ترجمة المرحوم العلامة محفوظ ولد المرابط

altقدر لي أن أتابع دراستي الجامعية بالمغرب وان أتعرف علي جهابذة القانون المغربي من أمثال الدكاترة ادريس العلوي العبدلاوي – احمد الخمليشي – شكري السباعي – جلال السعيد- محمد معتصم , وكنت كلما امتعضت من خلو الساحة القانونية الموريتانية من أمثال أولئك , أجابني احدهم انه محفوط فكان النجاح في مسابقة القضاء و التتلمذ علي الفقيد ,لكنها مدة لم تطل أكثر من سنتين وليتها طالت ,إلا أنها كألف سنة مما تعدون.

ولد المرحوم محفوظ ولد حمودي ولد المرابط حوالي 1947 بضواحي مدينة لعيون من أسرة معروفة بالفتوى و القضاء .

التحق الفقيد بسلك القضاء 1970 وعين رئيسا لمحكمة مقاطعة جكني التي غادرها نحو الديار المغربية سنة 1974 ليحصل منها علي شهادة المدرسة الوطنية للإدارة و الإجازة من كلية الحقوق .

وبعد عودته عين قاضيا في ألاك و بعدها مستشارا في المحكمة الإسلامية فالمحكمة العليا فنائبا لرئيسها .

وبعد انقلاب 1984 عين لفترة وجيزة مستشارا في رئاسة الجمهورية وفي سنة 1985 عين وزيرا للعدل و التوجيه الإسلامي وبعد ذلك وزيرا للصناعة و المعادن ثم سفيرا في المغرب و قطر .

وفي سنة 1996 عين رئيسا للمحكمة العليا و بعدها رئيسا للمجلس الإسلامي الاعلي مرتين حتى أحيل للمعاش سنة 2012 والفقيد خبير بقواعد الفقه المالكي حافظ لجميع متونه فهو حسب العلامة عبد الله بن بيه أحد أهم العارفين بالفقه المالكي في منطقة الغرب الإسلامي , وقد كان رحمه الله حافظا شديد الإعجاب بمختصر الشيخ خليل و طريقة في الاختصار و التعريف , وهو في ذلك يفوق ابن عرفة في حدوده حسب الفقيد.

وبجانب معرفته الدقيقة بفقه المذاهب الإسلامية فقد كان حريصا علي العمل بالمذهب المالكي خاصة , فقد روي أنه لما حج إلي الديار المقدسة وقف عند ضريح مالك بن أنس و عاهده أن لا يعبد الله إلا علي مذهبه , كما وقف عند ضريح الإمام نافع فعاهده أن لا يقرأ القرآن إلا علي روايتي ورش أو قالون .

وقد ذكر مرة انه لما عين سفيرا في دولة قطر اختارته الجالية الموريتانية لها إماما فاستغرب احدهم من أن الراحل لا يقبض في صلاته فأجابه ” ذاك ياسير من سوء الغيبة نمشي عن أهل فلعيون نرجع لهم مشكرف ” .

وقد سعي الفقيد بكل ما أوتي من قوة إلي اسلمة القوانين الموريتانية و تحكيمها , كما كان يكره القانون التجاري و يصفه بانه قانون الربويات , وقد سمعته مرة يرد علي أحد طلابه حول التناقض المزعوم بين مبدأ الشرعية المكرس في المادة 4 من القانون الجنائي الموريتاني التي تنص علي أن لا جريمة ولا عقوبة إلا بمقتضي نص ” و المادة 449 التي تنص علي أن “كلما لم يرد في هذا النص يرجع فيه في الشريعة الإسلامية ” فأجابه بان مقتضي النص ليس هو النص وعد علي ذلك أدلة قوية .

وقد استاء الفقيد أيما استياء عندما علم بتطاول البعض علي أمهات المذهب المالكي و حرقها , وقد استضافته التلفزة الموريتانية في حلقة مميزة عن الخطورة الجرمية لهذا الفعل وهو البعيد دوما عن الأضواء ,الموثر للمدرجات وقاعات الدرس علي البلاتوهات .

إلا أنه رغم ذلك كله لم يعتبره ردة , فالردة حسب صاحب المختصر ” كفر المسلم بصريح أو لفظ يقتضيه او فعل يتضمنه كالقاء مصحف بقذر و سحر وقول بقدم العالم او بقائه ” واذكر مرة اني عبرت له عن خشيتي و استغرابي علي النص الجنائي من اضافة البعض اليه جرائم جديدة و منها حرق الكتب وهو المليء اصلا فاجاب بتهكم ” ذاك العلم ” وحدث أن سأل مر ة عن المادة 306 من القانون الجنائي الموريتاني التي تنص على تجريم انتهاك حرمات الله فقال بخفة دمه المعهودة” ذيك المكزينة”.” وأضاف “ذيك مديورة للقضاة لمقدجين”.

والفقيد بالإضافة إلى معارفه الشرعية واللغوية والتاريخية الرصينة ، فهو أحد عمالقة الفكر القانوني العارفين بخفاياه الداركين بمقاصده، فهو أحد المتضلعين بالقانون الجنائي الموضوعي و الإجرائي ، فكثير ما كان ينصحنا بقراءة كتب ” المشكلات العلمية الهامة في الإجراءات الجنائية ” و “جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال” للدكتور رءوف عبيد، وكثيرا ما استشهد بمقولته أن ” الحكم هو عنوان الحقيقة إن لم يكنها” وكثيرا ما أبدى إعجابه بمقولته حول القيمة الإثباتية للتكنولوجيا بأن ” العلم أصبح يكذب العلم “.

وفي ما يخص القانون المدني فقد أبدى إعجابا منقطع النظير بعلامة المغرب الدكتور إدريس العلوي العبدلاوي الذي سبق أن أعطاه نقطة 19 /20 في مادة القانون المدني في كلية الحقوق الرباط، كما أبدى إعجابه الكبير بقيه القانون مأمون الكزبري الذي ذكر أنه هجر كتبه بمجرد اطلاعه على فقيه مصر عبد الرزاق السنهوري وتحفته الرائعة ” الوسيط في شرح القانون المدني”، وهو بذلك يذكرني بمحمد عابد الجابري الذي ذكر أنه هجر ابن خلدون بمجرد اطلاعه على ابن رشد.

فقد كان الفقيد كذلك شغوفا بكتب الدكتور أحمد أبوالوفاء في تعليقه على نصوص قانون الإثبات بل أنه شبهه بالطريقة المحظرية في تعليقه على النصوص.

أما القانون الشكلي فلا يشق له فيه غبار، فقد نال الإعجاب مرة عند ما ذكر في مذكرة قانون الإجراءات المدنية (ويفرق بين الدعوى وما يشبهها أن الخبر إذا كان فيه نفع لقائله وضرر لغيره فهو دعوى وإذا كان فيه ضرر لقائله ونفع لغيره فهو إقرار، وإذا لم يكن فيه نفع وضرر لقائله وفيه نفع وضرر لغيره فهو شهادة وإذا لم يكن فيه نفع ولا إلزام وفيه بيان لحكم عام فهو فتوى، أما الحكم فليس خبرا وإنما هو إنشاء). وبسبب علمه الدقيق ومعرفته بخفايا الإجراءات يتمثل إليك أنها أصبحت قانونا موضوعيا بسبب الشرح والتعديل الذي يعطيه لها والذي يزيل عن القارئ كآبة وسأما قوانين الإجرائية.

وقد كان الفقيد أحد القضاء النادرين فهو الوحيد الذي تدرج عبر جميع الوظائف القضائية من كاتب ضبط إلى مدع عام ثم رئيس للمحكمة العليا فوزيرا للعدل.

فقد أبدى إعجابه للكثير من القضاة الذين عايشوه على رأسهم المرحوم العلامة محمد سالم ولد عدود الذي كان نائبا له في المحكمة العليا، وقد كان يغلب عليه حسب الفقيد ورع العلماء وتنقصه صرامة القضاة، وبيه ولد السالك وعبد الله ولد بيه و كواد ولد أحمد بنان والنين ولد المقري ، عبد الله ولد أعل سالم الذي اعتبره علامة في الحفظ ومولاي أعل ولد مولاي أعل وأحمد ولد إسلم في كتابهما حول قانون الإجراءات الجنائية الجديدة (لوكان اسلك من أشوي من التجلاج، في إشارة إلى تزامن نشره مع استقالتهما من القضاء)، ومن الطلبة القضاة خي ولد أحمدو وهارون ولد اديقبي، ومن المحامين الأستاذ النعمة ولد أحمد زيدان الذي أعجب برفضه تقنين سقوط الحدود الشرعية بالتقادم وبالتالي رفضه لانجاز مشروع قانون الإجراءات الجنائية والأستاذ سيد المختار ولد سيدي.

وهو مع ذلك كله كان دمث الأخلاق حسنها متواضعا لحد أنه رفض أن يتصف بكلمة الشيخ، فقد ذكر مرة أنه سأل في إحدى الندوات العلمية الهامة عن الفرق بين العلامة والفقيه فأجاب بأن العلامة هو حمدا ولد التاه والفقيه هو إسلم ولد سيد المصطف أما أنت؟ فأجاب أنا قاض وهذا يكفيني، كما كان الفقيد أحد المتصوفة العارفين بالله ، فقد ذكر مرة إعجابه بالطريقة القادرية وخصوصا الولي الصالح الشيخ سيد المختار الكنتي.

وقد زرته مرة إثر وعكة صحية عارضة، فقد لاحظت أنه محاط بالكثير من الكتب وأعداد قديمة من الجريدة الرسمية ومن بينها الوسيط في شرح القانون المدني للسنهوري في جزئه الثاني المخصص للإثبات وآثار الالتزام، والحق أن بين الشخصين شبه كبير فكلاهما تولى القضاء العالي في دولته وكلاهما حبس بسبب نظام قمعي متهاو، ومحفوظ كالسنهوري تماما فأنت عندما تقرأ له الوسيط في شرح القانون المدني تجده وقد استفاض في شرح مصادر الالتزام وآثاره والإثبات والتأمينات الشخصي منها والعيني، وتمييز العقد عن الإرادة المنفردة والغلط عن السبب والعقد عن الاتفاق تظنه لا يباري في القانون المدني الفرنسي والروماني، ولكن هذه الحقيقة تختفي بمجرد قراءة مصادر الحق في الفقه الإسلامي.

فرحم الله فقيد الشريعة والقانون

وإنا لله وإنا إليه راجعون.

اللهم تقبل روحه الطاهرة بقبول حسن وارزقه الجنة التي وعدت بها عبادك الصالحين.

بقلم القاضي محمد فاضل ولد الامام

( ألقيت في التأبين الذي أقامه الطلبة القضاة بفندق وصال بتاريخ 22/05/2013)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى