غسان كنفاني حياته واستشهاده

الزمان أنفو ـ

في الثانية عشرة من عمره، تهجّر غسان كنفاني قسرا من مدينة يافا الفلسطينية عام 1948، وراح يتنقل من منفى إلى منفى طوال حياته. استولى الاحتلال الإسرائيلي على بيته وأرضه، وسرق أحلامه الصغيرة التي نسجها وأراد تحقيقها بين أهله في عكا ويافا في وطنه فلسطين. حوّل عام النكبة أحلام الطفل غسان وأحلام آلاف الأطفال الفلسطينيين من أحلام تليق ببراءة الأطفال وخيالهم الطري إلى حلم واحد عاش غسان كنفاني حياته كلها يناضل من أجله وهو العودة إلى فلسطين. عانى غسان كنفاني من التشتت والضياع بعد تعرفه على وجه الحياة القاسي في سن مبكرة. ومع ذلك، كانت تجمعه مع عائلته علاقة رائعة وساحرة، فوالداه وإخوته هم وطنه والبيت الذي شعر فيه بالراحة والدفء، كبيته في يافا الذي تُظلِّله أشجار البرتقال وتطل شبابيكه على البحر الذي لا يعرف الحدود كأحلام غسان نفسه.

وضع كنفاني قضيته أمام عينيه طوال حياته حتى اغتياله على يد الاحتلال الإسرائيلي عام 1972. 36 عاما وهو يكتب لفلسطين وعنها، يكتب عنا نحن، يكتب هذا الوجع، حتى أضحت كتاباته مرجعية تُلخِّص النكبة والمعاناة والغربة، تُلخِّص معنى أن تكون فلسطينيا. قلم كنفاني الذي لم يكل ولم يهدأ منذ وعيه وانطلاقه للحياة مشحون بكل ما يحمله التهجير من تذبذب وضياع وحيرة، جعل من كتابته وسيلة للنضال والوقوف في وجه الاحتلال ومحاربته، ولهذا السبب اغتالوه، ولكنه لم يخسر روحه الطفولية المرهفة، أحب الأطفال وآمن بهم فكتب قصصا لهم وعنهم، أوصاهم أن ينتظروا ضوء الشمس ويبحثوا عنه، أن يُدخلوه إلى قلوبهم، حتى لا يفقدوا الأمل. فالعودة إلى الوطن أمر محتوم، والنضال هو السبيل الوحيد لذلك.

احتفظ كنفاني بغسان الصغير داخله، غسان الذي خسر طفولته وكبر باكرا، لم يتخلَّ يوما عن الأطفال وحقهم أن يعيشوا طفولتهم بصورة أفضل مما كانت عليه طفولته، لذا كتب عن الأمل والنور، وحلم أن يعود الطفل الفلسطيني إلى موطنه، مؤكدا أن الطفل الفلسطيني هو الحكاية التي بدأت خارج الوطن لكن نهايتها ستكون سعيدة، عندما يعود الأطفال الى أرضهم رجالا ونساء، قاوموا الاحتلال، وعادوا يكتبون الحكاية من البداية، كما يجب أن تكون.

كتب غسان كنفاني قصصا للأطفال نُشرت في كتاب “أطفال غسان كنفاني”، وتعتبر قصة “القنديل الصغير” أول عمل موجه للأطفال كتبه ورسمه كنفاني، وواحدة من القصص التي ترسخت في وجدان الطفل الفلسطيني وأطفال العالم الذين يحلمون ويعملون من أجل أحلامهم، لتتحقق وتصبح حقيقة، كما أحب غسان أن يغرس في نفوسهم.
القنديل الصغير: قصة غسان كنفاني ولميس

ربطت علاقة أبوية استثنائية غسان كنفاني بابنة شقيقته ليلى كنفاني “لميس”، كانت لميس تُلهم كنفاني بشكل ساحر، كما كانت السبب الرئيسي لكتابته لقصص الأطفال والتعلق بالحس الطفولي المدفون في وجدانه، فراح يُعبِّر عن أطفال فلسطين الذين شرّدهم التهجير والاحتلال، والأطفال الذين عاشوا بعيدا عن وطنهم والمكان الذي ينتمون إليه، فأصرَّ أن يكتب عن أحلامهم ويطلقها للنور من خلال كتابة القصص.

اعتادت لميس على سماع الحكايات من خالها، فقد حرص كنفاني على قراءة القصص لها من الحكايات الشعبية والتراثية وأخرى ينسجها من خياله، وجرت العادة أن يهديها قصة بمناسبة عيد مولدها من كل عام حتى صار لدى لميس مكتبة من القصص الخاصة بها مهداة من كنفاني، وفي عيد مولد لميس الثامن قدّم لها قصة خيالية بعنوان ” القنديل الصغير” التي تحوّلت إلى عمل أدبي مميز ومختلف في عالم كتابة قصص الأطفال وتحوّلت كذلك إلى أعمال مسرحية وتلفزيونية.
اعلان

لم يكتفِ غسان كنفاني بكتابة القصص للميس، بل كان يُضيف رسوماته عليها، ويهديها القصص بكتيب مزيّن بالرسوم والكلمات، موهبة غسان كنفاني في الرسم لا تقل عن موهبته في الكتابة، فلديه العديد من الرسومات التي وصل عددها إلى 36 رسمة منها رسوم لقصص الأطفال، أبرزها رسوماته لقصة “القنديل الصغير” التي عكست موهبته التي اتسمت بالبساطة والألوان البارزة والواضحة.

تحكي قصة “القنديل الصغير” عن وصية ملك لابنته أوصاها فيها أن تحمل الشمس وتدخلها إلى القصر بعد وفاته، لكي تتمكّن من الحصول على منصب ولقب أميرة القصر، وفي حال لم تستطع القيام بذلك سيكون مصيرها أن تقضي حياتها داخل صندوق مغلق، وبعد حصول الفتاة الصغيرة على الوصية تبدأ محاولاتها في إدخال الشمس إلى القصر، وبعد التفكير قرّرت الصعود إلى أعلى قمة الجبل علّها تستطيع أن تجلب الشمس وتحملها إلى القصر وتصبح الأميرة.

محاولات الفتاة لم تُجدِ نفعا بعد اكتشافها أن الشمس لا تزال بعيدة وأنها لن تستطيع أن تمسك بالشمس لأن الإنسان غير قادر على ذلك، ما جعلها حزينة، لذلك أغلقت باب غرفتها على نفسها وأخذت تبكي، وبعد يومين وجدت الصغيرة ورقة تحت باب غرفتها كُتِب فيها: “لن تستطيعي أن تجدي الشمس في غرفة مغلقة”(1). بعد هذه الرسالة الصغيرة قرّرت أن تستمر في محاولاتها.

يحاول رجل عجوز أن يساعد الفتاة على إدخال الشمس، ولكن رجال القصر يمنعونه من الدخول إلى القصر، فيصيح بأعلى صوته حتى تسمعه الفتاة التي كانت تُنصت وتتابع ما يحدث في الخارج من داخل غرفتها، “قولوا لها إنه إذا لم يكن بوسع إنسان عجوز أن يدخل إلى قصرها فكيف تطمح أن تدخل الشمس إليه؟”(1)، وبعد أيام من انتظار الصغيرة عودة الرجل العجوز، تطلب من رجال القصر البحث عن العجوز، فيخرج الرجال في المساء حاملين القناديل الصغيرة محاولين إيجاده.

تنتظر أمام نافذة غرفتها، وإذ بها ترى الرجال قادمين يحملون القناديل الصغيرة المضيئة، كان عدد الرجال كبيرا ولم يتمكّنوا من دخول القصر لأن أبوابه صغيرة جدا، لذلك طلبت الأميرة أن يهدموا الأسوار العالية كي يتيسر عليهم الدخول إلى القصر، فتحولت الباحة إلى قرص مشع بالنور بسبب القناديل الصغيرة، ومن بعدها بدأت تشرق الشمس وتدخل أشعتها الى القصر، فأدركت الأميرة أن الأسوار العالية هي التي كانت تحجب أشعة الشمس وتمنعها من دخول القصر.

أراد غسان كنفاني لأطفال فلسطين ألّا يستسلموا وألّا يتوقفوا عن المحاولة، أراد للميس ولأطفال العالم ألّا يتخلّوا عن أحلامهم، فالحقيقة قريبة جدا والنور سيأتي إليهم إذا فتحوا شبابيك قلوبهم وأبوابها. كتب لهم قصة “القنديل الصغير” حتى يُدركوا أن الجدران التي نبنيها من حولنا والسجن الذي نضع أحلامنا وأفكارنا داخله لن يرينا الشمس مهما حاولنا، علينا العمل، فالسعادة والجمال والأحلام والوطن تحتاج منا إلى العناية والإيمان.
لميس وغسان كنفاني

رحل غسان كنفاني ولميس معا، فارقت لميس الحياة وهي في عمر الـ 18 إلى جانب كنفاني في سيارة مفخخة على يد عملاء للاحتلال الإسرائيلي في بيروت عام 1972. رحلا معا ولكن قصتهما بقيت، حكاية الخال والصغيرة “القنديل الصغير” أضاءت شعلة لم تنطفئ، هذه القصة التي كرّست علاقة الاثنين أصبحت واحدة من القصص التي غيّرت في نفوس الكثيرين ونظرتهم للحياة، القصة التي كتبها كنفاني لتكبر مع لميس كما ذكر في نص الإهداء: “بعد كل هذه السنين يبدو لي أني عرفت من أنا، أخيرا، من أنا وأين طريقي.. ولذلك فإنني لن أستطيع أن أكتب لك شعرا لأنني لست شاعرا.. ولا مقالا لأنني لست كاتب مقال.. وكي أحافظ على وعدي لك وهديتي إليك قررت أن أكتب لك قصة، فمهنتي أن أكتب قصة… وسوف أكتب لك واحدة اسمها القنديل الصغير، تكبر معك كلما كبرت…”.
الطفل في رواية غسان كنفاني

الطفولة في كتابات غسان كنفاني الروائية تبدو أكثر قربا للواقع والمعاناة التي عاشها أطفال فلسطين في عام النكبة وبعدها، بحيث تغيب تلك الروح الطفولية التي تنطوي عليها كتاباته القصصية للأطفال، ففي روايته “عائد إلى حيفا” التي تحدّث فيها عن حياة سعيد وصفية بين الماضي فترة خروجهما من حيفا في عام النكبة، والحاضر في طريقهما إلى حيفا، يتقلبان بين ذكرياتهما ومأساتهما الكبرى ابنهما خلدون.

يترنح سعيد وصفية بين الفراق والعودة إلى مدينتهما حيفا، مثقلين بألم رافقهما كل تلك الفترة وكبر معهما يوما بعد يوم، ألمهما لفقدان ابنهما الذي تركته صفية وحيدا في سريره داخل منزلهما في حي الحليصة وخرجت تبحث عن زوجها سعيد أثناء هجوم العصابات الصهيونية على مدينة حيفا، وبعد أن عثرت على سعيد، لم يتمكنا من العودة إلى المنزل لأخذ صغيرهما خلدون بسبب إغلاق الطرق وتدافع الناس التي تحاول الهرب والنجاة. بقي خلدون الطفل الصغير في سريره خائفا ووحيدا، يسمع الضجيج في الخارج، وينتظر عودة والديه إليه، ليلعبا معه ويغمرناه بالعاطفة والحب، كأي طفل في العالم يريد أن يعيش بأمان في بيته الصغير في حي الحليصة في مدينته حيفا مع والديه. لكن هذه لم تكن حال خلدون الصغير وحده، إذ فقد الكثير من الأطفال آباءهم وأمهاتهم خلال تلك الفترة، فالنكبة بالنسبة لهؤلاء الأطفال كانت نكبتين، فقدان الأرض وفقدان العائلة، وفي حالة خلدون كانت فقدانا للهوية أيضا.

بعد فتح المعابر والطرقات بين المناطق والمدن الفلسطينية، قرّر سعيد وصفية العودة إلى حيفا، حالمين برؤية خلدون وبعودته إليهما بعد أكثر من عشرين سنة. “إني أعرفها، حيفا هذه، لكنها تنكرني”(2)، بهذه العبارة وصف سعيد مشاعره بعد وصولهما على مشارف حيفا، وفي الحقيقة لم تنكره حيفا وحدها، بل نكره ولده خلدون أيضا الذي أصبح اسمه “دوف” بعد أن عاش مع عائلة إسرائيلية وأصبح واحدا من جيش الاحتلال، أصبح واحدا من العدو، من الذين سلبوه حقه بأن يعيش حياة طبيعية مع عائلته بحرية وأمان.

ضاع الطفل خلدون عن هويته، ضاع عن تاريخه وعن الحقيقة، كبر مع من أخذوا منه أهم ما يملكه الإنسان؛ الوطن والعائلة. أراد غسان كنفاني في روايته “عائد إلى حيفا” أن يحكي قصة الأطفال الذين لم يعرفوا فلسطين من عيون أصحابها، قصة الأطفال الذين تُرِكوا وحدهم في أَسِرّتهم لأن الاحتلال سرق منهم عائلاتهم، الأطفال الذين وضعهم الاحتلال في الجانب الآخر ضد أنفسهم وأرضهم وتاريخهم، ليعيشوا حالة من التذبذب وضياع الهوية طوال حياتهم.

يسأل سعيد زوجته صفية بعد لقائهما وحديثهما مع ولدهما خلدون “دوف”: “أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟”(2) ويجيب: “الوطن هو ألا يحدث ذلك كله”(2)، الوطن هو أن يعيش الأطفال طفولتهم، أن يكبروا مع عائلاتهم على أرض واحدة في بيت واحد، وأن ينسجوا أحلامهم الصغيرة من دون خوف.
أطفال غسان كنفاني

نقل غسان كنفاني ذاكرته عن فلسطين وتمسُّكه بالقضية إلى زوجته آني كنفاني دنماركية الأصل التي عاشت حياتها في سبيل القضية. فبعد وفاة غسان كنفاني عملت على توسيع معرفتها والتعمق في تاريخ فلسطين والقضية، وأخذت تحصد ما زرعه غسان فيها من حب لوطن عرفته من خلاله ورسمت ملامحه في الصورة التي كان يصف بها غسان كنفاني بلاده وأرضه ومدينته وتاريخه وأهله.
غسان كنفاني وزوجته آني

كثيرا ما كان يردد غسان كنفاني: “الأطفال هم مستقبلنا”، فقد كان يؤمن أن الكفاح طويل وصعب، وأنه لن يعيش ليعود إلى الوطن، لكنه آمن أن الجيل الجديد من أطفال فلسطين سيحقق حلم العودة، الأمر الذي دفع آني كنفاني إلى تأسيس “مؤسسة غسان كنفاني” في الذكرى الثانية لاستشهاده، والتي تُعنى بالأطفال بشكل خاص، الأطفال الذين سيحملون القضية، وسيكملون مسيرة غسان كنفاني في النضال.

يغني أطفال غسان كنفاني “ليمون وزهرة وردة جورية.. انتِ يا أرضي غالية عليي.. غالية بأحلامي.. غالية بأيامي.. غسان علمنا حب القضية”. غسان كنفاني مهّد الطريق للأطفال، وزرع أشجار البرتقال والزيتون واللوز على أرصفته، أخبرهم أن الطريق صعب، ولكن الوطن يستحق التعب والتضحية من أجله، حثهم على الخروج من غرفهم الصغيرة ليكتشفوا العالم، أشار إلى الشمس، التي ستشرق من بين أناملهم الصغيرة وترافقهم في دربهم الطويل، إلى الحق.

_________________________________ رنا زيدان للجزيرة _________________
المصادر:

غسان كنفاني، قصة القنديل الصغير.
غسان كنفاني، رواية عائد إلى حيفا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى