الناس إلى حالتهم الحجرية. وهذا ما جرى في عصر النهضة الأوروبية، فجاءت الكلاسيكية، وبعدها الرومانسية، وبعدها الرمزية، وبعدها التكعيبية، والسوريالية، وما بعد السوريالية والدادائية.

وحصل الشيء ذاته في مصر عصر النهضة، وفي سوريا ولبنان، والعراق، فبدأ الشعر، والمفكرون والرسامون، والموسيقيون بالخروج من سلطة الماضي، والبحث عن آفاق جديدة للتعبير.

ليس للريادة توقيت معلوم. ولا قانون معلوم. إنها برق لا يعرف أحد متى يأتي، ولا متى ينطفئ. لقد أنتجت أوروبا بين القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر أجمل أعمالها الموسيقية والشعرية والتشكيلية على أيدي بيتهوفن وبرامز وليست ورحمانينوف، وشوبير، وتشايكوفسكي، ورفائيل وميكيل أنجلو، وماتيس، ورينوار، وبول فاليري، وبودلير، ورامبو، وشكسبير، وشيللي وبايرون، وتشيكوف، ومايا كوفسكي.

دمشق علمتني أبجدية الجمال الأولى، ولعب بيتنا الدمشقي الجميل في حي \’مئذنة الشحم\’ دورا عظيما في صنع ذائقتي وتثقيف عيني

وحصل الشيء نفسه في العصرين الأموي والعباسي. ومع دخول الحكم العثماني سقط الشعر ودخلنا في عصر الانحطاط.

وانقطع التيار الكهربائي عن أوروبا المبدعة في بداية القرن العشرين ودخلنا في صراع موسيقي وشعري وتشكيلي. وأصبح من مشاريع العلماء استنساخ كل شيء، بما في ذلك الشيطان.

بيروت ودمشق

◄تحتل بيروت مكانة خاصة في نفسك وشعرك. وهي تتأهب الآن لتكريمك من خلال رموز ثقافية فيها. لو كانت المدن تضيف فما الذي أضافته بيروت على ما أعطتك، من قبل، دمشق؟

نزار قباني: بيروت لا تتكرر بسهولة بالنسبة إليّ، ولو كان بإمكاني أن “أستنسخ” بيروت الخمسينات مرة ثانية. لما ترددت لحظة واحدة مهما كانت كلفة الاستنساخ. بيروت أعطتني جرعة من الحرية دوختني، ولا أزال دائخا وأنا جالس في بيتي بلندن.

أعطتني بيروت كل ما يحتاج إليه العصفور ليطير، وكل ما يحتاج إليه المركب ليبحر. وكل ما تحتاج إليه السمكة لتسبح. وكل ما تحتاج إليه الأصابع لتصبح بيانو.

كنت أذهب إلى كورنيش بيروت الساعة الخامسة صباحا وأعود في السابعة.. ومعي “خمس قصائد” تنبض في سلتي كما تنبض الأسماك في سلال الصيادين. بيروت كانت تيار كهرباء بقوة عشرة آلاف فولت. وفيها كتبت من عام 1966 إلى 1982 أجمل ما كتبت من شعر في تاريخي الشعري.

أما دمشق فقد علمتني أبجدية الجمال الأولى، ولعب بيتنا الدمشقي الجميل في حي “مئذنة الشحم” دورا عظيما في صنع ذائقتي وتثقيف عيني.

العالم وحش

◄نحن الآن في زمن “العولمة” حسب مصطلحات السياسة والفكر، أي أننا في “أممية واقعية” بعد “الأممية المتخيلة” التي تهاوت عمارتها مع انهيار الاتحاد السوفياتي، تلك كانت كلمات “السياسي” وتوصيفاته للعالم، بأي كلمات يصف الشاعر عالمه المنظور والمصير الذي آل إليه إنسانه، وماذا في وسع الشعر أن يفعله لهذا الإنسان؟

نزار قباني: كل ما يجري في العالم الحالي مؤامرة على الشعر. فالعلم أصبح مغرورا إلى درجة أصبح فيها ربا… يلعب بالجينات، والهندسة الوراثية، وقوانين الطبيعة بحيث صار إنتاج البشر لا يحتاج إلى رجل وأنثى لإتمام مهمة التوالد.

وهذا يعني أن قصائد الغزل لن يكون لها نفع ومواعيد الحب لن تكون لها جدوى، ودواوين الشعر لن تكون لها فائدة. والسهر في ضوء القمر سوف يكون إضاعة وقت.العلم سوف يقتل كل شيء. ثم يقتل نفسه.الكومبيوتر وحش. والأقنية الفضائية وحش. والموسيقى الحديثة وحش. والأزياء الحديثة وحش. والأطعمة السريعة وحش. والرسم الحديث وحش.

لذلك لن يبقى في مقهى “العولمة” كرسي واحد يجلس عليه الشعر. ولن تكون في الحدائق العامة مقاعد يجلس عليها العشاق. ولن تكون في الصيدليات حبوب لمنع الحمل. لأنه لن تكون هناك نساء يحملن ولا رجال يعرفون ما هي الأبوة!!
مع نزار على الجسر بين الثاوث بنك وكاتدرائية سانت بول ايار/مايو 1997

مع قدوم القرن الواحد والعشرين، سيحمل الشعر حقائبه، ويسافر إلى جزيرة في عرض البحر. لا توجد فيها تكنولوجيا متقدمة. ولا أقمار صناعية. ولا تلفونات موبايل… ولا إنترنت.

طفولتي مضاد حيوي

◄ لو كنا سنفر من هذه الصورة، ما الذي يتجول في نفسك اليوم، وينتمي إلى تلك النفس اليافعة التي كنتها في بيتك الدمشقي في جوار الجامع الأموي؟

نزار قباني: كل شيء في نفسي ينتمي إلى هناك. إلى الطفولة، والبراءة، وعريشة الياسمين، وسجادة صلاة أمي. وقهوة أبي في الصباحات الدمشقية. وأسراب السنونو، ونافورة الماء الزرقاء. هذه هي “الزوّادة” التي حملتها منذ خمسين عاما على كتفي. والتي حمتني، من الجوع والعطش والعري الثقافي.

طفولتي هي المضاد الحيوي Antibiotic الذي أحمي به نفسي من الديناصورات الأميركية الجديدة التي تريد افتراس العالم.

الشعر والناس

◄ مرة كنت في أرض الشعر الصافي، في خالص فكرة الفن للفن. ومرة أخرى في قلب حمأة الشعور العام للناس حيث تهيمن على العربي الآثار الفادحة لأفعال السياسة والساسة فيه إلى درجة استعارة لغة الهجاء من تراث أبائك وأجدادك. ومرة تخرج معلنا إعراضك عن القصيدة التي تهجو القسوة والبشاعة والانحطاط، وميلك إلى قول الحب، وتصويره، والانتصار له. كيف تبني “قرارك الشعري”، وكيف يتحدد ميلك التعبيري نحو العالم والأشياء؟

نزار قباني: أنا لا أحدد. ولا أقرر.. ولا أبرمج قراراتي الشعرية. كل يوم يدخل في خاصرتي سيف فأصرخ من الوجع. وكل يوم يزاد هوان الأمة العربية، فألجأ إلى البكاء. وكل يوم أرى كيف “يتشرشح” أجدادي على طاولة المفاوضات مع “إسرائيل”، فألعن “سنسفيل أجدادي”!

ذهب “زمان الوصل في الأندلس″. وانتهت مرحلة “طفولة نهد”، و”قالت لي السمراء”، و”أشهد أن لا امرأة إلا أنت”، و”أحبك. أحبك. والبقية تأتي”.

أنا لا أستطيع أن أرقص على جثة أمة تقترب من الانقراض. لا أستطيع أن أكون شاعرا من البلاستيك، يشتغل على البطاريات. لا أستطيع أن أتغنى بأمجاد النهدين. وأمجاد أمتي تسحق بالبولدوزرات.

الناس كفروا بالعشق، وبـ”مجنون ليلى”. وبـ “طوق الحمامة”. وبمرحلة “الحب العذري” الذي هو أشبه بعلك اللبان. بعد قصيدتي الأخيرة “أنا… مع الإرهاب”. وبعد آلاف المكالمات الهاتفية والفاكسات التي تلقيتها من الوطن ومن المغتربين في كل مكان. تبين لي أن كل العرب يريدون أن يكونوا إرهابيين، ويريدون أن يحملوا السلاح ضد التخلف والغيبوبة والاندثار، ويريدون أن يقرأوا شعرا يشبههم.

اليوم أكتشف أن نظرية الفن للفن، في زمن الكوليرا، هي خيانة عظمى. وأن الشعر الذي لا يشتبك بهموم الناس، ودموعهم، وقضاياهم المصيرية، سيذهب إلى سلة النفايات.

اليوم أكتشف أن نظرية الفن للفن، في زمن الكوليرا، هي خيانة عظمى. وأن الشعر الذي لا يشتبك بهموم الناس، ودموعهم، وقضاياهم المصيرية، سيذهب إلى سلة النفايات

قصيدة النثر

◄ قدمت مرارا هجاء لقصيدة النثر، وأنت أحد شعرائها. هل أسمي لك قصائدك النثرية؟ ما الذي حملك على ذلك؟ ولماذا تبدي نفورا من كلمة “الحداثة” وأنت عمليا أحد كبار شعراء الحداثة العرب؟

نزار قباني: أنا لا أحقد إلا على الرديء من الكتابة، سواء كانت قديمة أو حديثة، إن ما يسمي نفسه شعرا من دون أن يكون شعرا يهينني، ويهين ذوقي وثقافتي.إنني لا أطلق الكلام على عواهنه. ولا أفتري على الموهوبين من شعراء قصيدة النثر، لأنني أعرف أنني واحد منهم.

ولكن “سفراءكم” إلى العالم، كانوا “مبهدلين”، وأميين، و”يتفركشون” بالفتحات، والضمات، والكسرات، والفاعل، والمفعول به، ويخلطون ما بين أبي الطيب المتنبي، وما بين صاحب “مطعم مروش”.

◄هناك دعاء للنبي محمد (ص) يخاطب فيه الله بقوله: “يا مقلب القلوب ثبت قلبي على إيمانك”. ما هو الإيمان الذي يجعل من الشاعر الرقيق والحساس والمقاتل معا شخصا متقلبا؟

نزار قباني: التقلب لدى الشاعر هو أساس عبقريته. فهو ليس مسمارا مدقوقا في حائط. ولا صحن “بالوظة” مصنوعا من النشاء. ثم إن ما يقصده الرسول في دعائه إلى الله، يعني أن يهبه الشجاعة. وأنا أدعي أنني من أكثر الشعراء شجاعة.

الجمال والموت

◄ ما الذي يجعل السياسي يغار من الشاعر إلى درجة التمثل بقابيل؟ أهو الجمال الذي اجتذب دم هابيل إلى ساعة المصرع؟ أم القدر المأساوي لـ”قابيل” المرفوع إلى درجة اللعنة، أم هو شيء آخر؟

◄ نزار قباني: نعم… الجمال كان دائما دافعا إلى القتل. وجمال الشاعر والكاريزما الشعبية التي يتمتع بها، تجعله كسيدنا يوسف هدفا إلى الغيرة حتى من قبل إخوته. وبما أن “السياسي” هو قبيح أصلا، فلا بد له أن يقتل كل ما هو جميل حوله. ليبقى محتفظا بكرسي السلطة.

◄ أفهم من خطابك الشخصي نثرا وشعرا أنك مع السلام وضد “عملية السلام”. أهو موقف أخلاقي حسب تعبير إدوارد سعيد، أم شخصي تاريخي، أم هو تعبير عن عدم القدرة على الأخذ بـ”أسباب العصر” بما يجعلك واحدا من رجال عصر قديم؟

نزار قباني: إذا كان “التوقيع على شهادة موتي” يعني أنني من رجال العصر القديم. فأنا قديم جدا. وإذا كنت أرفض الدخول في المزاد المفتوح، لبيع مئذنة الجامع الأموي، وقبر محيي الدين بن عربي، وبرج بابل، وأهرامات مصر، وقصائد أبي الطيب المتنبي، ولغة ابن المقفع، فهذا لا يعني أنني لا أفهم في الواقعية والبراغماتية والديبلوماسية.
الأمير الدمشقي.. 17 عاما على الرحيل

إنني ضد أي براغماتية تغتالني، وتصادر تاريخي، ولغتي، وثقافتي، وتمحوني من خارطة العالم. إن موقفي ليس أخلاقيا، أو شخصيا، أو انتقائيا، أو طوباويا، أو شعريا، إنه موقف وجودي. والمسألة بكل بساطة هي أن أكون، أو لا أكون. إنني أعتقد أن السلام مع “إسرائيل” مستحيل. ولو بعد عشرة آلاف سنة. فهذه الأرض لا تتسع لنا ولها أبدا. فهي تريد أن تقطع سلالاتنا عن آخرها. ونحن متمسكون بسلالاتنا حتى آخر طفل من الخليل، ويافا، ونابلس، وبيرزيت.

قضيتنا مع “إسرائيل” لا علاقة لها بالفلسفة، والتنظير، وعلم النفس، والمواويل، والقصائد. إنها قضية تتعلق بحياتنا أو موتنا. ولا مفاوضات أبدا مع الموت.

لا كيف ولا متى!

◄ لكل قصيدة يكتبها الشاعر خبرة خاصة غير مستعادة لا جماليا ولا زمنيا. ومع ذلك أسأل: كيف تبني قصيدة؟ كيف تتلمس الخيط الرفيع بين ما نسميه الإلهام، وبين الصناعة، والشعر لدى العرب إحدى الصناعتين؟

نزار قباني: ليس في الشعر كيف؟ ومتى؟ ولماذا؟ فمن المستحيل إلقاء القبض على قصيدة وهي تغزل قميصها الحريري.لو كان الشعر صناعة، لكان حرفيو “خان الخليلي” أمراء الشعر. ولو كان وحيا لكان السحرة والمنجمون والراقصون في حلقات الذكر من كبار الشعراء. الشعر زلزال داخلي يضربنا من حيث لا ننتظر.

وعندما نخرج من تحت الأنقاض، نجد القصيدة إلى جانبنا في سيارة الإسعاف. الشاعر هو آخر من يعرف جنس المولود الذي وضعه، صبي؟ أم بنت؟ أم وردة؟ أم حمامة؟ القصيدة هي ذلك الطفل الجميل الذي يأتينا بعد خمسة آلاف سنة من الحمل!

رائحة الياسمين

◄ بمناسبة عنوان ديوانك “أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء” كيف يكون انطباعك الأول الحر، وأنت تقرأ، مثلا، ديوانا شعريا لامرأة تحت عنوان “أنا امرأة واحدة وأنت قبيلة من الرجال؟”

نزار قباني: ليس عندي تفرقة عنصرية، أو ثقافية، أو جنسية، بين رجل وامرأة. فعندما تصدر امرأة ديوانا شعريا تحت عنوان: “أنا امرأة واحدة وأنت قبيلة من الرجال” سوف أذهب إليها حاملا باقة ورد، وأقبّل يديها من الوجه والقفا.

◄ كيف تقضي يومك، وأين تتمشى في لندن، حيث لا بحر، ولكن هناك نهر قاتم، وسماء واطئة صلبة كالرصاص، هل لديك ياسمينة في البيت، أم أن المكان الوحيد الباقي للياسمين هو القصائد؟

نزار قباني: يوم وصلت إلى لندن في شتاء 1952 لأعمل دبلوماسيا فيها، ذهبت صباح اليوم التالي إلى حديقة هايد بارك. وعندما بدأت السماء الرمادية تمطر على رأسي وعلى جريدتي، شعرت أنني أغتسل من غباري الصحراوي.

منذ ذلك اليوم قامت علاقة عشق بيني وبين السماء اللندنية، وكانت أسعد لحظاتي هي اللحظات التي كنت أضيع فيها تحت الضباب بين بيتي ومركز عملي.

البط الإنكليزي، والسنجاب الإنكليزي، والديمقراطية الإنكليزية، هم أصدقائي. لذلك أجلس على ورقة الكتابة ملكا. وأتجوّل بين حروفي ملكا. وأنام على صدر قصائدي نوما عميقا. “ويسهر الخلق جرّاها ويختصم”.

حملت معي من دمشق ثلاث شتول ياسمين. ولكنهن لم يقاومن فراق تراب الشام، وماء الشام، وصحبة أهل الشام. فمتن حزنا وحنينا إلى أرض الأندلس.

جسد الياسمينة الرقيق لا يتحمل صقيع الشمال، وقسوة المنفى. لذلك لا تشمون رائحة الياسمين الدمشقي إلا في دواوين شعري.

حصان الكلمات

◄ صوتك نافذ ومؤثر في ملايين القراء العرب، له القدرة على التسلل إلى رسائل العاشقات، وهمس العاشقين، تكاد سلطة الجمال التعبيري في كلماتك أن تبز بتأثيرها سلطة أي زعيم أو حاكم عربي. هل يقلقك سلطانك هذا على ذائقة الناس، هل تخاف على هذه السلطة من تبدل الذائقة؟

نزار قباني: الحمد لله الذي كرمني خلال حياتي، وأتاح لي أن أرى وجهي مرسوما في عيون مئتي مليون عربي من الماء إلى الماء… بعد خمسين عاما أشعر أن المنتصر الكبير هو الشعر، وأن الرابح هو حصان الكلمات الجميلة والصادقة والشجاعة.

راهنت على ديمقراطية الشعر… فنجحت.

لماذا لم يقتلني فتى في السابعة عشرة أو فتاة في الخامسة عشرة حتى اليوم؟ لأنهم تربّوا شعريا على يديّ. في حين أن شعراء الحداثة لم يربوا دجاجة، أو عصفورا، أو أرنبا!

وراهنت على بساطة اللغة… فنجحت.

وراهنت على وجدان الجماهير… فنجحت.

وراهنت على حرية المرأة. وحرية الوطن. فنجحت.

بعد خمسين عاما أقمت “جمهورية للشعر” لا تزال ترفع أعلامها… وأسست حزبا للشعر هو حزب الأكثرية، فمن أي شيء أخاف؟إنني لا أزال أغطي الذائقة الشعرية العربية منذ عام 1944 حتى اليوم.وعندما تتغير هذه الذائقة… “بيفرجها ربك”.

اعترافات الشعراء

◄ أنت أب طبيعي وبالضرورة لكثيرين من الشعراء العرب. بعضهم كمحمود درويش اعترف لك بهذه الأبوة. وبعضهم يمر عليها متكتما. كيف تنظر إلى فكرة “اعتراف” الشاعر بأثر شاعر آخر فيه، أو بخشيته من هذا “الأثر” وذاك الاعتراف؟

نزار قباني: لا أعلق على قضية الاعتراف أهمية كبيرة. فهناك شعراء طبيعيون. وهناك شعراء لديهم عقدة النقص التي لا تسمح لهم بأن يعترفوا بأن الشعر كان موجودا قبلهم. الأمر لا يعنيني كثيرا، ولا أريد أن أتحول إلى وكيل نيابة مهمته أن يجمع إفادات الشعراء، واعترافاتهم.

التصابي الشعري

◄ ما رأيك بفكرة أن يسقط الشاعر بعض شعره بعد زمن طويل على نشر هذا الشعر، لأسباب تتعلق بزوال رضاه على المستوى الفني لبعض قصائده. هناك شعراء فعلوا هذا أو بدلوا في ما سبق وكتبوا ونشروا من قصائد بحيث عادوا فأصابوا رضى عن فنيتها. هل فعلت الشيء نفسه؟ أم أنك تعتبر أن مستوى القصيدة مرتبط بزمنه وبتطور رؤية الشاعر وأدواته الفنية، ومن الجرم إحداث أي تبديل في القصيدة بعد نشرها في كتاب؟؟

نزار قباني: الشاعر الذي يعمد بعد ثلاثين أو خمسين عاما إلى إعادة كتابة شعره، يذكرني بالغانيات اللواتي إذا تقدمت بهن السن يعمدن إلى شدّ وجوههن، لاستعادة شباب القصيدة مرة أخرى.

وهذا في رأيي من أعمال الغش والتزوير والتصابي. لأن وجه القصيد غير قابل لـ”الشد” والتعرض إلى الجراحات التجميلية.إنني سوف أكون معتوها لو خطر ببالي الآن أن أعيد كتابة ديواني “طفولة نهد 1948″ من جديد.فلا النهد بقي على حجمه، وتماسكه، وعنفوانه، ولا أسناني اليوم قادرة على عض السفرجل الدمشقي… ولو ارتكبت هذه الحماقة لانكسرت جميع أسناني. وسقطت مقتولا تحت أشجار السفرجل!

في التسعينات أستطيع بكل سهولة أن أكتب “تنويعات نزارية على مقام العشق”… ولكنني لا أستطيع أن أكتب “قصائد متوحشة”، و”الرسم بالكلمات” 1966:

“فصلت من جلد النساء عباءة/ وبنيت أهراما من الحلمات…/ لم يبق نهد أبيض… أو أسود…/ إلا زرعت بأرضه راياتي”. هذا كلام دخل في التاريخ. ولم يعد بإمكاني أبدا استنساخه، على طريقة النعجة الاسكتلندية “دوللي”!
قصائدي تسافر من الماء إلى الماء

إنكار الشمس

◄ أعود لأسأل حول العلاقات بين الشعراء. كيف تنظر، مثلا، إلى عقدة “التناكر” بين الأجيال الشعرية العربية، وأين يكمن الخلل في رأيك؟

نزار قباني: الخلل خلل أخلاقي بالدرجة الأولى. لأن المبدع الذي يحاول تحطيم كل شاعر ولد بعده خمس دقائق. ويزدري كل شاعر ولد قبله بخمس دقائق، هو بولدوزر شعر.ثم إنني لا أفهم هذه الخطوط الحمراء التي ترسمونها بين شعراء “خمسينيات وستينيات وسبعينيات وثمانينات وتسعينيات.

هل تكفي عشر سنوات لتكوين ملامح شاعر، وتحديد هويته؟ إن تعبير “التناكر” يدل على خوف من الآخرين. وعدم الثقة بالذات. فإنكار الشمس لا يعني توقفها عن الشروق، وإنكار شكسبير لا يعني إلغاءه من الأدب الإنكليزي.

حجر صحي

◄ لماذا عندما يدور الكلام، وتدور الأحكام حول الشعر الحديث. يجري في كل مرة الاحتكام بين الشعراء والنقاد إلى القاعدة التي تهيمن عليها الرداءة، وليس إلى الندرة الجميلة التي تعطي الجديد والجميل في الشعر؟

نزار قباني: “الندرة الجميلة” مختبئة. أما الرديئون، فهم الذين يعرضون ملابسهم الداخلية علينا. ويعكرون مزاجنا ونحن نقرأ جريدتنا الصباحية. هؤلاء الشعراء هم بالتأكيد بحاجة إلى حَجر صحي… فلماذا لا تقدمون بلاغا عنهم إلى السلطات التي تعني بالنظافة العامة والمحافظة على البيئة؟

◄ الناس عندما يكبرون يهدأون. لماذا تزداد صخبا وتوترا كلما كبرت؟

نزار قباني: لا أوافق على هذا الطرح. فهناك ألغام أرضية لا تزال مزروعة منذ الحرب العالمية الثانية. فهل سمعت عن سمكة قرش، قدمت استقالتها إلى البحر؟

وصايا قصائدي

◄ ما الذي تريد من قبل ومن بعد، من كل شيء. من الشعر، من الحياة، من المرأة؟

نزار قباني: من الشعر أريده أن يكون مطرا يغمر كل الناس. وخبزا يكفي لإطعامهم جميعا.ومن الحياة أريدها أن تكون واحة سلام وتسامح وحب. ومن المرأة أريدها أن تتخلى عن وصايا أجدادها، وتطبق وصايا قصائدي:

“إني خيرتك… فاختاري/ ما بين الموت على صدري/ أو فوق دفاتر أشعاري…/ اختاري الحب… أو اللاحبّ…/ فجبنٌ أن لا تختاري…/ لا توجد منطقة وسطى/ ما بين الجنة والنار!!”

الناس قاموسي الكبير

◄ ما هي أهم المفردات التي أدخلتها على اللغة، وباتت مرجعا لدى جهتين: المجمع اللغوي والناس؟

نزار قباني: المجمع اللغوي لا علاقة له بشعري، ولا المعاجم. الناس هم قاموسي الكبير.وإذا أردت أن تعرف عدد المفردات الجديدة في شعري، فاسأل تلاميذ المدارس الابتدائية. اسأل أولاد الحارة. اسأل سائق التاكسي، والممرضة، ومضيفة الطيران، ونادل المقهى، ومعلمة المدرسة، وبائعة الورد، ومذيعة التلفزيون.

إنك ستجدني في كل مكان. من نواكشوط إلى عدن، ومن الدار البيضاء إلى الإسكندرية ومن قرطاج إلى بيروت. وباختصار أقول إن كل فتوحاتي كانت فتوحات لغوية.

الجمال كان دائما دافعا إلى القتل. وجمال الشاعر والكاريزما الشعبية التي يتمتع بها، تجعله كسيدنا يوسف هدفا إلى الغيرة حتى من قبل إخوته

وردة الحداثة

◄ عشرون سنة مرت على غياب عبدالحليم حافظ، وصوته باق في المقدمة، ومن أجمل أغنياته قصائدك التي غناها. هل قامت بينكما علاقة صداقة؟

نزار قباني: عبدالحليم حافظ يختصر تاريخ الغناء والمغنين منذ إسحق الموصلي حتى اليوم. ولو أن الله كتب لهذا المبدع أن يعيش خمسين سنة أخرى، لقلب تاريخ الغناء العربي من أساسه. إنه مُغن ثوري وانقلابي ومغامر من طراز نادر، وحين أعطيته قصيدتي “رسالة من تحت الماء” و”قارئة الفنجان”، التمعت في عينيه آلاف النجوم وقال: شكرا يا نزار. هذا هو الشعر الذي أريد أن أغنيه.

عبدالحليم كان صديقي، وأملي في إنهاء عصر التلّوث الموسيقي الذي نعيشه. لقد أعطت السيدة أم كلثوم كل ما عندها، وذهبت، وأعطى الموسيقار محمد عبدالوهاب كل ما عنده، وذهب. لكن عبدالحليم كان وردة الحداثة التي جفّت، قبل أن تعطي كل عبيرها. وكان قمر الحب الذي غاب قبل أن يملأ سماءنا بأمطار الياسمين.

◄ ثلاث سيدات من ثلاثة أجيال متتالية غنين قصائدك: أم كلثوم، ونجاة الصغيرة، وماجدة الرومي، وهناك غيرهن، أقل شهرة منهن. مَن من بين هذه الأصوات أعطى قصيدتك ما لم تكن تتوقع؟

نزار قباني: لا أحد ينطق قصيدة الشعر مثل أم كلثوم، ولا أحد يستطيع أن يتقمص القصيدة الأنثى مثل نجاة، ولا أحد يستطيع أن يُلبس القصيدة ثوبا حضاريا، مثل ماجدة الرومي.

نزار وعبد الوهاب

◄ حول التجربة التي جمعتك بعبدالوهاب، وكان أعلن مرة، وهو الذي ارتبط بشوقي ومن ثم بك، أنك أدخلته عصر الحداثة عن طريق قصيدتك “ماذا أقول له؟”. كيف كانت العلاقة بينكما؟

نزار قباني: لم يكن محمد عبدالوهاب مغنيا عظيما فحسب، وإنما كان متكلما عظيما ومحاورا كمحاوري الإغريق. عرفته في القاهرة عام 1945 حين كنت دبلوماسيا فيها. ولم أقترب منه شعريا، لعلمي أنه لا يزال يدور في فلك أحمد شوقي.
قباني: أقمت “جمهورية للشعر” لا تزال ترفع أعلامها

وحين لحّن قصيدتي الأولى “أيظن” لنجاة الصغيرة، التي ضربت الآفاق في الستينات، شعر عبدالوهاب أنه بحاجة إلى كلام من نوع جديد، وصياغات جديدة وصور جديدة. وعندما كان في طور تلحين قصيدة “ماذا أقول له؟” التي أقول فيها:

“هنا جريدته..

في الركن مهملة/ هنا كتاب معا… كنا قرأناه…/ على المقاعد بعض من سجائره/ وفي الزوايا بقايا من بقاياه”.

قال له أحد الأصدقاء الذين يترددون عليه: إيه ده يا أستاذ؟ أنت بعدما غنيت “يا جارة الوادي” و”مجنون ليلى” لأمير الشعراء… بتلحن كلام عن السجائر… والجرانيل؟

فتوقف عبدالوهاب عن العزف، وقال لضيفه “اسمع يا سيدي.. أنا ألحن هذه القصيدة لنزار قباني لأنها قصيدة تتحدث عن الحب المعاصر.. وكلمة «سجائر» بالذات.. والجرائد.. هي التي جذبتني.

فهل هناك عاشقان في العصر الحديث يلتقيان في كافتيريا ولا يكون بينهما جريدة وفناجين قهوة ومنفضة سجائر؟”.

هكذا كان يفكر محمد عبدالوهاب. وهكذا كان يبحث عن الجديد والمتطور.

وقد قال يوما لأحد الصحافيين في لبنان: “صحيح أنني ارتبطت طويلا بشعر أحمد شوقي، ولكن نزارا أدخلني بشعره عصر الحداثة”.

نزار وفيروز

◄ لماذا لم تقم علاقة بينك وبين صوت فيروز، وأنت الأقرب إلى هذا الصوت؟

نزار قباني: فيروز كانت من حيث الشعر، مكتفية اكتفاء ذاتيا. فزوجها الراحل عاصي الرحباني كان شاعرا كبيرا وسلفها منصور كان شاعرا بارزا.

ولكن هذا لم يمنع فيروز من أن تغني لي قصيدتين من ديواني “أنت لي” وهما: “لا تسألوني ما اسمه حبيبي” و”وشاية”.

كما غنت لي خلال السبعينات في معرض دمشق الدولي قصيدة تقول بعض أبياتها:

لقد كتبنا وأرسلنا المراسيلا/ وقد بكينا وبلّلنا المناديلا/ قُلْ للذين بأرض الشام قد نزلوا/ قتيلكم لم يزل بالعشق مقتولا/يا شام، يا شامة الدنيا ووردتها/ يا من بحسنكِ أوجعتِ الأزاميلا/ وددت لو زرعوني فيك مئذنة/ أو علقوني على الأبواب قنديلا/ يا بلدة السبعة الأنهار، يا بلدي/ ويا قميصا بزهر الخوخ مشغولا/ هواك يا بردى، كالسيف يسكُنني/ وما ملكت لأمر الحب تبديلا.
نوري الجراح

شاعر سوري مقيم في لندن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى