رتدادات سقوط “الجدار” / إسلكو أحمد إزيد بيه

الزمان أنفو ـ

١-“النصر على طريقة بيريس”
طبقا لنمط تفكير سائد، فإن الحرب العالمية تتميز بصدام عسكري رأسي وشامل ومرير بين القوى الرئيسية في العالم، كما حصل مثلا في النصف الأول من أربعينيات القرن الماضي. فبتركيز هذه القوى على مجهوداتها الحربية الميدانية، يتضرر إنتاج السلع والخدمات و تتراجع التبادلات التجارية بين الدول وينكمش الاقتصاد العالمي، فتشعر البشرية جمعاء بالضجر والقلق حيال الضائقة المادية الحتمية، خاصة في العصر الحالي، عصر “القرية الكونية” والترابط المكثف. فضحايا أية حرب معاصرة لا تقتصر على من سقطوا في ساحات القتال أو من شردوا منها، بل قد تكون هذه الضحايا أكثر عددا في مناطق الهشاشة الاقتصادية البعيدة من مسرح الأحداث والآمنة “عملياتيا”؛ فالنصر في الحروب اليوم، مهما تكن جهته،  لا يخلو من مرارة الهزيمة الجماعية.
لقد أسهم توازن الرعب الذي أفرزته حادثتا “هيروشيما” و”نگازاكي” المأساويتان في التقليل من احتمال اندلاع حرب عالمية بالمعنى التقليدي، في وقت واصلت فيه الصناعات الحربية التطور كما وكيفا في أكثر من بلد. ومما زاد الطين بلة المنافسة الاقتصادية والتجارية الشرسة التي واجهها الغرب الليبرالي من طرف دول تاهت لعقود من الزمن في الفلك الاشتراكي-الشيوعي.  فسقوط “جدار برلين” (1989)، شكل بالفعل نصرا لليبرالية الاقتصادية،  لكن هذا النصر حدث في الصين والهند وروسيا وأندنوسيا!… وخلافا لما تصوره بعض المفكرين الغربيين “نهاية التاريخ”، فسقوط هذا الجدار شكل بداية مسلسل تراجع اقتصادي لأوروبا الغربية وآمريكا الشمالية، لصالح بلدان مثل الصين والهند والبرازيل نجحت بسرعة مذهلة في مضاعفة أعداد طبقاتها الوسطى أضعافا مضاعفة، ضامنة بذلك استقرارها السياسي على المدى القريب والمتوسط. وحال حجم هذه الدول وامتلاك بعضها للردع النووي وتشابك مصالحها الاقتصادية مع مصالح الدول الغربية، دون التفكير في غزوها أو استعمارها، كما حصل في الماضي.
لقد حرر “النصر على طريقة بيريس” فيما عرف بالحرب الباردة طاقات شعوب رزحت لفترة طويلة تحت نير الإديولوجيا العمياء، فغيرت هذه الشعوب وجه العالم وتوازناته إلى حد قد يتساءل معه اليوم عقلاء الغرب : ليتنا أبقينا على جدار برلين!…

٢- “عقدة” السلاح
تعامل الغرب بعقلانية مع واقع ما بعد الحرب الباردة : قوة عسكرية هائلة وباهظة التكاليف، بمراكزها البحثية المتقدمة ومصانعها المتطورة وعمالتها المتخصصة بمئات الآلاف وسلاسل إمداداتها المركبة ولوبياتها القوية ووسطائها الماهرين، من جهة، وتراجع اقتصادي وتجاري متواصل، من جهة أخرى. فبدون حروب مدمرة تليها عمليات إعمار واسعة ومكلفة، لا يمكن للصناعات الحربية أن تنتعش وتستمر، كما أنه من الصعب تصور آلية سلمية وتفاوضية للقضاء على هذه المصالح الضخمة، إلا إذا حدثت ثورات في الغرب تطيح بنمط الاستهلاك الفردي المسرف والمدمر للبيئة. وفي اعتقادي أن بعض الدول الغربية استهدفت سياسيا وعسكريا مناطق إنتاج الطاقة والصناديق السيادية الأضخم عالميا، عبر نزاعات بينية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، لإنقاذ صناعاتها الحربية ؛ وآثرت بعض هذه الدول الإبقاء على “فزاعة” سياسية، رغم سهولة تحييدها، استدرارا لصفقات الأسلحة من دول آسيوية متطورة اقتصاديا لديها هواجس أمنية تاريخية ؛ وأهانت وأسقطت أحكاما بعينها كدرس لمن قد يفكر في مناهضة مخططاتها وطموحاتها في آمريكا اللاتينية. إلا أن شراسة المنافسة (حتى بين أقرب الحلفاء: الصفقة الأخيرة للغواصات الأسترالية) وتزايد العرض في مجال التسليح، حالا دون إيجاد حل مستديم لتمويل “المركب الصناعي الحربي”.
لا أعتقد أن دولا متطورة اقتصاديا تعودت على دفع ثمن استقرارها السياسي من خلال العناية بطبقة وسطى عريضة وتمويل “غطاء” اجتماعي شامل ومكلف، ستقبل بسهولة أن تتلاشى اقتصاديا واجتماعيا ولديها أسلحة فتاكة -بما فيها النووية- تخولها الهيمنة السياسية  على مناطق غنية وشبه-عزلاء من المعمورة، والاستحواذ على مقدراتها الاقتصادية، خاصة بعد أن فاقمت الأزمة الصحية الحالية الاختلالات البنيوية  (المديونية، العجز التجاري، التضخم، البطالة…) في اقتصاديات بعض هذه الدول. فالغرب الذي دمر العراق وليبيا وسوريا بحجج واهية، لا يقبل اليوم لروسيا أن تقوم بنفس المغامرة في أوكرانيا ؛ فهذه الخطيئة الروسية تسلط ضوءا كاشفا على التناقضات الأخلاقية (الانتقائية في استقبال اللاجئين وفارق المساعدة الإنسانية للمناطق المتضررة من مختلف الحروب) والسياسية (الكيل بمكيالين)، كما تحد نظريا من مصداقية التغطية الدعائية على مبادرات غربية مشابهة  في المستقبل.
وإذا كان الاتحاد السوفيتي قد انهار كقصر من ورق ودون طلق ناري واحد، رغم قوته العسكرية الهائلة، فلأسباب منها الاستبداد السياسي والفشل الاقتصادي وغياب “عقد” متوازن -ولو ضمني- بين الحكام والمحكومين.

٣- “بين إبط ومرفق”
لم تحُلْ بلقنة العالم العربي على يد القوى الاستعمارية الأوروبية دون ظهور تيارات سياسية (بالمعنى المعاصر) جامعة: التيار الإسلامي (بشقيه السلفي والإخواني)، التيار الوطني (بشقيه الناصري والبعثي) والتيار اليساري (بشقيه الاشتراكي والشيوعي)، مع بعض التقاطعات الإديولوجية والتنظيمية بين هذه التيارات الرئيسية. ولم يعرف الفكر الليبرالي مناصرة تذكر داخل النخب السياسية العربية، لأسباب سياسية.
لقد ظل التيار الإسلامي، خلال الحرب الباردة، أقرب من المعسكر الغربي منه إلى المعسكر الشيوعي، رغم السياق التاريخي وعلمانية الغرب المعلنة ورفعه شعار حرية المعتقد في تناقض مع بعض المسلكيات المناوئة للإسلام. فالإسلام السياسي العربي فضل العلمانية الغربية على الإلحاد الشيوعي، على الرغم من التركة الاستعمارية المريرة ؛ ولا أدل على ذلك من التحالف المرحلي للفريقين ضد الوجود السوفياتي في أفغانستان.
أما التيار القومي العربي فقد اختار الاصطفاف خلف “حلف وارسو”، لرفع هذا الأخير شعار التحرر من قبضة الاستعمار ولمواقفه الأقل دعما للمشروع الصهيوني في فلسطين وانسجاما مع منطق تاريخي أفرزه التوغل الإسلامي في القارة الأوروبية والحروب الصليبية والحملات الاستعمارية والاستعمار الاستيطاني في فلسطين وإرهاصات التحرر والاستقلال. لقد استطاع هذا التيار الوصول إلى السلطة في عدة دول عربية، بطرق غير ديمقراطية.
أما التيار اليساري العربي، فظل يراوح الهوامش السياسية لأسباب ثقافية.
لم يستفد أي تيار سياسي عربي من سقوط جدار برلين، بل تضررت منه جميعها ولو بدرجات مختلفة ؛ وفي اعتقادي، أن التيار الإسلامي (الإخواني) كان بوسعه أن يكون المستفيد السياسي العربي من نهاية الحرب الباردة، لو اعتمد قاعدة “ما لا يدرك كله لا يترك جله”، فدافع بوضوح عن الحد الأدنى من القيم الديمقراطية ونبذ العنف المدني ونأى بنفسه عن مناورات بعض الأوساط الشعوبية الغربية، خاصة ما سمي ب-“الربيع العربي”.
ومقارنة ببعض مناطق العالم (الهند، الصين، اليابان، كوريا الجنوبية، البرازيل، ماليزيا، سنغافورة…)، يمكن الجزم اليوم بأن التجربة السياسية العربية الحديثة لم تفرز أية من مقومات المعاصرة: التعددية السياسية أو حرية المبادرة الاقتصادية أو هما معا؛ لم تحزَّ هذه التجربة في أحد مفصلي الحرية، فكما نقول بالعامية خرجت من “بين إبط ومرفق”. ومن الوجيه أن يثير البعض السياق التاريخي والجغرافي للعالم العربي بالنسبة لأوروبا الغربية، كعامل رئيسي في وأد جهود عصرنة المجتمع العربي، إلا أن المقارنة من جديد مع بعض مناطق العالم التي واجهت تحديات مماثلة، تضفي نسبية حقيقية على هذه الحجة ؛ ولعله كان بالإمكان -ولا يزال كذلك- العملُ السياسي الواعي على تطوير الجيرة المعقدة مع أوروبا إلى رافعة  للأمن والنماء في العالم العربي، في إطار توازن دولي جديد بين الفضاءات الثقافية الرئيسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى